( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون . وقالوا : أآلهتنا خير أم هو ? ما ضربوه لك إلا جدلاً . بل هم قوم خصمون . إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل . ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون . وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون ، هذا صراط مستقيم . ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ) . .
( ولما جاء عيسى بالبينات قال : قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه ، فاتقوا الله وأطيعون . ان الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . فاختلف الأحزاب من بينهم ، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم . . )
ذكر ابن إسحاق في السيرة قال : جلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى أفحمه . ثم تلا عليه وعليهم( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) . . الآيات . . ثم قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأقبل عبدالله بن الزبعري التميمي حتى جلس . فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ! وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم . فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته . سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ? فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد المسيح ابن مريم . فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبدالله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم . فذكر ذلك لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده . فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) . . أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه يعبد من دون الله ، وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته : ( ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون ) . . أي يصدون عن أمرك بذلك . . .
وذكر صاحب الكشاف في تفسيره : " لما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على قريش : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم )امتعضوا من ذلك امتعاضاً شديداً . فقال عبدالله بن الزبعري : يا محمد . أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم ? فقال عليه السلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " فقال : خصمتك ورب الكعبة ! ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي ، وتثني عليه خيراً وعلى أمه ? وقد علمت أن النصارى يعبدونهما ? وعزير يعبد ? والملائكة يعبدون ? فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ! ففرحوا وضحكوا . وسكت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأنزل الله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى )ونزلت هذه الآية . والمعنى : ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً ، وجادل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعبادة النصارى إياه " إذا قومك " - قريش - من هذا المثل " يصدون " ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحاً وجذلاً وضحكاً بما سمعوا من إسكات رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بجدله ، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعبوا بحجة ثم فتحت عليهم . وأما من قرأ " يصدون " بالضم فمن الصدود . أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه . وقيل : من الصديد وهو الجبة . وأنهما لغتان نحو يعكُف ويعكِف ونظائر لهما .
يصدون : يصيحون ويرتفع لهم ضجيج وفرح .
57- { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } .
ضرب عبد الله بن الزبعري المثل بعيسى ، حيث إنه يعبد من دون الله ، وعزير تعبده اليهود ، ومن العرب من عبد الملائكة ، وقال : إنهم بنات الله .
قال ابن الزبعري : إن كانت الملائكة وعزير وعيسى ابن مريم في النار ؛ فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم انتظارا للوحي ، فظنوا أنه ألزم الحجة ، فضحك المشركون وضجوا وارتفعت أصواتهم .
وأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } . ( الأنبياء : 101 ) .
أي : عزير والملائكة وعيسى في الجنة مبعدون عن النار ، ونلاحظ أن القرآن عندما أشار إلى أن من عبد صنما أو وثنا من دون الله أدخل العابد والمعبود إلى جهنم ، قال : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } . ( الأنبياء : 98 ) .
فالقرآن هنا يتحدث عن الأصنام ، لأن هناك قاعدة في اللغة العربية تقول : إن ( من ) اسم إشارة للعاقل ، و( ما ) اسم إشارة لما لا يعقل ، فالقرآن قال : { إنكم وما تعبدون . . . } أي أن القرآن لم يرد المسيح ولا عزيرا ولا الملائكة ، وإن كانوا معبودين .
ثم إن الملائكة عباد مكرمون ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وعيسى عبد الله ورسوله ، أنعم الله عليه بالرسالة والمعجزات ، وعزير رجل صالح من بني إسرائيل ، ركب حماره وسار وسط قرية قديمة متهالكة ، قبورها دارسة ، قد أدركها البلى والقدم والتآكل ، فاستبعد عليها البعث والحياة مرة أخرى ، فأماته الله مائة عام ثم بعثه ، وأطلعه على بعث حماره ، وحفظ طعامه طوال مائة عام ؛ 12 فقال : { أعلم أن الله على لك شيء قدير } . ( البقرة : 259 ) .
عندما حاول عبد الله بن الزبعري أن يضرب مثلا بعيسى ابن مريم ، قائلا : إذا كان عيسى ابن مريم في جهنم لأنه عُبد من دون الله ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، عندئذ فرح كفار مكة بذلك ، واشتد صدودهم وإعراضهم .
{ إذا قومك منه يصدون } . أي : يضحكون ، أعجبوا بذلك .
وقال قتادة : يجزعون ويضحكون ، أي : صنعوا ضجة وفرحا وضحكا لزعمهم أنهم انتصروا على محمد في الجدال .
{ إذا قومك منه يصدون } . أي : يعرضون .
ولعل من إعجاز القرآن اشتمال الآية على المعنيين : فهم سخروا وضجوا وضحكوا من جهة ، وأعرضوا عن الإسلام من جهة أخرى .
{ 57-65 } { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ }
يقول تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا } أي : نهي عن عبادته ، وجعلت عبادته بمنزلة عبادة الأصنام والأنداد . { إِذَا قَوْمُكَ } المكذبون لك { مِنْهُ } أي : من أجل هذا المثل المضروب ، { يَصِدُّونَ } أي : يستلجون في خصومتهم لك ، ويصيحون ، ويزعمون أنهم قد غلبوا في حجتهم ، وأفلجوا .
{ ولما ضرب ابن مريم مثلا } نزلت هذه الآية حين خاصمه الكفار لما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله } الآية فقالوا رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلة عيسى فجعلوا عيسى عليه السلام مثلا لآلهتهم فقال الله تعالى { ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون } أي يضجون وذلك أن المسلمين ضجوا من هذا حتى نزل قوله تعالى { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون }
لما قال تعالى : " وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " [ الزخرف : 45 ] تعلق المشركون بأمر عيسى وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم إلها ، قاله قتادة . ونحوه عن مجاهد قال : إن قريشا قالت إن محمدا يريد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى ، فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن عباس : أراد به مناظرة عبد الله بن الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عيسى ، وأن الضارب لهذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي حالة كفره لما قالت له قريش إن محمدا يتلو : " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " {[13655]} [ الأنبياء : 98 ] الآية ، فقال : لو حضرته لرددت عليه ، قالوا : وما كنت تقول له ؟ قال : كنت أقول له هذا المسيح تعبده النصارى ، واليهود تعبد عزيرا ، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنه قد خصم ، وذلك معنى قوله : " يصدون " فما نزل الله تعالى : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " {[13656]} [ الأنبياء : 101 ] . ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها ؛ لأنه قال : " وما تعبدون " ولم يقل ومن تعبدون وإنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل ، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإن كانوا معبودين . وقد مضى هذا في آخر سورة " الأنبياء " {[13657]} .
وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش : [ يا معشر قريش لا خير في أحد يعبد من دون الله ] . قالوا : أليس تزعم أن عيسى كان عبدا نبيا وعبدا صالحا ، فإن كان كما تزعم فقد كان يعبد من دون الله ! . فأنزل الله تعالى : " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك يصدون " أي يضجون كضجيج الإبل عند حمل الأثقال . وقرأ نافع وابن عامر والكسائي " يصدون " ( بضم الصاد ) ومعناه يعرضون ، قاله النخعي ، وكسر الباقون . قال الكسائي : هما لغتان ، مثل يعرشون ويعرشون وينمون وينمون ، ومعناه يضجون . قال الجوهري : وصد يصد صديدا ، أي ضج . وقيل : إنه بالضم من الصدود وهو الإعراض ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب . قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود عن الحق لكانت : إذا قومك عنه يصدون . الفراء : هما سواء ، منه وعنه . ابن المسيب : يصدون يضجون . الضحاك : يعجون . ابن عباس : يضحكون . أبو عبيدة : من ضم فمعناه يعدلون ، فيكون المعنى : من أجل الميل يعدلون . ولا يعدى " يصدون " بمن ، ومن كسر فمعناه يضجون ، ف " من " متصلة ب " يصدون " والمعنى يضجون منه .
فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر ، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به ، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة ، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه ، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا : { ولما ضرب ابن مريم } أي ضربه ضارب منهم { مثلاً } لآلهتهم { إذا قومك } أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه { منه } أي ذلك المثل { يصدون } أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض ، فيعرضون به عن إجابة دعائك ، يقال : صد عنه صدوداً : أعرض ، وصد يصد ويصل : ضج - قاله في القاموس ، فلذلك قال ابن الجوزي : معناهما جميعاً - أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها - يضجون ، ويجوز أن يكون معنى المضمومة : يعرضون ، قال ابن برجان : والكسر أعلى القراءتين - انتهى .