في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ} (143)

142

ثم يحدث هذه الأمة عن حقيقتها الكبيرة في هذا الكون ، وعن وظيفتها الضخمة في هذه الأرض ، وعن مكانها العظيم في هذه البشرية ، وعن دورها الأساسي في حياة الناس ؛ مما يقتضي أن تكون لها قبلتها الخاصة ، وشخصيتها الخاصة ؛ وألا تسمع لأحد إلا لربها الذي اصطفاها لهذا الأمر العظيم :

( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ) . .

إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ؛ وتضع لهم الموازين والقيم ؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد ؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها ، وتقول : هذا حق منها وهذا باطل . لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها . وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم . . وبينما هي تشهد على الناس هكذا ، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها ؛ فيقرر لها موازينها وقيمها ؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها ؛ ويزن ما يصدر عنها ، ويقول فيه الكلمة الأخيرة . . وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها . . لتعرفها ، ولتشعر بضخامتها . ولتقدر دورها حق قدره ، وتستعد له استعدادا لائقا . .

وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل ، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد ، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي . .

( أمة وسطا ) . . في التصور والاعتقاد . . لا تغلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي . إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد ، أو جسد تتلبس به روح . وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد ، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها ، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع ، بلا تفريط ولا إفراط ، في قصد وتناسق واعتدال .

( أمة وسطا ) . . في التفكير والشعور . . لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجرتة والمعرفة . . . ولا تتبع كذلك كل ناعق ، وتقلد تقليد القردة المضحك . . إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب ؛ وشعارها الدئم : الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ، في تثبت ويقين .

( أمة وسطا ) . . في التنظيم والتنسيق . . لا تدع الحياة كلها للمشاعر ، والضمائر ، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب . إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب ، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب ؛ وتزاوج بين هذه وتلك ، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان ، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان . . ولكن مزاج من هذا وذاك .

( أمة وسطا ) . . في الارتباطات والعلاقات . . لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته ، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة ؛ ولا تطلقه كذلك فردا أثرا جشعا لا هم له إلا ذاته . . إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء ؛ وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه . ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو ، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة ؛ وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة ، والجماعة كافلة للفرد في كافلة للفرد في تناسق واتساق .

( أمة وسطا ) . . في المكان . . في سرة الأرض ، وفي أوسط بقاعها . وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب ، وجنوب وشمال ، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا ، وتشهد على الناس جميعا ؛ وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة ؛ وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك ؛ وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء .

( أمة وسطا ) . . في الزمان . . تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها ؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها . وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها ؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى ؛ وتزواج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات ، ورصيدها العقلي المستمر في النماء ؛ وتسيربها على الصراط السوي بين هذا وذاك .

وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها ، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها ، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها ، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها .

وأمة تلك وظيفتها ، وذلك دورها ، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية ، فللقيادة تكاليفها ، وللقوامة تبعاتها ، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى ، ليتأكد خلوصها لله وتجردها ، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة .

وإذن يكشف لهم عن حكمة اختيار القبلة التي كانوا عليها ، بمناسبة تحويلهم الآن عنها :

( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه )

ومن هذا النص تتضح خطة التربية الربانية التي يأخذ الله بها هذه الجماعة الناشئة ، التي يريد لها أن تكون الوارثة للعقيدة ، المستخلفة في الأرض تحت راية العقيدة . إنه يريد لها أن تخلص له ؛ وأن تتخلص من كل رواسب الجاهلية ووشائجها ؛ وأن تتجرد من كل سماتها القديمة ومن كل رغابها الدفينة ؛ وأن تتعرى من كل رداء لبسته في الجاهلية ، ومن كل شعار اتخذته ، وأن ينفرد في حسها شعار الإسلام وحده لا يتلبس به شعار آخر ، وأن يتوحد المصدر الذي تتلقى منه لا يشاركه مصدر آخر .

ولما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به في نفوس العرب فكرة أخرى غير فكرة العقيدة ؛ وشابت عقيدة جدهم إبراهيم شوائب من الشرك ، ومن عصبية الجنس ، إذ كان البيت يعتبر في ذلك الحين بيت العرب المقدس . . والله يريده أن يكون بيت الله المقدس ، لا يضاف إليه شعار آخر غير شعاره ، ولا يتلبس بسمة أخرى غير سمته .

لما كان الاتجاه إلى البيت الحرام قد تلبست به هذه السمة الأخرى ، فقد صرف الله المسلمين عنه فترة ، ووجههم إلى بيت المقدس ، ليخلص مشاعرهم من ذلك التلبس القديم أولا ؛ ثم ليختبر طاعتهم وتسليمهم للرسول [ ص ] ثانيا ، ويفرز الذين يتبعونه لأنه رسول الله ، والذين يتبعونه لأنه أبقى على البيت الحرام قبلة ، فاستراحت نفوسهم إلى هذا الإبقاء تحت تأثير شعورهم بجنسهم وقومهم ومقدساتهم القديمة .

إنها لفتة دقيقة شديدة الدقة . . إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شريكا ؛ ولا تقبل شعارا غير شعارها المفرد الصريح ؛ إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أية صورة من الصور . جل أم صغر . وهذا هو إيحاء ذلك النص القرآني : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) . . والله - سبحانه - يعلم كل ما يكون قبل أن يكون . ولكنه يريد أن يظهر المكنون من الناس ، حتى يحاسبهم عليه ، ويأخذهم به . فهو - لرحمته بهم - لا يحاسبهم على ما يعلمه من أمرهم ، بل على ما يصدر عنهم ويقع بالفعل منهم .

ولقد علم الله أن الانسلاخ من الرواسب الشعورية ، والتجرد من كل سمة وكل شعار له بالنفس علقة . . أمر شاق ، ومحاولة عسيرة . . إلا أن يبلغ الإيمان من القلب مبلغ الاستيلاء المطلق ، وإلا أن يعين الله هذا القلب في محاولته فيصله به ويهديه إليه :

( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) . .

فإذا كان الهدى فلا مشقة ولا عسر في أن تخلع النفس عنها تلك الشعارات ، وأن تنفض عنها تلك الرواسب ؛ وأن تتجرد لله تسمع منه وتطيع ، حيثما وجهها الله تتجه ، وحيثما قادها رسول الله تقاد .

ثم يطمئن المسلمين على إيمانهم وعلى صلاتهم . إنهم ليسوا على ضلال ، وإن صلاتهم لم تضع ، فالله سبحانه لا يعنت العباد ، ولا يضيع عليهم عبادتهم التي توجهوا بها إليه ؛ ولا يشق عليهم في تكليف يجاوز طاقتهم التي يضاعفها الإيمان ويقويها :

( وما كان الله ليضيع إيمانكم ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .

إنه يعرف طاقتهم المحدودة ، فلا يكلفهم فوق طاقتهم ؛ وإنه يهدي المؤمنين ، ويمدهم بالعون من عنده لاجتياز الامتحان ، حين تصدق منهم النية ، وتصح العزيمة . وإذا كان البلاء مظهرا لحكمته ، فاجتياز البلاء فضل رحمته : ( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) . .

بهذا يسكب في قلوب المسلمين الطمأنينة ، ويذهب عنها القلق ، ويفيض عليها الرضى والثقة واليقين . .