وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم ، في غيظ عنيف ، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه ، ويصفها القرآن بما لا يزيد عليه :
( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر . ويقولون : إنه لمجنون ) .
فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها ! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن ، وحمى وسم . . مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح ، والشتم البذيء ، والافتراء الذميم : ( ويقولون : إنه لمجنون ) . .
وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة . فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين ، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم !
وقوله : وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهِمْ يقول جلّ ثناؤه : وإن يكاد الذين كفروا يا محمد يَنْفُذونك بأبصارهم من شدة عداوتهم لك ويزيلونك فيرموا بك عند نظرهم إليك غيظا عليك . وقد قيل : إنه عُنِيَ بذلك : وإن يكان الذين كفروا مما عانوك بأبصارهم ليرمون بك يا محمد ، ويصرعونك ، كما تقول العرب : كاد فلان يصرعني بشدّة نظره إليّ قالوا : وإنما كانت قريش عانوا لمجنون ، فقال الله لنبيه عند ذلك : وإن يكاد الذين كفروا ليرمونك بأبصارهم لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ وَيَقُولُونَ إنّهُ لمَجْنُونٌ . وبنحو الذي قلنا في معنى لَيُزْلِقُونَكَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : وَإنْ يكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَك بأبْصَارِهِم لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ يقول : يَنْفُذونك بأبصارهم من شدّة النظر ، يقول ابن عباس : يقال للسهم : زَهَق السهم أو زلق .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَيُزْلِقونَك بأبْصَارِهِمْ يقول : لَيَنْفُذونك بأبصارهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَإنْ يكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهِمْ يقول : ليزهقونك بأبصارهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معاوية ، عن إبراهيم ، عن عبد الله أنه كان يقرأ : «وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْهِقُونَكَ » .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَيُزْلِقُونَكَ قال : لينفذونك بأبصارهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهِمْ قال : ليزهقونك ، وقال الكلبي ليصْرَعونك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقونَكَ بأبْصَارِهِمْ لينفذونك بأبصارهم معاداة لكتاب الله ، ولذكر الله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإنْ يَكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بأبْصَارِهمْ يقول : يَنْفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله لَيُزْلِقُونَكَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة «لَيَزْلِقُونَكَ » بفتح الياء من زلقته أزلقه زَلْقا . وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة لَيُزْلِقُونَكَ بضم الياء من أزلقه يُزْلِقه .
والصواب من القول في ذلك عند أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان في العرب متقاربتا المعنى والعرب تقول للذي يحلِق الرأس : قد أزلقه وزلقه ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله لمَا سَمِعُوا الذّكْرَ يقول : لما سمعوا كتاب الله يتلى وَيَقُولُونَ إنّهُ لَمَجْنُونٌ يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم إن محمدا لمجنون ، وهذا الذي جاءنا به من الهذيان الذي يَهْذِي به في جنونه وَما هُوَ إلاّ ذكْرٌ للْعَالمِينَ وما محمد إلا ذِكر ذَكّر الله به العالَمينِ الثقلين الجنّ والإنس .
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم إن هي المخففة واللام دليلها والمعنى إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك من قولهم نظر إلي نظرا يكاد يصرعني أي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وفي الحديث إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ولعله يكون من خصائص بعض النفوس وقرأ نافع ليزلقونك من زلقته فزلق كحزنته فحزن وقرئ ليزهقونك أي ليهلكونك لما سمعوا الذكر أي القرآن أي ينبعث عند سماعه بعضهم وحسدهم ويقولون إنه لمجنون حيرة في أمره وتنفيرا عنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن يكاد} يقول: قد كاد {الذين كفروا} يعني المستهزئين من قريش.
{ليزلقونك بأبصارهم} يعني يبعدونك.
{لما سمعوا الذكر} يقول: حين سمعوا القرآن كراهية له.
{ويقولون إنه} إن محمدا {لمجنون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإن يكاد الذين كفروا يا محمد يَنْفُذونك بأبصارهم من شدة عداوتهم لك ويزيلونك فيرموا بك عند نظرهم إليك غيظا عليك.
وقد قيل: إنه عُنِيَ بذلك: وإن يكان الذين كفروا مما عانوك بأبصارهم ليرمون بك يا محمد، ويصرعونك، كما تقول العرب: كاد فلان يصرعني بشدّة نظره إليّ...
عن ابن عباس، في قوله:"وَإنْ يكادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَك بأبْصَارِهِم لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ "يقول: يَنْفُذونك بأبصارهم من شدّة النظر... ليزهقونك بأبصارهم...
"وقوله لمَا سَمِعُوا الذّكْرَ "يقول: لما سمعوا كتاب الله يتلى.
"وَيَقُولُونَ إنّهُ لَمَجْنُونٌ": يقول هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم إن محمدا لمجنون، وهذا الذي جاءنا به من الهذيان الذي يَهْذِي به في جنونه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ليزلقونك} أي يسقطونك، ويصرعونك،
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليه، وأنهم يكادون من الغيظ والعداوة، يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نهاه صلى الله عليه وسلم عن طاعة المكذبين وحذره إدهانهم وضرب لهم الأمثال، وتوعدهم إلى أن قال: {ذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم} وختم بقصة يونس عليه السلام للتدريب على الصبر وعدم الضعف ولو بالصغو إلى المدهن، فكان التقدير تسبيباً عما فيها من النهي: فإنهم إنما يبالغون في أذاك لتضجر فتترك ما أنت فيه، قال عاطفاً على هذا المقدر مخبراً له بما في صدورهم من الإحن عليه وفي قلوبهم من الضغائن له ليشتد حذره من إدهانهم، مؤكداً لأن من يرى إدهانهم يظن إذعانهم وينكر لمبالغتهم فيه طغيانهم: {وإن} أي وإنه {يكاد} وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {الذين كفروا} أي ستروا ما قدروا عليه مما جئت به من الدلائل.
{ليزلقونك} أي من شدة عداوتهم وحسدهم وغيظ قلوبهم {بأبصارهم} أي يوجدون لك التنحية عما أنت فيه والزلل العظيم الذي صاحبه في موضع دحض لا مستمسك فيه بالهلاك فما دونه من الأذى حتى يرموك من قامتك إلى الأرض كما يزلق الإنسان فينطرح لما يتراءى في عيونهم حين تصويب النظر للفطن من الحنق والسخط الدال على أن صدورهم تغلي، كما قال تعالى {يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} [الحج: 72]...
{ويقولون} أي قولاً لا يزالون يجددونه.
ولما كان صلى الله عليه وسلم في غاية البعد عما يشين، أكدوا قولهم: {إنه لمجنون} حيرة في أمرك وتنفيراً عنك لما يعلمون من أنه لا يسمعه أحد لا غرض له إلا كذبهم ومال بكليته إليك وكان معك وارتبط بك واغتبط بما جئت به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم، في غيظ عنيف، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه، ويصفها القرآن بما لا يزيد عليه:
(وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر. ويقولون: إنه لمجنون).
فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول [صلى الله عليه وسلم] فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن، وحمى وسم.. مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح، والشتم البذيء، والافتراء الذميم: (ويقولون: إنه لمجنون)..
وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في مكة. فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم!