ثم ينتقل بهم السياق من آفاق الكون إلى ذوات أنفسهم ؛ وهي أقرب إليهم ، وهم بها أكثر حساسية :
وخلق هذا الإنسان بهذا التكوين العجيب ، وبهذه الخصائص الفريدة ، وبهذه الوظائف اللطيفة الدقيقة المتنوعة الكثيرة . خارقة . خارقة نسيناها لطول تكرارها ، ولقربها منا ! ولكن التركيب العضوي لجارحة واحدة من جوارح هذا الإنسان مسألة تدير الرأس عجباً ودهشة واستهوالاً لهذا التركيب العجيب !
إن الحياة في أبسط صورها معجزة . في الإميبا ذات الخلية الواحدة . وفيما هو أصغر من الإميبا ! فكيف بها في هذا الإنسان الشديد التركيب والتعقيد ? وهو في تركيبه النفسي أشد تركباً وتعقداً من تركيبه العضوي !
وحوله تلك الخلائق التي تدب على الأرض أنواعاً وأجناساً ، وأشكالاً وأحجاماً ، لا يحصيها إلا الله . وأصغرها كأكبرها معجز في خلقه . معجز في تصريفه . معجز في تناسب حيواته على هذه الأرض ، بحيث
لا يزيد جنس عن حدود معينة ، تحفظ وجوده وامتداده ، وتمنع طغيانه على الأجناس الأخرى طغيان إبادة وإفناء . واليد الممسكة بزمام الأنواع والأجناس تزيد فيها وتنقص بحكمة وتقدير ؛ وتركب في كل منها من الخصائص والقوى والوظائف ما يحفظ التوازن بينها جميعاً . .
النسور جارحة ضارية وعمرها مديد . ولكنها في مقابل هذا نزرة قليلة البيض والفراخ بالقياس إلى العصافير والزرازير . . ولنا أن نتصور كيف كان الأمر يكون لو كان للنسور نسل العصافير ? وكيف كانت تقضي على جميع الطيور !
والأسود كذلك في عالم الحيوان كاسرة ضارية . فكيف لو كانت تنسل كالظباء والشاء ? إنها ما كانت تبقي على لحم في الغابة ولا غذاء . . ولكن اليد التي تمسك بالزمام تجعل نسلها محدوداً بالقدر المطلوب ! وتكثر من ذوات اللحوم من الظباء والشاء وما إليها لسبب معلوم .
والذبابة الواحدة تبيض في الدورة الواحدة مئات الألوف . . وفي مقابل هذا لا تعيش إلا حوالي أسبوعين اثنين . فكيف لو افلت الزمام فعاشت الذبابة الواحدة أشهراً أو سنين ? لكان الذباب يغطي الأجسام ويأكل العيون ? ولكن اليد المدبرة هناك تضبط الأمور وفق تقدير دقيق محسوب فيه حساب كل الحاجات والأحوال والظروف .
وهكذا وهكذا . في الخلق ذاته . وفي خصائصه . وفي تدبيره وتقديره . في عالم الناس ، وعالم الدواب . . في هذا كله آيات . آيات ناطقة . ولكن لمن ? من الذي يراها ويتدبرها ويدركها ?
واليقين هو الحالة المهيئة للقلوب كي تحس ، وكي تتأثر ، وكي تنيب . . اليقين الذي يدع القلوب تقر وتثبت وتطمئن ؛ وتتلقى حقائق الكون في هدوء ويسر وثقة ، وفي راحة من القلق والحيرة والزعزعة . فتصوغ من أقل ما تحصل ، أكبر النتائج وأعظم الآثار في هذا الوجود .
قوله تعالى : " إن في السماوات والأرض " أي في خلقهما " لآيات للمؤمنين ، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق " يعني المطر . " فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون " تقدم جميعه مستوفى في " البقرة " وغيرها{[13771]} . وقراءة العامة وما يبث من دابة آيات " " وتصريف الرياح آيات " بالرفع فيهما . وقرأ حمزة والكسائي بكسر التاء فيهما . ولا خلاف في الأول أنه بالنصب على اسم " إن " وخبرها " في السموات " . ووجه الكسر في " آيات " الثاني العطف على ما عملت فيه ، التقدير : إن في خلقكم وما يبث من دابة آيات . فأما الثالث فقيل : إن وجه النصب فيه تكرير " آيات " لما طال الكلام ، كما تقول : ضرب زيدا زيدا . وقيل : إنه على الحمل على ما عملت فيه " إن " على تقدير حذف " في " . التقدير : وفي اختلاف الليل والنهار آيات . فحذفت " في " لتقدم ذكرها . وأنشد سيبويه في الحذف :
أكلَّ امرئٍ تحسبين امرَأً *** ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نَارَا{[13772]}
فحذف " كل " المضاف إلى نار المجرورة لتقدم ذكرها . وقيل : هو من باب العطف على عاملين . ولم يجزه سيبوبه ، وأجازه الأخفش وجماعة من الكوفيين ، فعطف " واختلاف " على قوله : ( وفي خلقكم ) ثم قال : ( وتصريف الرياح آيات ) فيحتاج إلى العطف على عاملين ، والعطف على عاملين قبيح من أجل أن حروف العطف تنوب مناب العامل ، فلم تقو أن تنوب مناب عاملين مختلفين ؛ إذ لو ناب مناب رافع وناصب لكان رافعا ناصبا في حال . وأما قراءة الرفع فحملا على موضع " إن " مع ما عملت فيه . وقد ألزم النحويون في ذلك أيضا العطف على عاملين ؛ لأنه عطف " واختلاف " على " وفي خلقكم " ، وعطف " آيات " على موضع " آيات " الأول ، ولكنه يقدر على تكرير " في " . ويجوز أن يرفع على القطع مما قبله فيرفع بالابتداء ، وما قبله خبره ، ويكون عطف جملة على جملة . وحكى الفراء رفع " واختلاف " و " آيات " جميعا ، وجعل الاختلاف هو الآيات .
قوله : { وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون } هذان الخلقان الهائلان وهما السموات والأرض وما ذرأ الله فيهما من مختلف الأنواع من الملائكة والجن والإنس وما بث في البحر من مختلف الأجناس ، وكذلك اختلاف الليل والنهار في تعاقبهما على الدوام لا يفتران ، فإن في ذلك كله من الدلائل والعجائب والآيات ما فيه تنبيه للأذهان فتتفكر وتتدبر وتوقن أن ذلك بقدرة الصانع الخالق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.