في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

40

بعدئذ يمضي يعدد آلاء الله عليهم ، وكيف استقبلوا هذه الآلاء ، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق . وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل فرعون ومن العذاب الأليم :

( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم . وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ) . .

إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه - باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد - ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب .

يقول لهم : واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم ، [ من سام الماشية أي جعلها سائمة ترعى دائما ] وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه ! ! ثم يذكر لونا من هذا العذاب . هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث . كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم !

وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم . ليلقي في حسهم - وحس كل من يصادف شدة - أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة . وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة ، ويعتبر بالبلاء ، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ . والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها . والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال ، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله ، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته . . ومن ثم هذا التعقيب الموحى : ( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم )

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ نَجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلآءٌ مّن رّبّكُمْ عَظِيمٌ }

أما تأويل قوله : وإذْ نَجّيْناكُمْ فإنه عطف على قوله : يا بَنِي إسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ فكأنه قال : اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ، واذكروا إنعامنا عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون بإنجائنا لكم منهم .

وأما آل فرعون فإنهم أهل دينه وقومه وأشياعه . وأصل «آل » أهل ، أبدلت الهاء همزة ، كما قالوا ماه ، فأبدلوا الهاء همزة ، فإذا صغروه قالوا مُوَيه ، فردّوا الهاء في التصغير وأخرجوه على أصله . وكذلك إذا صغروا آل ، قالوا : أهيل . وقد حُكي سماعا من العرب في تصغير آل : أويل . وقد يقال : فلان من آل النساء ، يراد به أنه منهن خلق ، ويقال ذلك أيضا بمعنى أنه يريدهنّ ويهواهن ، كما قال الشاعر :

فإنّكَ مِنْ آلِ النّساءِ وَإِنّمَا *** يَكُنّ لأدْنى لا وِصَالَ لِغَائِبِ

وأحسن أماكن «آل » أن ينطق به مع الأسماء المشهورة ، مثل قولهم : آل النبي محمد صلى الله عليه وسلم وآل عليّ ، وآل عباس ، وآل عقيل . وغير مستحسن استعماله مع المجهول ، وفي أسماء الأرضين وما أشبه ذلك غير حسن عند أهل العلم بلسان العرب أن يقال : رأيت آل الرجل ، ورآني آل المرأة ، ولا رأيت آل البصرة ، وآل الكوفة . وقد ذكر عن بعض العرب سماعا أنها تقول : رأيت آل مكة وآل المدينة ، وليس ذلك في كلامهم بالمستعمل الفاشي . وأما فرعون فإنه يقال : إنه اسم كانت ملوك العمالقة بمصر تسمّى به ، كما كانت ملوك الروم يُسمّي بعضهم قيصر وبعضهم هرقل ، وكما كانت ملوك فارس تُسمى الأكاسرة واحدهم كسرى ، وملوك اليمن تسمى التبابعة واحدهم تبع . وأما فرعون موسى الذي أخبر الله تعالى عن بني إسرائيل أنه نجاهم منه فإنه يقال : إن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ، وكذلك ذكر محمد بن إسحاق أنه بلغه عن اسمه .

حدثنا بذلك محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : أن اسمه الوليد بن مصعب بن الريان .

وإنما جاز أن يقال : وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ والخطاب به لمن لم يدرك فرعون ولا المنجين منه ، لأن المخاطبين بذلك كانوا أبناء من نجاهم من فرعون وقومه ، فأضاف ما كان من نعمه على آبائهم إليهم ، وكذلك ما كان من كفران آبائهم على وجه الإضافة ، كما يقول القائل لاَخر : فعلنا بكم كذا ، وفعلنا بكم كذا ، وقتلناكم وسبيناكم ، والمخبر إما أن يكون يعني قومه وعشيرته بذلك أو أهل بلده ووطنه كان المقول له ذلك أدرك ما فعل بهم من ذلك أو لم يدركه ، كما قال الأخطل يهاجي جرير بن عطية :

وَلَقَدْ سَمَا لَكُمْ الهُذَيْلُ فنالَكُم *** ْبإرَابَ حَيْثُ يُقْسَمّمُ الأنْفالا

في فَيْلَقٍ يَدْعو الأرَاقمَ لمْ تكُنْ *** فرْسَانُهُ عُزْلاً وَلا أكْفَالا

ولم يلق جرير هذيلاً ولا أدركه ، ولا أدرك إراب ولا شهده . ولكنه لما كان يوما من أيام قوم الأخطل على قوم جرير ، أضاف الخطاب إليه وإلى قومه ، فكذلك خطاب الله عزّ وجلّ من خاطبه بقوله : وَإِذْ نَجّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لما كان فعله ما فعل من ذلك بقوم من خاطبه بالآية وآبائهم ، أضاف فعله ذلك الذي فعله بآبائهم إلى المخاطبين بالآية وقومهم .

القول في تأويل قوله تعالى : يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَاب .

وفي قوله : يَسُومُونَكُمْ وجهان من التأويل ، أحدهما : أن يكون خبرا مستأنفا عن فعل فرعون ببني إسرائيل ، فيكون معناه حينئذٍ : واذكروا نعمتي عليكم إذ نجّيتكم من آل فرعون ، وكانوا من قبل يسومونكم سوء العذاب . وإذا كان ذلك تأويله كان موضع «يسومونكم » رفعا . والوجه الثاني : أن يكون «يسومونكم » حالاً ، فيكون تأويله حينئذٍ : وإذْ نجيناكم من آل فرعون سائميكم سوء العذاب ، فيكون حالاً من آل فرعون .

وأما تأويل قوله : يَسُومُونَكُمْ فإنه يوردونكم ، ويذيقونكم ، ويُولونكم ، يقال منه : سامه خطة ضيم : إذا أولاه ذلك وأذاقه ، كما قال الشاعر :

إنْ سِيمَ خَسْفا وَجْهُهُ تَرَبّدَا

فأما تأويل قوله : سُوءَ العَذَابِ فإنه يعني : ما ساءهم من العذاب . وقد قال بعضهم : أشدّ العذاب ولو كان ذلك معناه لقيل : أسوأ العذاب .

فإن قال لنا قائل : وما ذلك العذاب الذي كانوا يسومونهم الذي كان يسوءهم ؟ قيل : هو ما وصفه الله تعالى في كتابه فقال : يُذَبّحُونَ أبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ . وقد قال محمد بن إسحاق في ذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : أخبرنا ابن إسحاق ، قال : كان فرعون يعذّب بني إسرائيل فيجعلهم خدما وخولاً ، وصنّفهم في أعماله ، فصنفٌ يبنون ، وصنف يزرعون له ، فهم في أعماله ، ومن لم يكن منهم في صنعة من عمله فعليه الجزية ، فسامهم كما قال الله عزّ وجل : سُوءَ العَذَابِ .

وقال السدي : جعلهم في الأعمال القذرة ، وجعل يقتل أبناءهم ، ويستحيي نساءهم .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي .

القول في تأويل قوله تعالى : يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ .

قال أبو جعفر : وأضاف الله جل ثناؤه ما كان من فعل آل فرعون ببني إسرائيل من سَوْمهم إياهم سوء العذاب وذبحهم أبناءهم واستحيائهم نساءهم دون فرعون ، وإن كان فعلهم ما فعلوا من ذلك كان بقوّة فرعون وعن أمره ، لمباشرتهم ذلك بأنفسهم . فبين بذلك أن كل مباشر قتل نفس أو تعذيب حيّ بنفسه وإن كان عن أمر غيره ، ففاعله المتولي ذلك هو المستحق إضافة ذلك إليه ، وإن كان الاَمر قاهرا الفاعل المأمور بذلك ، سلطانا كان الاَمر أو لصّا خاربا أو متغلبا فاجرا ، كما أضاف جل ثناؤه ذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم إلى آل فرعون دون فرعون ، وإن كانوا بقوّة فرعون وأمره إياهم بذلك فعلوا ما فعلوا مع غلبته إياهم وقهره لهم . فكذلك كل قاتل نفسا بأمر غيره ظلما فهو المقتول عندنا به قصاصا ، وإن كان قتله إياها بإكراه غيره له على قتله .

وأما تأويل ذبحهم أبناء بني إسرائيل ، واستحيائهم نساءهم ، فإنه كان فيما ذكر لنا عن ابن عباس وغيره كالذي :

حدثنا به العباس بن الوليد الاَملي وتميم بن المنتصر الواسطي ، قالا : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : حدثنا القاسم بن أيوب ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم خليله أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكا وائتمروا ، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشّفارَ ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه ، ففعلوا . فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، وأن الصغار يذبحون ، قال : توشكون أن تُفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة ما كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر فتقلّ أبناؤهم ودعوا عاما . فحملت أمّ موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية أمه ، حتى إذا كان القابل حملت بموسى .

وقد حدثنا عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قالت الكهنة لفرعون : إنه يولد في هذه العام مولود يذهب بملكك . قال : فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل ، وعلى كل مائة عشرة ، وعلى كل عشرة رجلاً فقال : انظروا كل امرأة حامل في المدينة ، فإذا وضعت حملها فانظروا إليه ، فإن كان ذكرا فاذبحوه ، وإن كان أنثى فخلّوا عنها . وذلك قوله : يُذَبّحُونَ أبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونُكُمْ سُوءَ العَذَابِ قال : إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة ، فقالت الكهنة : إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه . فبعث في أهل مصر نساء قوابل ، فإذا ولدت امرأة غلاما أتى به فرعون فقتله ويستحيي الجواري .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : وَإِذْ نَجّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الآية ، قال : إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة ، وإنه أتاه آت ، فقال : إنه سينشأ في مصر غلام من بني إسرائيل فيظهر عليك ويكون هلاكك على يديه . فبعث في مصر نساء . فذكر نحو حديث آدم .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر عن السدي ، قال : كان من شأن فرعون أنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل وأخربت بيوت مصر ، فدعا السحرة والكهنة والعافة والقافة والحازَة ، فسألهم عن رؤياه ، فقالوا له : يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه يعنون بيت المقدس رجل يكون على وجهه هلاك مصر . فأمر ببني إسرائيل أن لا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ، ولا تولد لهم جارية إلا تركت . وقال للقبط : انظروا مملوكيكم الذين يعملون خارجا فأدخلوهم ، واجعلوا بني إسرائيل يلون تلك الأعمال القذرة . فجعل بني إسرائيل في أعمال غلمانهم ، وأدخلوا غلمانهم فذلك حين يقول الله تبارك وتعالى : إِنّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ يقول : تجبر في الأرض : وجعل أهلها شِيَعا ، يعني بني إسرائيل ، حين جعلهم في الأعمال القذرة ، يستضعفُ طائِفَةً منهم يُذَبّحُ أبْنَاءَهُمْ . فجعل لا يولد لبني إسرائيل مولود إلا ذبح فلا يكبر الصغير . وقذف الله في مشيخة بني إسرائيل الموت ، فأسرع فيهم . فدخل رءوس القبط على فرعون ، فكلموه ، فقالوا : إن هؤلاء قد وقع فيهم الموت ، فيوشك أن يقع العمل على غلماننا بذبح أبنائهم فلا تبلغ الصغار وتفنى الكبار ، فلو أنك كنت تبقي من أولادهم فأمر أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة . فلما كان في السنة التي لا يذبحون فيها ولد هارون ، فترك فلما كان في السنة التي يذبحون فيها حملت بموسى .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذكر لي أنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحُزَاتُه إليه ، فقالوا له : تعلّم أنا نجد في علمنا أن مولودا من بني إسرائيل قد أظلك زمانه الذي يولد فيه ، يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ، ويخرجك من أرضك ، ويبدّل دينك . فلما قالوا له ذلك ، أمر بقتل كل مولود يولد من بني إسرائيل من الغلمان ، وأمر بالنساء يستحيين . فجمع القوابل من نساء مملكته ، فقال لهن : لا يسقطن على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا قتلتُنّه . فكنّ يفعلن ذلك ، وكان يذبح من فوق ذلك من الغلمان ، ويأمر بالحبالى فيعذّبن حتى يطرحن ما في بطونهن .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : لقد ذكر أنه كان ليأمر بالقصب فيشقّ حتى يجعل أمثال الشّفار ، ثم يصف بعضه إلى بعض ، ثم يؤتي بالحبالى من بني إسرائيل ، فيوقفن عليه فيحزّ أقدامهن ، حتى إن المرأة منهن لتمصَعُ بولدها فيقع من بين رجليها ، فتظلّ تطؤه تتقي به حدّ القصب عن رجلها لما بلغ من جهدها . حتى أسرف في ذلك وكاد يفنيهم ، فقيل له : أفنيت الناس وقطعت النسل ، وإنهم خَوَلُك وعمالك . فأمر أن يقتل الغلمان عاما ويستحيوا عاما . فولد هارون في السنة التي يستحيا فيها الغلمان ، وولد موسى في السنة التي فيها يقتلون .

قال أبو جعفر : والذي قاله من ذكرنا قوله من أهل العلم كان ذبح آل فرعون أبناء بني إسرائيل واستحياؤهم نساءهم ، فتأويل قوله إذا على ما تأوّله الذين ذكرنا قولهم : ويستحيون نساءكم : يستبقونهن فلا يقتلونهن .

وقد يجب على تأويل من قال بالقول الذي ذكرنا عن ابن عباس وأبي العالية والربيع بن أنس والسدي في تأويل قوله : ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ : أنه تركهم الإناث من القتل عند ولادتهن إياهن أن يكون جائزا أن تسمى الطفلة من الإناث في حال صباها وبعد ولادها امرأة ، والصبايا الصغار وهن أطفال : نساء ، لأنهم تأوّلوا قول الله جل وعزّ : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ : يستبقون الإناث من الولدان عند الولادة فلا يقتلونهن .

وقد أنكر ذلك من قولهم ابن جريج ، فقال بما :

حدثنا به القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ قال : يسترقّون نساءكم .

فحاد ابن جريج بقوله هذا عما قاله من ذكرنا قوله في قوله : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إنه استحياء الصبايا الأطفال ، قال : إذ لم نجدهن يلزمهن اسم نساء . ثم دخل فيما هو أعظم مما أنكر بتأويله «ويستحيون » يسترقّون ، وذلك تأويل غير موجود في لغة عربية ولا عجمية ، وذلك أن الاستحياء إنما هو استفعالٌ من الحياة نظير الاستبقاء من البقاء والاستسقاء من السقي ، وهو معنى من الاسترقاق بمعزل .

وقد قال آخرون : قوله يُذَبّحونَ أبْناءَكُمْ بمعنى يذبحون رجالكم آباء أبنائكم . وأنكروا أن يكون المذبوحون الأطفال ، وقد قرن بهم النساء . فقالوا : في إخبار الله جل ثناؤه إن المستحين هم النساء الدلالة الواضحة على أن الذين كانوا يذبحون هم الرجال دون الصبيان ، لأن المذبحين لو كانوا هم الأطفال لوجب أن يكون المستحيون هم الصبايا . قالوا : وفي إخبار الله عزّ وجل أنهم النساء ما يبين أن المذبحين هم الرجال . وقد أغفل قائلوا هذه المقالة مع خروجهم من تأويل أهل التأويل من الصحابة والتابعين موضع الصواب ، وذلك أن الله جل ثناؤه قد أخبر عن وحيه إلى أمّ موسى أنه أمرها أن ترضع موسى ، فإذا خافت عليه أن تلقيه في التابوت ثم تلقيه في اليم . فمعلوم بذلك أن القوم لو كانوا إنما يقتلون الرجال ويتركون النساء لم يكن بأمّ موسى حاجة إلى إلقاء موسى في اليمّ ، أو لو أن موسى كان رجلاً لم تجعله أمه في التابوت ولكن ذلك عندنا على ما تأوّله ابن عباس ومن حكينا قوله قبل من ذبح آل فرعون الصبيان وتركهم من القتل الصبايا .

وإنما قيل : وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ إذ كان الصبايا داخلات مع أمهاتهن ، وأمهاتهن لا شك نساء في الاستحياء ، لأنهم لم يكونوا يقتلون صغار النساء ولا كبارهن ، فقيل : وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني بذلك الوالدات والمولودات كما يقال : قد أقبل الرجال وإن كان فيهم صبيان ، فكذلك قوله : وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ . وأما من الذكور فإنه لما لم يكن يذبح إلا المولودون قيل : يذبحون أبناءكم ، ولم يقل يذبحون رجالكم .

القول في تأويل قوله تعالى : وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ منْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ .

أما قوله : وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ فإنه يعني : وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون إياكم على ما وصفت بلاء لكم من ربكم عظيم . ويعني بقوله بلاء : نعمة . كما :

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ قال : نعمة .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : وفي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ أما البلاء : فالنعمة .

وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ قال : نعمة من ربكم عظيمة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثل حديث سفيان .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاح ، عن ابن جريج : وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبّكُمْ عَظِيمٌ قال : نعمة عظيمة .

وأصل البلاء في كلام العرب : الاختبار والامتحان ، ثم يستعمل في الخير والشرّ ، لأن الامتحان والاختبار قد يكون بالخير كما يكون بالشرّ ، كما قال الله جل ثناؤه : وَبَلَوْناهُمْ بالحَسَناتِ وَالسّيّئات لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ يقول : اختبرناهم ، وكما قال جل ذكره : وَنَبْلُوكُمْ بالشّرّ والخَيْرِ فِتْنَةً . ثم تسمي العرب الخير بلاء والشرّ بلاء ، غير أن الأكثر في الشرّ أن يقال : بلوته أبلوه بلاء ، وفي الخير : أبليته أبليه إبلاءً وبلاءً ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى :

جَزَى اللّهُ بالإحْسانِ ما فَعَلا بكُمْ *** وأبلاهُما خَيْرَ البَلاءِ الّذِي يَبْلُو

فجمع بين اللغتين لأنه أراد : فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ نَجَّيۡنَٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ يَسُومُونَكُمۡ سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبۡنَآءَكُمۡ وَيَسۡتَحۡيُونَ نِسَآءَكُمۡۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَآءٞ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِيمٞ} (49)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 )

وقوله تعالى : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } أي خلصناكم ، و { آل } أصله أهل ، قلبت الهاء ألفاً كما عمل في ماء ، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل ، فقيل أُهَيْل ، موَيْه ، وقد قيل في { آل } إنه اسم غير أهل ، أصله أول وتصغيره أويل ، وإنما نسب الفعل إلى { آل فرعون } وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم .

وقال الطبري رحمه الله : «ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به( {[577]} ) ، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه » .

ومنه قول أراكة الثقفي( {[578]} ) : [ الطويل ]

فلا تبك ميْتاً بعد ميْتٍ أجنّهُ . . . عليٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بكر

يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأشهر في { آل } أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد ، وقد يقال آل مكة ، وآل المدنية ، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر ، وفرعون( {[579]} ) موسى قيل اسمه مصعب بن الريان .

وقال ابن إسحاق : «اسمه الوليد بن مصعب » .

وروي أنه كان من أهل اصطخر ، ورد مصر فاتفق له فيها الملك ، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام .

و { يسومونكم } معناه : يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة ، وسامه خطة خسف و { يسومونكم } إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال ، أي سائمين لكم سوء العذاب( {[580]} ) ، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال ، ويكون وصف حال ماضية ، و { سوء العذاب } أشده وأصعبه .

قال السدي : «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء ، ويستحيي النساء » .

وقال غيره : صرفهم على الأعمال : الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، وكان قومه جنداً ملوكاً ، وقرأ الجمهور «يذبِّحون » بشد الباء المكسورة على المبالغة ، وقرأ ابن محيصن : «يذبحون » بالتخفيف ، والأول أرجح إذ الذبح متكرر . كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر ، فأولت له رؤياه أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه( {[581]} ) .

وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما : إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون : قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك .

وقال ابن عباس أيضاً : إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل ، ووكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من يحمل منهن .

وقيل : «وكل بذلك القوابل » .

وقالت طائفة : معنى { يذبحون أبناءكم } يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك( {[582]} ) ، واستدل هذا القائل بقوله تعالى : { نساءكم } .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور ، والنساء هم الأطفال الإناث ، وعبر عنهن باسم النساء بالمآل( {[583]} ) ، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنَّ ، ونفس الاستحياء ليس بعذاب ، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء ، و { يذبحون } بدل من «يسومون » .

قوله تعالى : { وفي ذلكم } إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر ، و { بلاء } معناه امتحان واختبار ، ويكون { البلاء } في الخير والشر .

وقال قوم : الإشارة { بذلكم } إلى التنجية من بني إسرائيل ، فيكون { البلاء } على هذا في الخير ، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم .

وقال جمهور الناس : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، و { البلاء } هنا في الشر ، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان .

وحكى الطبري وغيره في كيفيه نجاتهم : أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط ، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل ، فسرى بهم موسى من أول الليل ، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة ، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح ، وأمات الله تلك الليلة كثيراً من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين ، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه ، وكانت عدة بني إسرائيل نيفاً على ستمائة ألف ، وكانت عدة فرعون( {[584]} ) ألف ألف ومائتي ألف .

وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته ، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين ، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت ؟ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض فرسه فيه حتى بلغ الغمر ، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت ، فوالله ما كذبت ولا كذبت ، فأشار إلى البحر ، وأوحى الله تعالى إليه ، { أن اضرب بعصاك البحر } [ الشعراء : 63 ] . وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك ، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر ، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء( {[585]} ) .


[577]:- أي يقتضي نسبة الله الفعل إلى آل فرعون- وهم إنما كانوا يفعلون بأمره- أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به، أي لأنه مباشر، والآمر متسبب، ولذلك أغرق الله فرعون ومن معه، أي أغرق الآمر والمباشر، وقد اختلف الفكر الإسلامي في هذه المسألة على تفصيل معروف في موضعه، وفقه المالكية لخصه صاحب "المختصر" بقوله: "والمتسبب مع المباشر كمكره ومكره".
[578]:- عندهم أراكة، وابن أراكة، أما أراكة: فهو ابن عبد الله بن سفيان. شاعر محسن وأما ابن أراكة: فهو يزيد بن عمر الأشجعي- شاعر خبيث. وأجنه: ستره وأخفاه في التراب.
[579]:- أي المذكور. هنا.
[580]:- عبارة أبي (ح): "يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية. ويحتمل أن تكون في موضع الحال،أي سائميكم، وهي حال من آل فرعون وهي أوضح وأفصح".
[581]:- وقيل: إن سبب سومه بني إسرائيل سوء العذاب من تذبيح أبنائهم على ما روى في التوراة خوفه من نموهم وكثرتهم، وكانت أرض مصر قد امتلأت منهم بسبب انفساح المجال أمامهم أيام يوسف عليه السلام، ونزولهم في أفضل الأراضي، فتكاثروا، وتناسلوا، حتى خاف منهم المصريون فلما اعتلى الفراعنة ملك مصر ساموهم سوء العذاب، وأمر فرعون بذبح أبنائهم كما قصه الله علينا، وعلى ما في التوراة يكون هذا من الأنظمة الشاذة الجائرة في تحديد النسل وتنفيذه في نوع خاص.
[582]:- أي أن التسمية مجازية باعتبار ما كان.
[583]:- أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهن، ولأن استخدامهن وامتهانهن إنما يكون عندما يكن نساء، فعبر عن البنات بالنساء لما ذكر، واستحياؤهن ليس بعذاب، ولكنه يؤول إلى العذاب، أي إلى إرهاقهن في أعمال شاقة.
[584]:- أي عدة أتباع فرعون.
[585]:- ثبت في الصحيحن وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدنية، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يوم صالح، نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم. فصامه موسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصومه اهـ. ففي يوم عاشوراء وقع إنجاء بني إسرائيل وإغراق فرعون وأتباعه.