( وقالوا : ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، وما لهم بذلك من علم ، إن هم إلا يظنون ، وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا : ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين . قل : الله يحييكم ثم يميتكم ، ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .
هكذا كانوا ينظرون تلك النظرة القصيرة . الحياة في نظرهم هي هذا الشوط الذي يرونه في الدنيا رأي العين . جيل يموت وجيل يحيا ؛ وفي ظاهر الأمر لا تمتد إليهم يد بالموت ، إنما هي الأيام تمضي ، والدهر ينطوي ، فإذا هم أموات ؛ فالدهر إذن هو الذي ينهي آجالهم ، ويلحق بأجسامهم الموت فيموتون !
وهي نظرة سطحية لا تتجاوز المظاهر ، ولا تبحث عما وراءها من أسرار . وإلا فمن أين جاءت إليهم الحياة ؛ وإذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم ? والموت لا ينال الأجسام وفق نظام محدد وعدد من الأيام معين ، حتى يظنوا أن مرور الأيام هو الذي يسلبهم الحياة . فالأطفال يموتون كالشيوخ والأصحاء يموتون كالمرضى . والأقوياء يموتون كالضعاف . ولا يصلح الدهر إذن تفسيراً للموت عند من ينظر إلى الأمر نظرة فاحصة ، ويحاول أن يعرف ، وأن يدرك حقيقة الأسباب .
( وما لهم بذلك من علم . إن هم إلا يظنون ) :
يظنون ظناً غامضاً واهياً ، لا يقوم على تدبر ، ولا يستند إلى علم ، ولا يدل على إدراك لحقائق الأمور . ولا ينظرون إلى ما وراء ظاهرتي الحياة والموت من سر يشهد بإرادة أخرى غير إرادة الإنسان ، وبسبب آخر غير مرور الأيام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاّ الدّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنّونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم : ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات . كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا : أي لعمري هذا قول مشركي العرب .
وقوله : نَمُوتُ وَنحيْا ، نموت نحن وتحيا أبناؤنا بعدنا ، فجعلوا حياة أبنائهم بعدهم حياة لهم ، لأنهم منهم وبعضهم ، فكأنهم بحياتهم أحياء ، وذلك نظير قول الناس : ما مات من خلف ابنا مثل فلان ، لأنه بحياة ذكره به ، كأنه حيّ غير ميت ، وقد يحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : نحيا ونموت على وجه تقديم الحياة قبل الممات ، كما يقال : قمت وقعدت ، بمعنى : قعدت وقمت . والعرب تفعل ذلك في الواو خاصة إذا أرادوا الخبر عن شيئين أنهما كانا أو يكونان ، ولم تقصد الخبر عن كون أحدهما قبل الاخر ، تقدم المتأخر حدوثا على المتقدم حدوثه منهما أحيانا ، فهذا من ذلك ، لأنه لم يقصد فيه إلى الخبر عن كون الحياة قبل الممات ، فقدّم ذكر الممات قبل ذكر الحياة ، إذ كان القصد إلى الخبر عن أنهم يكونون مرّة أحياءً وأخرى أمواتا .
وقوله : وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، يقول تعالى ذكره مخبرا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا : وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر ، إنكارا منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم .
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله «وَما يُهْلِكُنا إلاّ دَهْرٌ يَمُرّ » . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، قال : الزمان .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، قال ذلك مشركو قريش ما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ : إلا العمر .
وذُكر أن هذه الاية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون : الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان ، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم ، وهم يرون أنهم يسبون بذلك الدهر والزمان ، فقال الله عزّ وجلّ لهم : أنا الذي أفنيكم وأهلككم ، لا الدهر والزمان ، ولا علم لكم بذلك . ذكر الرواية بذلك عمن قاله :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «كانَ أهْلُ الجاهِليّةِ يَقُولُونَ » : إنّمَا يُهْلِكُنا اللّيْلُ وَالنّهارُ ، وَهُوَ الّذِي يُهْلِكُنا ويُمِيتُنا ويُحْيينا ، فقال الله في كتابه : وَقالُوا ما هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا نَمُوتُ وَنحْيا ، وَما يُهْلِكُنا إلاّ الدّهْرُ ، قال : «فَيَسَبّونَ الدّهْرَ » ، فَقالَ اللّهُ تَبارَكَ وَتعَالى : «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبّ الدّهْرَ وأنا الدّهْرُ ، بيَدِي الأمْرُ ، أُقَلّبُ اللّيْلَ والنّهارَ » .
حدثنا عمران بن بكار الكُلاعي ، قال : حدثنا أبو روح ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهريّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، قال قال أبو هريرة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «قالَ اللّهُ تَعالى : يَسُبّ ابْنُ آدَمَ الدّهْرَ ، وأنا الدّهْرُ ، بِيَدِي اللّيْلُ والنّهارُ » .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَقُولُ اللّهُ اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُعْطِني ، وَسَبّنِي عَبْدِي يَقُولُ : وَادَهْراهُ ، وأنا الدّهْرُ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ قالَ : لا يَقُولَنّ أحَدُكُمْ : يا خَيْبَةَ الدّهْرِ ، فإنّي أنا الدّهْرُ ، أُقَلّبُ لَيْلَهُ وَنهارَهُ ، وَإذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُما » .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن أبي هريرة قال : «لا تَسُبّوا الدّهْرَ ، فإنّ اللّهَ هُوَ الدّهْرُ » .
وَما لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ ، يقول تعالى ذكره : وما لهؤلاء المشركين القائلين : ما هي إلاّ حياتنا الدنيا نموت ونحيا ، وما يهلكنا إلا الدهر ، بما يقولون من ذلك من علم : يعني من يقين علم ، لأنهم يقولون ذلك تخرّصا بغير خبر أتاهم من الله ، ولا برهان عندهم بحقيقته ، إنْ هُمْ إلاّ يَظُنّونَ ، يقول جلّ ثناؤه : ما هم إلا في ظنّ من ذلك ، وشكّ يخبر عنهم أنهم في حيرة من اعتقادهم حقيقة ما ينطقون من ذلك بألسنتهم .
هذا عطف على جملة { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } [ الجاثية : 21 ] أي بعد أن جادلوا المسلمين بأنه إن كان يبعث بعد الموت فستكون عقباهم خيراً من عقبى المسلمين ، يقولون ذلك لقصد التورك وهم لا يوقنون بالبعث والجزاء بل ضربوه جدلاً وإنما يقينُهم قولُهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا } .
وتقدم في سورة الأنعام ( 29 ) { وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } وضمير { هي } ضمير القصة والشأن ، أي قصة الخوض في البعث تنحصر في أن لا حياة بعد الممات ، أي القصة هي انتفاء البعث كما أفاده حصر الأمر في الحياة الدنيا ، أي الحاضرة القريبَة منا ، أي فلا تطيلوا الجدال معنا في إثبات البعث ، ويجوز أن يكون { هي } ضمير الحياة باعتبار دلالة الاستثناء على تقدير لفظ الحياة فيكون حَصْراً لجنس الحياة في الحياة الدنيا .
وجملة { نموت ونحيا } مبيّنة لجملة { ما هي إلا حياتنا الدنيا } أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي حياة هذا العالم لا غير فإذا مات من كان حيّاً خلفه من يوجد بعده . فمعنى { نموت ونحيا } يموت بعضنا ويحيا بعض أي يبقى حيّاً إلى أمد أو يولد بعد من ماتوا . وللدلالة على هذا التطور عبّر بالفعل المضارع ، أي تتجدد فينا الحياة والموت . فالمعنى : نموت ونحيا في هذه الحياة الدنيا وليس ثمة حياة أخرى . ثم إن كانت هذه الجملة محكية بلفظ كلامهم فَلَعَلها ممّا جرى مجرى المثل بينهم ، وإنْ كانت حكايَة لمعنى كلامهم فهي من إيجاز القرآن وهم إنما قالوا : يموت بعضنا ويحيَا بعضنا ثم يموت فصار كالمثل .
ولا يخطر بالبال أن حكاية قولهم : { نموت ونحيا } تقتضي إرادة نحيا بعد أن نموت لأن قولهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا } يصرف عن خطور هذا بالبال . والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً بين المتعاطفين في الحصول .
وإنما قدم { نموت } في الذكر على { ونحيا } في البيان مع أن المبيّن قولهم { ما هي إلا حياتنا الدنيا } فكان الظاهر أن يبدأ في البيان بذكر اللفظ المبيَّن فيقال : نَحيَا ونموت ، فقيل قُدّم { نموت } لتتأتى الفاصلة بلفظ { نحيا } مع لفظ { الدنيا } . وعندي أن تقديم فعل { نموت } على { نَحيا } للاهتمام بالموت في هذا المقام لأنهم بصدد تقرير أن الموت لا حياة بعده ويتبع ذلك الاهتمام تأتي طباقين بين حياتنا الدنيا ونموت ثم بين نموت ونحيا . وحصلت الفاصلة تبعاً ، وذلك أدخل في بلاغة الإعجاز ولذلك أعقبه بقوله تعالى : { وما لهم بذلك من علم } فالإشارة ب { ذلك } إلى قولهم { وما يُهلكنا إلا الدهر } ، أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل .
وأما زيادة { وما يهلكنا إلا الدهر } فقصدوا تأكيد معنى انحصار الحياة والموت في هذا العالم المعبر عنه عندهم بالدهر .
فالحياة بتكوين الخلقة والممات بفعل الدهر . فكيف يرجى لمن أهلكه الدهر أن يعود حيّاً فالدهر هو الزمان المستمر المتعاقب ليله ونهاره .
والمعنى : أحياؤنا يصيرون إلى الموت بتأثير الزمان ، أي حَدثانه من طول مدة يعقبها الموت بالشيخوخة ، أو من أسباب تفضي إلى الهلاك ، وأقوالهم في هذا كثيرة ومن الشعر القديم قول عَمْرو بن قميئة :
رَمَتْنِي بناتُ الدهر من حيث لا أرى *** فمَا بال من يُرمى وليس بِرَامِ
ولعلهم يريدون أنه لو تأثر الزمان لبقي الناس أحياء كما قال أسقف نجران :
منع البقاء تقلب الشمس *** وطلوعها من حيث لا تُمسي
فلما كان الموت بفعل الدهر فكيف يرجى أن يعودوا أحياء . وهذه كلمات كانت تجري على ألسنتهم لقلة التدبر في الأمور وإن كانوا يعلمون أن الله هو الخالق للعوالم ، وأما ما يجري في العالم من التصرفات فلم يكن لهم فيه رأي وكيف وحالتهم الأمية لا تساعد على ذلك ، وكانوا يخطئون في التفاصيل حتى يأتوا بما يناقض ما يعتقدونه ، ولذلك أعقبه بقوله تعالى : { وما لهم بذلك من علم } فإشارة ب { ذلك } إلى قولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } أي لا علم لهم بأن الدهر هو المميت إذ لا دليل على ذلك فإن الدليل النظري بَيَّن أن الدهر وهو الزمان ليس بمُميت مباشرةً وهو ظاهر ولا بواسطةٍ في الإماتة إذ الزمان أمر اعتباري لا يفعل ولا يؤثر وإنما هو مقادير يقدِّر بها الناس الأبعاد بين الحوادث مرجعه إلى تقدير حصة النهار والليل وحصص الفصول الأربعة ، وإنما توهم عامة الناس أن الزمان متصرف ، وهي توهمات شاعت حتى استقرت في الأذهان الساذجة .
والمراد بالظن في قوله : { إن هم إلا يظنون } ما ليس بعلم فهو هنا التخيل والتوهم وجملة { إن هم إلا يظنون } مبيّنة بجملة { وما لهم بذلك من علم } أو استئناف بياني كأنّ سائلاً حين سَمع قوله : { وما لهم بذلك من علم } سأل عن مستندهم في قولهم ذلك فأجيب بأنه الظن المبني على التخيل .
وجيء بالمضارع في { يظنون } لأنهم يجددون هذا الظن ويتلقاه صغيرهم عن كبيرهم في أجيالهم وما هم بمقلعين عنه .