في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ} (83)

هؤلاء الذين آثروا الراحة على الجهد - في ساعة العسرة - وتخلفوا عن الركب في أول مرة . هؤلاء لا يصلحون لكفاح ، ولا يُرجون لجهاد ، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي ، ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين :

( فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج ، فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ، إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ، فاقعدوا مع الخالفين ) . .

إن الدعوات في حاجة إلى طبائع صلبة مستقيمة ثابتة مصممة تصمد في الكفاح الطويل الشاق . والصف الذي يتخلله الضعاف المسترخون لا يصمد لأنهم يخذلونه في ساعة الشدة فيشيعون فيه الخذلان والضعف والاضطراب . فالذين يضعفون ويتخلفون يجب نبذهم بعيداً عن الصف وقاية له من التخلخل والهزيمة . والتسامح مع الذين يتخلفون عن الصف في ساعة الشدة ، ثم يعودون إليه في ساعة الرخاء ، جناية على الصف كله ، وعلى الدعوة التي يكافح في سبيلها كفاحه المرير . .

( فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً ) .

لماذا ? .

( إنكم رضيتم بالقعود أول مرة ) . .

ففقدتم حقكم في شرف الخروج ، وشرف الانتظام في الكتيبة ، والجهاد عبء لا ينهض به إلا من هم له أهل . فلا سماحة في هذا ولا مجاملة :

( فاقعدوا مع الخالفين ) . .

المتجانسين معكم في التخلف والقعود .

هذا هو الطريق الذي رسمه اللّه تعالى لنبيه الكريم ، وإنه لطريق هذه الدعوة ورجالها أبداً . فليعرف أصحابها في كل زمان وفي كل مكان ذلك الطريق . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ} (83)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِن رّجَعَكَ اللّهُ إِلَىَ طَآئِفَةٍ مّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوّلَ مَرّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ } .

يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن ردّك الله يا محمد إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه ، فاستأذنوك للخروج معك في أخرى غيرها ، فقل لهم : لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعيَ عَدُوّا إنّكُمْ رَضِيُتمْ بالقُعُودِ أوّلَ مَرّةٍ وذلك عند خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ يقول : فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنكم منهم ، فاقتدوا بهديهم واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله ، فإن الله قد سخط عليكم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل : يا رسول الله ، الحرّ شديد ولا نستطيع الخروج ، فلا تنفر في الحرّ وذلك في غزوة تبوك ، فقال الله : قُلْ نارُ جَهَنّمَ أشَدّ حَرّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فأمره الله بالخروج ، فتخلف عنه رجال ، فأدركتهم نفوسهم ، فقالوا : والله ما صنعنا شيئا فانطلق منهم ثلاثة ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أتوه تابوا ثم رجعوا إلى المدينة ، فأنزل الله : فَإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ . . . إلى قوله : وَلا تَقُمْ على قَبْرِهِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلَكَ الّذِينَ تَخَلّفُوا » فأنْزَلَ اللّهُ عُذْرَهُمْ لَما تابُوا ، فقال : لَقَدْ تابَ اللّهُ على النّبِيّ والمُهاجِرِينَ والأنْصَارِ . . . إلى قوله : إنّ اللّهَ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ . وقال : إنّه بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ منْهُمْ . . . إلى قوله : فاقْعُدُوا مَعَ الخالفينَ : أي مع النساء . ذُكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين ، فقيل فيهم ما قيل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ والخالفون : الرجال .

قال أبو جعفر : والصواب من التأويل في قوله الخالِفِينَ ما قال ابن عباس . فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء ، فقول لا معنى له لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهنّ رجال بالياء والنون ، ولا بالواو والنون . ولو كان معنيا بذلك النساء ، لقيل : «فاقعدوا مع الخوالف » ، أو «مع الخالفات » ، ولكن معناه ما قلنا من أنه أريد به : فاقعدوا مع مرضى الرجال وأهل زمانتهم والضعفاء منهم والنساء . وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر ، فإن العرب تغلّب الذكور على الإناث ، ولذلك قيل : فاقْعُدُوا مَعَ الخالِفِينَ والمعنى ما ذكرنا . ولو وجّه معنى ذلك إلى : فاقعدوا مع أهل الفساد ، من قولهم : خلف الرجال عن أهله يخلف خلوفا ، إذا فسد ، ومن قولهم : هو خلف سوء كان مذهبا . وأصله إذا أريد به هذا المعنى من قولهم خَلَف اللبن يخَلُف خلوفا إذا خَبُث من طول وضعه في السقاء حتى يفسد ، ومن قولهم : خَلَف فَمُ الصائم : إذا تغيرت ريحه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَآئِفَةٖ مِّنۡهُمۡ فَٱسۡتَـٔۡذَنُوكَ لِلۡخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخۡرُجُواْ مَعِيَ أَبَدٗا وَلَن تُقَٰتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّاۖ إِنَّكُمۡ رَضِيتُم بِٱلۡقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٖ فَٱقۡعُدُواْ مَعَ ٱلۡخَٰلِفِينَ} (83)

وقوله : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } الآية ، { رجع } يستوي مجاوزه وغير مجاوزه ، وقوله تعالى : { إن } مبينة أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وسواه{[5816]} وأيضاً فيحتمل أن يموتوا هم قبل رجوعه وأمر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، بأن يقول لهم { لن تخرجوا معي } ، هو عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم ، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته ، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قد رفضه الشرع ورده كالجمل الأجرب ، وقوله : { إلى طائفة } يقتضي عندي أن المراد رؤوسهم والمتبوعون ، وعليها وقع التشديد بأنها لا تخرج ولا تقاتل عدواً ، وكرر معنى قتال العدو لأنه عظم الجهاد وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة ، ولولا تخصيص الطائفة لكان الكلام «فإن رجعك الله إليهم » ، ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد ختم عليها بالموافاة على النفاق ، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فكيف يترتب ألا يصلي على موتاهم إن لم يعينهم الله ، وقوله : { وماتوا وهم فاسقون } ونص في موافاتهم ، ومما يؤيد هذا ما روي أن ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ، عينهم لحذيفة بن اليمان وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها .

وروي عن حذيفة أنه قال يوماً : بقي من المنافقين كذا وكذا ، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشدك الله أنا منهم ؟ فقال لا ، والله ، لا أمنه منها أحداً بعدك ، وقرأ جمهور الناس «معي » بسكون الياء في الموضعين ، وقرأ عاصم فيما قال المفضل «معيَ » بحركة الياء في الموضعين ، وقوله { أول } هو الإضافة إلى وقت الاستئذان .

و «الخالفون » جميع من تخلف من نساء وصبيان وأهل عذر غلب المذكر فجمع بالياء والنون وإن كان ثم نساء ، وهو جمع خالف ، وقال قتادة «الخالفون » النساء ، وهذا مردود ، وقال ابن عباس : هم الرجال ، وقال الطبري : يحتمل قوله { مع الخالفين } أن يريد مع الفاسدين ، فيكون ذلك مأخوذاً من خلف الشيء إذا فسد ومنه خلوف فم الصائم .

قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل مقحم والأول أفصح وأجرى على اللفظة ، وقرأ مالك بن دينار وعكرمة «مع الخلفين » وهو مقصور من الخالفين ، كما قال : عرداً وبرداً عارداً وبارداً{[5817]} ، وكما قال الآخر : [ الرجز ]

مثل النقا لبده برد الظلال*** يريد الظلال{[5818]} .


[5816]:- جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}، {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء}.
[5817]:- يشير بهذا إلى أبيات سبق أن تكلم عليها عند تفسير قوله تعالى في الآية (145) من سورة (آل عمران): {ومن يرد ثواب الدنيا ونؤته منها}. وهذه هي الأبيات: أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا إلا عردا عــردا وصليانا بـــردا وعنكثا ملتبــدا يريد: عاردا وباردا فحذف للضرورة، والعرادة: شجر صلبة العود، وجمعها: عراد، وعراد عرد على المبالغة.
[5818]:- النّقا: القطعة من الرمل تنقاد محدودبة، وفي الحديث: (خلق الله آدم من نقا ضريّة)، أي من رملها (وضرية موضع معروف)، وحكى يعقوب في تثنيته نقيان ونقوان، والجمع نقيان وأنقاء، وهذه نقاة من الرمل. ويقال: لبد بالمكان: أقام به ولزق، فكأن برد الظلال ألصق تراب الرمل بالأرض وثبته عليها.