فألهم سليمان حكما أحكم ، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب .
لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث . وهذا عدل فحسب . ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير . وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة . وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء .
ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) . . وليس في قضاء داود من خطأ ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب ، لأنه من نبع الإلهام .
ثم يعرض السياق ما اختص به كلا منهما . فيبدأ بالوالد :
( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير . وكنا فاعلين . وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ، فهل أنتم شاكرون ? ) .
وقد عرف داود - عليه السلام - بمزاميره . وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون ، فتتجاوب أصداؤها حوله ، وترجع معه الجبال والطير . .
وحينما يتصل قلب عبد بربه فإنه يحس الاتصال بالوجود كله ؛ وينبض قلب الوجود معه ؛ وتنزاح العوائق والحواجز الناشئة عن الشعور بالفوارق والفواصل التي تميز الأنواع والأجناس ، وتقيم بينها الحدود والحواجز ، وعندئذ تتلاقى ضمائرها وحقائقها في ضمير الكون وحقيقته .
وفي لحظات الإشراق تحس الروح باندماجها في الكل ، واحتوائها على الكل . . عندئذ لا تحس بأن هنالك ما هو خارج عن ذاتها ؛ ولا بأنها هي متميزة عما حولها . فكل ما حولها مندمج فيها وهي مندمجة فيه .
ومن النص القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره ، فيسهو على نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة . وتهيم روحه في ظلال الله في هذا الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء . فيحس ترجيعها ، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه . وإذا الكون كله فرقة مرتلة عازفة مسبحة بجلال الله وحمده . ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . إنما يفقهه من يتجرد من الحواجز والفواصل ، وينطلق مع أرواح الكائنات ، المتجهة كلها إلى الله .
( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) . . ( وكنا فاعلين )فما هنالك من شيء يعز على القدرة أو يتأبى حين تريد . يستوي أن يكون مألوفا للناس أو غير مألوف .
وقوله : فَفَهّمْناها يقول : ففهّمنا القضية في ذلك سُلَيْمانَ دون داود . وكُلاّ آتَيْنا حُكْما وَعِلْما يقول : وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا حكما وهو النبوة ، وعلما : يعني وعلما بأحكام الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصمّ قالا : حدثنا المحاربيّ ، عن أشعث ، عن أبي إسحاق ، عن مرّة ، عن ابن مسعود ، في قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كرم قد أنبت عناقيده فأفسدته . قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم ، فقال سليمان : غير هذا يا نبيّ الله قال : وما ذاك ؟ قال : يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتُدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها ، حتى إذا كان الكرم كما كان دَفعت إلى الكرم صاحبه ودَفعت الغنم إلى صاحبها . فذلك قوله : فَفَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ . . . إلى قوله : وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ يقول : كنا لمِا حكما شاهدين . وذلك أن رجلين دخلا على داود ، أحدهما صاحب حرث والاَخر صاحب غنم ، فقال صاحب الحرث : إن هذا أرسل غنمه في حرثي ، فلم يُبق من حرثي شيئا . فقال له داود : اذهب فإن الغنم كلها لك فقضى بذلك داود . ومرّ صاحب الغنم بسليمان ، فأخبره بالذي قضى به داود ، فدخل سليمان على داود فقال : يا نبيّ الله إن القضاء سوى الذي قضيت . فقال : كيف ؟ قال سليمان : إن الحرث لا يخفي على صاحبه ما يخرج منه في كل عام ، فله من صاحب الغنم أن يبيع من أولادها وأصوافها وأشعارها حتى يستوفي ثمن الحرث ، فإن الغنم لها نسل في كلّ عام . فقال داود : قد أصبت ، القضاءُ كما قضيتَ . ففهّمها الله سليمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عليّ بن زيد ، قال : ثني خليفة ، عن ابن عباس قال : قضى داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرّعاة معهم الكلاب ، فقال سليمان : كيف قضى بينكم ؟ فأخبروه ، فقال : لو وافيت أمركم لقضيت بغير هذا . فأُخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث ، فيكون لهم أولادها وألبانها وسِلاؤها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه ، أخذ أصحاب الحرث الحرث وردّوا الغنم إلى أصحابها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنم القَوْمِ قال : أعطاهم داود رقاب الغنم بالحرث ، وحكم سليمان بجِزّة الغنم وألبانها لأهل الحرث ، وعليهم رعايتها على أهل الحرث ، ويحرث لهم أهل الغنم حتى يكون الحرث كهيئته يوم أُكل ، ثم يدفعونه إلى أهله ويأخذون غنمهم .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : ثني ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج بنحوه ، إلا أنه قال : وعليهم رعيها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن إسحاق ، عن مرّة في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كان الحرث نبتا ، فنفشت فيه ليلاً ، فاختصموا فيه إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الحرث . فمرّوا على سليمان ، فذكروا ذلك له ، فقال : لا ، تُدفع الغنم فيصيبون منها يعني أصحاب الحرث ويقوم هؤلاء على حرثهم ، فإذا كان كما كان ردّوا عليهم . فنزلت : ففَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : أخبرنا إسحاق ، عن شريك ، عن أبي إسحاق ، عن مسروق ، عن شريح ، في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كان النفْش ليلاً ، وكان الحرث كرما ، قال : فجعل داود الغنم لصاحب الكرم ، قال : فقال سليمان : إن صاحب الكرم قد بقي له أصل أرضه وأصل كرمه ، فاجعل له أصوافها وألبانها قال : فهو قول الله : ففَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثنا ابن أبي زياد ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شُرَيح ، فقال أحدهما : إن شياه هذا قطعت غَزْلاً لي ، فقال شريح : نهارا أم ليلاً ؟ قال : إن كان نهارا فقد برىء صاحب الشياه ، وإن كان ليلاً فقد ضمن . ثم قرأ : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : كان النفش ليلاً .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن شريح بنحوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبيّ ، عن شريح ، مثله .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ . . . . الاَية ، النفْش بالليل ، والهَمَل بالنهار . وذُكر لنا أن غنم القوم وقعت في زرع ليلاً ، فرُفع ذلك إلى داود ، فقضى بالغنم لأصحاب الزرع ، فقال سليمان : ليس كذلك ، ولكن له نسلها وَرسْلها وعوارضها وجُزازها ، حتى إذا كان من العام المقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى ربها وقبض صاحب الزرع زرعه . فقال الله : ففَهّمْناها سُلَيْمانَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة والزهري : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : نفشت غنم في حرث قوم . قال الزهري : والنفش لا يكون إلا ليلاً ، فقضى داود أن يأخذ الغنم ، ففهمها الله سليمان ، قال : فلما أخبر بقضاء داود ، قال : لا ، ولكن خذوا الغنم ، ولكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : في حرث قوم . قال معمر : قال الزهري : النفش لا يكون إلا بالليل ، والهمل بالنهار . قال قَتادة : فقضي أن يأخذوا الغنم ، ففهمها الله سليمان ، ثم ذكر باقي الحديث نحو حديث عبد الأعلى .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ . . . الاَيتين ، قال : انفلت غنم رجل على حرث رجل فأكلته ، فجاء إلى داود ، فقضى فيها بالغنم لصاحب الحرث بما أكلت وكأنه رأى أنه وجه ذلك . فمرّوا بسليمان ، فقال : ما قضى بينكم نبيّ الله ؟ فأخبروه ، فقال : ألا أقضي بينكما عسى أن ترضيا به ؟ فقالا : نعم . فقال : أما أنت يا صاحب الحرث ، فخذ غنم هذا الرجل فكن فيها كما كان صاحبها ، أصب من لبنها وعارضتها وكذا وكذا ما كان يصيب ، واحرث أنت يا صاحب الغنم حرث هذا الرجل ، حتى إذا كان حرثه مثله ليلة نفشت فيه غنمك فأعطه حرثه وخذ غنمك فذلك قول الله تبارك وتعالى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ . وقرأ حتى بلغ قوله : وكُلاّ آتَيْنا حُكْما وَعِلْما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، في قوله : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ قال : رعت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : النفش : الرعية تحت الليل .
قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، عن حرام بن محيصة بن مسعود ، قال : دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطا لبعض الأنصار فأفسدته ، فرفُع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنمُ القَوْمِ فقضى على البراء بما أفسدته الناقة ، وقال : «عَلى أصحَابِ المَاشِيَةِ حِفْظُ المَاشِيَةِ باللّيْلِ ، وَعَلى أصحَابِ الحَوَائِطِ حِفْظُ حِيطانِهِمْ بالنّهارِ » .
قال الزهري : وكان قضاء داود وسليمان في ذلك أن رجلاً دخلت ما شيته زرعا لرجل فأفسدته ، ولا يكون النفوش إلا بالليل ، فارتفعا إلى داود ، فقضى بغنم صاحب الغنم لصاحب الزرع ، فانصرفا ، فمرّا بسليمان ، فقال : بماذا قضى بينكما نبيّ الله ؟ فقالا : قضى بالغنم لصاحب الزرع . فقال : إن الحكم لعلى غير هذا ، انصرفا معي فأتى أباه داود ، فقال : يا نبيّ الله ، قضيت على هذا بغنمه لصاحب الزرع ؟ قال نعم . قال : يا نبيّ الله ، إن الحكم لعلى غير هذا . قال : وكيف يا نُبيّ الله ؟ قال : تدفع الغنم إلى صاحب الزرع فيصيب من ألبانها وسمُونها وأصوافها ، وتدفع الزرع إلى صاحب الغنم يقوم عليه ، فإذا عاد الزرع إلى حالة التي أصابته الغنم عليها رُدّت الغنم على صاحب الغنم ورُدّ الزرع إلى صاحب الزرع . فقال داود : لا يقطع الله فَمَك فقضى بما قضى سليمان . قال الزهريّ : فذلك قوله : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ فِي الحَرْثِ . . . إلى قوله : حُكْما وَعِلْما .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، وعليّ بن مجاهد ، عن محمد بن إسحاق ، قال : فحدثني من سمع الحسن يقول : كان الحكم بما قضى به سليمان ، ولم يعنّف الله داود في حكمه .
وقوله : وَسَخّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبّحْنَ والطّيْرَ يقول تعالى ذكره : وسخرنا مع داود الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح .
وكان قَتادة يقول في معنى قوله : يُسَبّحْنَ في هذا الموضع ما :
حدثنا به بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَسَخّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجبالَ يُسَبّحْنَ والطّيْرَ : أي يصلين مع داود إذا صلى .
وقوله : وكُنّا فاعِلِينَ يقول : وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك ، ومسخروا الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام .
{ ففهمناها سليمان } الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ " فأفهمناها " . روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان . ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا وهكذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظهما بالليل " . وعند أبي حنيفة لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ لقوله صلى الله عليه وسلم " جرح العجماء جبار " . { وكلا آتينا حكما وعلما } دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه . وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى : { ففهمناها } ولولا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإظهار ما تفضل عليه في صغره { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله تعالى فيها الكلام . وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و { مع } متعلقة ب { سخرنا } أو { يسبحن } { والطير } عطف على { الجبال } أو مفعول معه . وقرئ بالرفع على الابتداء أو العطف على الضمير على ضعف . { وكنا فاعلين } لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجبا عندكم .
{ ففهمناها سليمان وكلا ءاتينا حكما وعلما }
معنى قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } أنه ألهمهُ وجهاً آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام ، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق . وذلك أنه أرفقُ بهما فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح ، والمرجحات لا تنحصر ، وقد لا تبدو للمجتهد ، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به ، وليتعزى على مَن فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان . وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير ، وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة .
وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد ، وفي العمل بالراجح ، وفي مراتب الترجيح ، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المُعارض لقوله تعالى : { وكلاً آتينا حكماً وعلماً } في معرض الثناء عليهما .
وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلاً في رجوع الحاكم عن حكمه ، كما قال ابن عطية وابن العربي ؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة ، فلا ينبغي أن يكون تأصيلاً وأن ما حَاولاه من ذلك غفلة .
وإضافة ( حكم ) إلى ضمير الجمع باعتبار اجتماع الحاكمين والمتحاكمين .
وتأنيث الضمير في قوله { ففهمناها ، } ولم يتقدم لفظ معاد مؤنث اللفظ ، على تأويل الحكم في قوله تعالى : { لحكمهم } بمعنى الحكومة أو الخصومة .
وجملة { وكلاً آتينا حكماً وعلماً } تذييل للاحتراس لدفع توهم أن حكم داوود كان خطأ أو جوراً وإنما كان حكم سليمان أصوب .
وتقدمت ترجمة داوود عليه السلام عند قوله تعالى : { وآتينا داوود زبورا } في [ سورة النساء : 163 ] ، وقوله تعالى : { ومن ذريته داوود } في [ سورة الأنعام : 84 ] .
وتقدمت ترجمة سليمان عليه السلام عند قوله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان } في [ سورة البقرة : 102 ] .
{ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فاعلين }
هذه مزية اختصّ بها داوود وهي تسخير الجبال له وهو الذي بينته جملة { يُسَبّحنْ } فهي إما بيان لجملة { سخرنا } أو حال مبينة . وذكرها هنا استطراد وإدماج .
{ والطير } عطف على { الجبال } أو مفعول معه ، أي مع الطير يعني طير الجبال .
و { مع } ظرف متعلق بفعل { يسبحن ، } وقُدم على متعلّقه للاهتمام به لإظهار كرامة داوود ، فيكون المعنى : أن داوود كان إذا سبح بين الجبال سمع الجبالَ تسبّح مثل تسبيحه . وهذا معنى التأويب في قوله في الآية الأخرى : { يا جبال أوبي معه } [ سبأ : 10 ] إذ التأويب الترجيع ، مشتق من الأوب وهو الرجوع . وكذلك الطير إذا سمعت تسبيحه تغرّد تغريداً مثل تسبيحه وتلك كلها معجزة له .
ويتعين أن يكون هذا التسخير حاصلاً له بعد أن أُوتي النبوءة كما يقتضيه سياق تعداده في عداد ما أوتيه الأنبياء من دلائل الكرامة على الله ، ولا يعرف لداوود بعد أن أُوتي النبوءة مزاولة صعود الجبال ولا الرعي فيها وقد كان من قبل النبوءة راعياً . فلعل هذا التسخير كان أيام سياحته في جبل برية ( زيف ) الذي به كهف كان يأوي إليه داوود مع أصحابه الملتفّين حوله في تلك السياحة أيام خروجه فاراً من الملك شاول ( طالوت ) حين تنكر له شاول بوشاية بعض حُساد داوود ، كما حكي في الإصحاحين 23 24 من سفر صمويل الأول . وهذا سرّ التعبير ب ( مع ) متعلقةً بفعل { سخرنا } هنا . وفي آية سورة ص إشارة إلى أنه تسخير متابعة لا تسخير خدمة بخلاف قوله الآتي { ولسليمان الريح } [ الأنبياء : 81 ] إذ عدي فعل التسخير الذي نابَت عنه واو العطف بلام الملك . وكذلك جاء لفظ ( مع ) في آية [ سورة سبأ : 10 ] { يا جبال أوبي معه } وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة له كرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده .
وجملة { وكنا فاعلين } معترضة بين الإخبار عما أوتيه داوود . وفاعل هنا بمعنى قادر ، لإزالة استبعاد تسبيح الجبال والطير معه . وفي اجتلاب فعل الكون إشارة إلى أن ذلك شأن ثابت لله من قبل ، أي وكنا قادرين على ذلك .