ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية ، ليلقي عليها الضوء ، ويستعرضها واحدا واحدا ، وجزئية جزئية ؛ فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه ؛ والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه ، حين يكشف له في النور ؛ وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير :
( ثمانية أزواج : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين . قل : آلذكرين حرم أم الأنثيين ؟ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ! ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين . قل : آلذكرين حرم أم الأنثيين ؟ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل ؛ والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم ، هي ثمانية أزواج - وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عندما يكون مع رفيقه - زوج من الضأن وزوج من المعز . فأي منها حرمه الله على أي من الناس ؟ أم إنه حرم أجنتها في البطون ؟
( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) . .
فهذه الشئون لا يفتى فيها بالظن ، ولا يقضى فيها بالحدس ، ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } .
وهذا تقريع من الله جلّ ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام الذي بحّروا البحائر وسيّبوا السوائب ووصلوا الوصائل ، وتعليم منه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، الحجة عليهم في تحريمهم ما حرّموا من ذلك ، فقال للمؤمنين به وبرسوله : وَهُوَ الّذِي أنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغيرَ مَعْرُوشاتٍ ومن الأنعام أنشأ حمولة وفرشا . ثم بين جلّ ثناؤه الحمولة والفرش ، فقال : ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ وإنما نصب الثمانية ، لأنها ترجمة عن الحمولة والفرش وبدل منها كأن معنى الكلام : ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدّم قبل الثمانية الحمولة والفرش بين ذلك بعد ، فقال : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ على ذلك المعنى مِن الضّأْنِ اثْنَينِ وَمِنَ المعَزِ اثْنَيْنِ فذلك أربعة ، لأن كلّ واحد من الاثنين من الضأن زوج ، فالأنثى منه زوج الذكر ، والذكر منه زوج الأنثى ، وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان فلذلك قال جلّ ثناؤه : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ كما قال : وَمِنْ كلّ شيء خلقْنَا زَوْجينِ لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر ، فهما وإن كانا اثنين فهما زوجان ، كما قال جلّ ثناؤه : وَجعلَ مِنهَا زَوْجهَا لِيْسكُنَ إليهَا وكما قال : أمْسِكْ عليْكَ زَوْجكَ . وكما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى ، وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى .
ويقال للاثنين : هما زوج كما قال لبيد :
مِنْ كُلّ مَحْفُوفٍ يُظِلّ عِصِيّهُ ***زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلّةٌ وَقِرَامُها
ثم قال لهم : كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم ، واركبوا هذه الحمولة أيها المؤمنون ، فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرّم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك . قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما حرّموا من الحرث والأنعام ، اتباعا للشيطان من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرّم عليهم ما هم محرّمون من ذلك : آلذّكَرَيْنَ حَرّمَ ربكم أيها الكذبة على الله من الضأن والمعز ، فإنهم إن ادّعوا ذلك وأقرّوا به ، كذّبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم ، لأنهم إذا قالوا : يحرّم الذكرين من ذلك ، أوجبوا تحريم كلّ ذكرين من ولد الضأن والمعز ، وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها ، وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم . أمِ الأُنْثَيَيْنِ فإنهم إن قالوا : حرّم ربنا الأنثيين ، أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها ، وفي ذلك أيضا تكذيب لهم ، ودحض دعواهم أن ربهم حرّم ذلك عليهم ، إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره . أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ يقول : أم حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز فلذلك قال : أرحام الأنثيين . وفي ذلك أيضا لو أقرّوا به فقالوا : حرّم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، بُطُول قولهم وبيان كذبهم ، لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أن الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها ، وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها ، و«ما » التي في قوله : أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ نصب عطفا بها على «الأنثيين » . نَبّئُونِي بعِلْمٍ يقول : قل لهم : خبروني بعلم ذلك على صحته ، أيّ ذلك حرّم ربكم عليكم وكيف حرّم ، إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فيما تنحلونه ربكم من دعواكم وتضيفونه إليه من تحريمكم . وإنما هذا إعلام من الله جلّ ثناؤه نبيه أن كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله ، فهو كذب على الله ، وأنه لم يحرّم شيئا من ذلك ، وأنهم إنما اتبعوا في ذلك خطوات الشيطان ، وخالفوا أمره .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ . . . الاَية ، إن كلّ هذا لم أحرّم منه قليلاً ولا كثيرا ذكرا ولا أنثى .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قال : سلهم آلّذكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيْنِ أمّا اشْتَمَلْتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ : أي لم أحرّم من هذا شيئا . بِعلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فذكر من الإبل والبقر نحو ذلك .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ في شأن ما نهى اللهعنه من البحيرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : ثَمانِيَةَ أزْوَاج قال : هذا في شأن ما نهى الله عنه من البحائر والسيب . قال ابن جريج : يقول : من أين حرّمت هذا من قبل الذكرين أم من قِبَل الأنثيين ، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى ، فمن أين جاء التحريم ؟ فأجابوا هم : وجدنا آباءنا كذلك يفعلون .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَينِ وَمِنَ المَعْز اثْنَيْن وَمِنَ البَقَر اثْنَيْن وَمِنَ الإبِل اثْنَيْن ، يقول : أنزلت لكم ثمانية أزواج من هذا الذي عددت ذكر وأنثى ، فالذكرين حرّمت عليكم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ يقول : أي ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ما تشتمل إلا على ذكر أو أنثى ، فما حرّمت عليكم ذكرا ولا أنثى من الثمانية ، إنما ذكر هذا من أجل ما حرّموا من الأنعام .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن : أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْن قال : ما حملت الرحم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْن قال : هذا لقولهم : ما فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورنا ومُحَرّمٌ على أزْوَاجِنا . قال : وقال ابن زيد في قوله : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْن اثْنِينَ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ قال : الأنعام : هي الإبل والضأن والمعز ، هذه الأنعام التي قال الله ثمانية أزواج . قال : وقال في قوله : هَذِهِ أنْعامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ نحتجرها على من نريد وعمن نريد ، وقوله : وأنْعامٌ حُرّمَتْ ظُهُورُها قال : لا يركبها أحد ، وأنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ الله عَلَيْها فقال : آلذّكَرَيْن حَرّم أم الأُنْثَيَيْنِ أيّ هذين حرّم على هؤلاء ، أي أن تكون لهؤلاء حلاّ وعلى هؤلاء حراما .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعز اثْنَيْن قُلْ الذّكَريْن حَرّمَ أم الأُنْثَيَيْن أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْه أرْحامُ الأُنْثَيَيْن يعني : هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى ، فهم يحرّمون بعضا ويحلون بعضا ؟ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ثمانِيَةَ أزْوَاجٍ مِنَ الضّأْن اثْنَيْن وَمِنَ المَعْز اثْنَيْن فهذه أربعة أزواج ، وَمِنَ الإبِل اثْنَيْنِ وَمِنَ البَقَر اثْنَيْنِ قُلْ الذّكَرَينِ حَرّمَ أمِ الأُنْثَيَيْنِ يقول : لم أحرّم شيئا من ذلك . نَبّئُونِي بعِلم إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ يقول : كله حلال .
والضأن : جمع لا واحد له من لفظه ، وقد يجمع الضأن : الضّئين والضّئين ، مثل الشّعير والشعّير ، كما يجمع العبد على عَبِيد وعِبِيد . وأما الواحد من ذكوره فضائن ، والأنثى ضائنة ، وجمع الضائنة : ضوائن ، وكذلك العز جمع على غير واحد ، وكذلك المعزى وأما الماعز ، فجمعه مواعز .
والزوج الذكر والزوج الأنثى كل واحد منهما زوج صاحبه ، وهي أربعة أنواع ؛ فتجيء ثمانية أزواج ، و{ الضأن } جمع ضائنة وضائن ، وقرأ طلحة بن مصرف وعيسى بن عمر والحسن من «الضأن » بفتح الهمزة ، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي «ومن المعْز » بسكون العين وهو جمع ماعز وماعزة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر «ومن المعَز » بفتح العين فضأن ومعز كراكب وركب وتاجر وتجر ، وضان ومعز كخادم وخدم ونحوه ، وقرأ أبان بن عثمان «من الضأن اثنان » على الابتداء والخبر المقدم ، ويقال في جمع ماعز معز ومعز ومعيز وأمعوز{[5128]} وقوله تعالى : { قل الذكرين } هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث ، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئاً مما يوجبه هذا التقسيم ، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ ، ثم اتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله { نبئوني } أخبروني { بعلم } أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله { إن كنتم صادقين } و { إن } شرط وجوابه في { نبئوني } ، وجاز تقديم جواب هذا الشرط لما كانت { إن } لا يظهر لها عمل في الماضي ، ولو كانت ظاهرة العمل لما جاز تقدم الجواب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثمانية أزواج من الضأن اثنين}، يعني ذكرا وأنثى، {ومن المعز اثنين}، ذكرا وأنثى، {قل} يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى، ونسب ذلك إلى الله: {ءالذكرين} من الضأن والمعز {حرم} الله عليكم؟ {أم الأنثيين} منهما؟ {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين}؟ ذكرا كان أو أنثى؟ {نبئوني بعلم} عن كيفية تحريم ذلك، {إن كنتم صادقين} فيه. المعنى من أين جاء التحريم، فإن كان من قبل الذكورة، فجميع الذكور حرام، أو الأنوثة، فجميع الإناث، أو اشتمال الرحم فالزوجان، فمن أين التخصيص؟ والاستفهام للاستنكار...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا تقريع من الله جلّ ثناؤه العادلين به الأوثان من عبدة الأصنام الذي بحّروا البحائر وسيّبوا السوائب ووصلوا الوصائل، وتعليم منه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، الحجة عليهم في تحريمهم ما حرّموا من ذلك، فقال للمؤمنين به وبرسوله:"وَهُوَ الّذِي أنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغيرَ مَعْرُوشاتٍ ومن الأنعام" أنشأ "حمولة وفرشا". ثم بين جلّ ثناؤه الحمولة والفرش، فقال: "ثَمَانِيَةَ أزْوَاجٍ "وإنما نصب الثمانية، لأنها ترجمة عن الحمولة والفرش وبدل منها كأن معنى الكلام: ومن الأنعام أنشأ ثمانية أزواج فلما قدّم قبل الثمانية الحمولة والفرش بين ذلك بعد، فقال: ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ على ذلك المعنى "مِن الضّأْنِ اثْنَينِ وَمِنَ المعَزِ اثْنَيْنِ" فذلك أربعة، لأن كلّ واحد من الاثنين من الضأن زوج، فالأنثى منه زوج الذكر، والذكر منه زوج الأنثى، وكذلك ذلك من المعز ومن سائر الحيوان فلذلك قال جلّ ثناؤه: "ثَمانِيَةَ أزْوَاجٍ" كما قال: "وَمِنْ كلّ شيء خلقْنَا زَوْجينِ" لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، فهما وإن كانا اثنين فهما زوجان، كما قال جلّ ثناؤه: "وَجعلَ مِنهَا زَوْجهَا لِيْسكُنَ إليهَا" وكما قال: "أمْسِكْ عليْكَ زَوْجكَ"...
ثم قال لهم: كلوا مما رزقكم الله من هذه الثمار واللحوم، واركبوا هذه الحمولة أيها المؤمنون، فلا تتبعوا خطوات الشيطان في تحريم ما حرّم هؤلاء الجهلة بغير أمري إياهم بذلك. قل يا محمد لهؤلاء الذين حرّموا ما حرّموا من الحرث والأنعام، اتباعا للشيطان من عبدة الأوثان والأصنام الذين زعموا أن الله حرّم عليهم ما هم محرّمون من ذلك: "ءالذّكَرَيْنَ حَرّمَ" ربكم أيها الكذبة على الله من الضأن والمعز، فإنهم إن ادّعوا ذلك وأقرّوا به، كذّبوا أنفسهم وأبانوا جهلهم، لأنهم إذا قالوا: يحرّم الذكرين من ذلك، أوجبوا تحريم كلّ ذكرين من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم الذكران منها وظهورها، وفي ذلك فساد دعواهم وتكذيب قولهم. "أمِ الأُنْثَيَيْنِ" فإنهم إن قالوا: حرّم ربنا الأنثيين، أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز على أنفسهم وظهورها، وفي ذلك أيضا تكذيب لهم، ودحض دعواهم أن ربهم حرّم ذلك عليهم، إذ كانوا يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. "أمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحامُ الأُنْثَيَيْنِ" يقول: أم حرّم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني أرحام أنثى الضأن وأنثى المعز فلذلك قال: "أرحام الأنثيين". وفي ذلك أيضا لو أقرّوا به فقالوا: حرّم علينا ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، بُطُول قولهم وبيان كذبهم، لأنهم كانوا يقرّون بإقرارهم بذلك أن الله حرّم عليهم ذكور الضأن والمعز وإناثها أن يأكلوا لحومها أو يركبوا ظهورها، وقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها... "نَبّئُونِي بعِلْمٍ" يقول: قل لهم: خبروني بعلم ذلك على صحته، أيّ ذلك حرّم ربكم عليكم وكيف حرّم، "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" فيما تنحلونه ربكم من دعواكم وتضيفونه إليه من تحريمكم. وإنما هذا إعلام من الله جلّ ثناؤه نبيه أن كل ما قاله هؤلاء المشركون في ذلك وأضافوه إلى الله، فهو كذب على الله، وأنه لم يحرّم شيئا من ذلك، وأنهم إنما اتبعوا في ذلك خطوات الشيطان، وخالفوا أمره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى إنكار أن يحرّم الله تعالى من جنسين الغنم ضأنها ومعزها شيئاً من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث، الجنسين وكذلك الذكران من جنسي الإبل والبقر والأنثيان منهما وما تحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكورة الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادهما كيفما كانت ذكوراً وإناثاً، أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون قد حرّمها الله، فأنكر ذلك عليهم {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ} أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدلّ على تحريم ما حرّمتم {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنّ الله حرّمه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... هذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله أي لا بد أن يكون حرم الذكرين فيلزمكم تحريم الذكور أو الأنثيين فيلزمكم تحريم جميع الإناث، أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين فيلزمكم تحريم الجميع وأنتم لم تلتزموا شيئاً مما يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه السؤالات تقرير وتوبيخ، ثم أتبع تقريرهم وتوبيخهم بقوله {نبئوني} أخبروني {بعلم} أي من جهة نبوءة أو كتاب من كتب الله {إن كنتم صادقين}...
قال المفسرون: إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام، فاحتج الله تعالى على إبطال قولهم بأن ذكر الضأن والمعز والإبل والبقر وذكر من كل واحد من هذه الأربعة زوجين، ذكرا وأنثى...
ثم قال إن كان حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم الأنثى، وجب أن يكون كل إناثها حراما، وقوله: {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} تقديره: إن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث، هذا ما أطبق عليه المفسرون في تفسير هذه الآية، وهو عندي بعيد جدا، لأن لقائل أن يقول: هب أن هذه الأنواع الأربعة، أعني: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر، محصورة في الذكور والإناث، إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة، بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو حاما أو سائر الاعتبارات، كما أنا إذا قلنا: أنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل. فإذا قيل: إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى، ولما لم يكن هذا الكلام لازما علينا، فكذا هذا الوجه الذي ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية، ويجب على العاقل أن يذكر في تفسير كلام الله تعالى وجها صحيحا فأما تفسيره بالوجوه الفاسدة فلا يجوز والأقرب عندي فيه وجهان: أحدهما: أن يقال: إن هذا الكلام ما ورد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هو استفهام على سبيل الإنكار يعني أنكم لا تقرون بنبوة نبي، ولا تعرفون شريعة شارع، فكيف تحكمون بأن هذا يحل وأن ذلك يحرم؟ وثانيهما: أن حكمهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام مخصوص بالإبل، فالله تعالى بين أن النعم عبارة عن هذه الأنواع الأربعة، فلما لم تحكموا بهذه الأحكام في الأقسام الثلاثة، وهي: الضأن والمعز والبقر، فكيف خصصتم الإبل بهذا الحكم على التعيين؟ فهذا ما عندي في هذه الآية والله أعلم بمراده...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قُلْ ءالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ} أي قل لهم أيها الرسول أحرم الله الذكرين من كل واحد من الزوجين وحدهما، كما يدل عليه تقديم المفعول على عامله، أم الأنثيين وحدهما، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت ذكورا أم إناثا؟ والاستفهام للإنكار، أي إنه لم يحرم شيئا من هذه الثلاث. وبهذا السؤال التفصيلي يظهر للمتفكر فيه منهم أنه لا وجه يعقل لقولهم، لأن ترتيب الحكم على الوصف بالذكورة أو الأنوثة أو الحمل يكون لغوا أو جهالة فاضحة إذا لم يكن تعليلا، والتعليل بهذه الأوصاف لا وجه له ويلزمه ما لا يقولون به، وبعدمه يلزمهم التحكم في أحكام الله وكون الافتراء عليه بغير أدنى علم ولا عقل، ولذلك قال: {نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي خبروني بعلم يؤثر عن أحد رسل الله أو بينة متلبسة بعلم يركن إليه العقل بأن الله حرمها عليكم، وإلا كان تخصيص ما حرمتم دون أمثاله جهل محض كما أنه افتراء كذب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وفائدة هذا التّفصيل التوصّل لذكر أقسام الذّكور والإناث توطئة للاستدلال الآتي في قوله: {قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين} الآية.
وسُلك في التّفصيل طريق التّوزيع تمييزاً للأنواع المتقاربة، فإنّ الضأن والمعز متقاربان، وكلاهما يذبح، والإبلَ والبقرَ متقاربة...
ولمّا كانوا قد حرّموا في الجاهليّة بعض الغنم، ومنها ما يسمّى بالوصيلة كما تقدّم، وبعض الإبل كالبَحيرة والوصيلة أيضاً، ولم يحرّموا بعض المعز ولا شيئاً من البقر، ناسب أن يؤتى بهذا التّقسيم قبل الاستدلال تمهيداً لتحكّمهم إذْ حرّموا بعض أفراد من أنواع، ولم يحرّموا بعضاً من أنواع أخرى، وأسباب التّحريم المزعومة تتأتى في كلّ نوع فهذا إبطال إجمالي لما شرعوه وأنَّه ليس من دين الله ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
وهذا الاستدلال يسمى في علم المناظرة والبحث بالتحكّم...
وبعد أن تمّ ذكر المنّة والتّمهيد للحجّة، غيرّ أسلوب الكلام، فابتدئ بخطاب الرّسول عليه الصّلاة والسلام بأن يجادل المشركين ويظهر افتراءهم على الله فيما زعموه من تحريم ما ابتدعوا تحريمه من أنواع وأصناف الأنعام على من عيّنوه من النّاس بقوله: {قل ءآلذكرين حرم} الآيات. فهذا الكلام ردّ على المشركين، لإبطال ما شرعوه بقرينة قوله: {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين} وقوله: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا} الآية. فقوله:"قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين" إلى آخرها في الموضعين، اعتراض بعد قوله: {ومن المعز اثنين} وقوله: {ومن البقر اثنين}. وضمير: {حرّم} عائد إلى اسم الله في قوله: {كلوا مما رزقكم الله} [الأنعام: 142]، أو في قوله: {وحرموا ما رزقهم الله} [الأنعام: 140] الآية. وفي تكرير الاستفهام مرّتين تعريض بالتّخطئة، فالتّوبيخ والتّقريع الّذي يعقبه التّصريح به في قوله: {إن كنتم صادقين} وقوله: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن أفترى على الله كذباً} الآية. فلا تردّد في أنّ المقصود من قوله: {قل ءآلذكرين حرم} في الموضعين إبطال تحريم ما حرّم المشركون أكله، ونفي نسبة ذلك التّحريم إلى الله تعالى. وإنَّما النظر في طريق استفادة هذا المقصود من نظم الكلام. وهو من المعضلات.