الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ثَمَٰنِيَةَ أَزۡوَٰجٖۖ مِّنَ ٱلضَّأۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَمِنَ ٱلۡمَعۡزِ ٱثۡنَيۡنِۗ قُلۡ ءَآلذَّكَرَيۡنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلۡأُنثَيَيۡنِ أَمَّا ٱشۡتَمَلَتۡ عَلَيۡهِ أَرۡحَامُ ٱلۡأُنثَيَيۡنِۖ نَبِّـُٔونِي بِعِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (143)

قوله تعالى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } : في نصبه ستةُ أوجه ، أحسنُها : أن يكونَ بدلاً من " حَمولة وفرشاً " لولا ما نقله الزجاج من الإِجماع المتقدم ، ولكن ليس فيه أن ذلك محصورٌ في الإِبل ، والقول بالبدل هو قول الزجاج والفراء . والثاني : أنه منصوب ب " كلوا " الذي قبله أي : كلوا ثمانيةَ أزواج ، ويكون قوله " ولا تَتَّبِعُوا " إلى آخره كالمعترض بين الفعل ومنصوبه وهو قول علي بن سليمان وقَدَّره : كُلوا لحمَ ثمانية . وقال أبو البقاء : " هو منصوب ب " كلوا " تقديره : كُلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج ، ولا تُسْرفوا معترض بينهما " . قلت : صوابه أن يقول : " ولا تتَّبعوا " بدلَ " ولا تسرفوا " لأنَّ " كُلوا " الذي يليه " ولا تسرفوا " ليس منصبّاً على هذا لأنه بعيد منه ، ولأنَّ بعده ما هو أَوْلَى منه بالعمل ، ويُحتمل أن يكون الناسخ غلط عليه ، وإنما قال هو " ولا تَتَّبعوا " ويدل على ذلك أنه قال " تقديره : كلوا ممَّا رزقكم الله " ، وكلوا الأولُ ليس بعده " مما رزقكم " إنما هو بعد الثاني . الثالث : أنه عطف على " جنات " أي : أنشأ جنات وأنشأ ثمانية أزواج ، ثم حُذِفَ الفعل وحرف العطف وهو مذهب الكسائي . قال أبو البقاء : " وهو ضعيف " قلت : الأمر كذلك ، وقد سُمِع ذلك في كلامهم نثراً ونظماً ، ففي النثر قولهم : " أكلت لحماً سمكاً تمراً " وفي نظمهم قول الشاعر :

*** كيف أصبحتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا

يزرَعُ الودَّ في فؤاد الكريمِ أي : أكلت لحماً وسمكاً وتمراً ، وكيف أصبحت وكيف أمسيت ، وهذا على أحد القولين في ذلك . والقول الثاني أنه بدل بداء . ومنه الحديث : " إن الرجلَ ليصلِّي الصلاة ، وما كُتِبَ له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى أن وصل إلى العَشْر " الرابع : أنه منصوب بفعل محذوف مدلولٍ عليه بما في اللفظ تقديره : كلوا ثمانيةَ أزواج ، وهذا أضعفُ ممَّا قبله . الخامس : أنه منصوبٌ على الحال ، تقديره :ختلفةً أو متعددة ، وصاحب الحال " الأنعام " فالعامل في الحال ما تعلَّق به الجار وهو " مِنْ " . السادس : أنه منصوب على البدل مِنْ محلِّ " ممَّا رزقكم الله " .

قوله : { مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } في نصب " اثنين " وجهان أحدهما : أنه بدلٌ من " ثمانية أزواج " وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنه قال : " والدليل عليه " ثمانية أزواج " ثم فَسَّرها بقوله " من الضأن اثنين " الآية . وبه صَرَّح أبو البقاء فقال : " واثنين بدل من الثمانية وقد عُطِفَ عليه بقية الثمانية " .

والثاني : أنه منصوبٌ بأنشأ مقدَّراً ، وهو قول الفارسي ، و " مِنْ " تتعلَّق بما نصب " اثنين " .

والجمهور على تسكين همزة " الضأن " وهو جمع ضائن وضائنة كتاجِر وتاجرة وتَجْر ، وصاحب وصاحبة وصَحْب ، وراكب وراكبة ورَكْب . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف وعيسى بن عمر " الضَّأَن " بفتحها ، وهو إمَّا جمع تكسير لضائن كما يقال خادم وخدم وحارس وحرس وطالب وطَلَب ، وإمَّا اسم جمع . ويُجْمع على ضَئين كما يقال : كلب وكليب ، قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . فبذَّتْ نَبْلَهمْ وكليبُ

وقيل : الضَّئين والكليب اسما جمع ، ويقال ضِئين بكسر الضاد ، وكأنها إتباع لكسر الهمزة نحو : بِعير وشِعير بكسر الباء والشين لكسر العين . والضأن معروفٌ وهو ذو الصوف من الغنم ، والمعز ذو الشعر منها . وقرأ أبان بن عثمان " اثنان " بالرفع على الابتداء والخبر الجار قبله . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر المَعَز بفتح العين ، والباقون بسكونها ، وهما لغتان في جمع ماعِز ، وقد تقدَّم أن فاعِلاً يُجمع على فَعْل تارة وعلى فَعَل أخرى كتاجر وتَجْر وخادِم وخَدَم ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، ويُجْمع أيضاً على مِعْزى ، وبها قرأ أُبَيّ ، قال امرؤ القيس :

ألا إنْ لا تكن إِبِلٌ فمِعْزَى *** كأنَّ قُروْنَ جِلَّتِها العِصِيُّ

وقال أبو زيد : إنه يُجْمع على أُمْعوز ، وأنشد :

. . . . . . . . . . . . . . *** كالتَّيْبسِ في أُمْعوِزهِ المُتَرَبِّلِ

ويجمع أيضاً على مَعِيز ، وأنشدوا لامرئ القيس :

ويمنحها بنو شَمَجَى بنِ جَرْمٍ *** معيزَهُمُ حنَانكَ ذا الحَنانِ