يذكر تعالى رحمته بعدم إنزاله الآيات التي يقترح بها المكذبون ، وأنه ما منعه أن يرسلها إلا خوفا من تكذيبهم لها ، فإذا كذبوا بها عاجلهم العقاب وحل بهم من غير تأخير كما فعل بالأولين الذين كذبوا بها .
ومن أعظم الآيات الآية التي أرسلها الله إلى ثمود وهي الناقة العظيمة الباهرة التي كانت تصدر عنها جميع القبيلة بأجمعها ومع ذلك كذبوا بها فأصابهم ما قص الله علينا في كتابه ، وهؤلاء كذلك لو جاءتهم الآيات الكبار لم يؤمنوا ، فإنه ما منعهم من الإيمان خفاء ما جاء به الرسول واشتباهه هل هو حق أو باطل ؟ فإنه قد جاء من البراهين الكثيرة ما دل على صحة ما جاء به الموجب لهداية من طلب الهداية فغيرها مثلها فلا بد أن يسلكوا بها ما سلكوا بغيرها فترك إنزالها والحالة هذه خير لهم وأنفع .
وقوله : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } أي : لم يكن القصد بها أن تكون داعية وموجبة للإيمان الذي لا يحصل إلا بها ، بل المقصود منها التخويف والترهيب ليرتدعوا عن ما هم عليه .
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا }
هذا كشف شبهة أخرى من شبه تكذيبهم إذ كانوا يسألون النبي أن يأتيهم بآيات على حسب اقتراحهم ، ويقولون : لو كان صادقاً وهو يطلب منا أن نؤمن به لجاءنا بالآيات التي سألناه ، غروراً بأنفسهم أن الله يتنازل لمباراتهم .
والجملة معطوفة على جملة { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها } الآية [ الإسراء : 58 ] ، أي إنما أمهلنا المتمردين على الكفر إلى أجل نزول العذاب ولم نجبهم إلى ما طلبوا من الآيات لعدم جدوى إرسال الآيات للأولين من قبيلهم في الكفر على حسب اقتراحهم فكذبوا بالآيات .
وحقيقة المنع : كف الفاعل عن فعل يريد فعله أو يسعى في فعله ، وهذا محال عن الله تعالى إذ لا مكره للقادر المختار . فالمنع هنا مستعار للصرف عن الفعل وعدم إيقاعه دون محاولة إتيَانِه .
والإرسال يجوز أن يكون حقيقة فيكون مفعول { أن نرسل } محذوفاً دل عليه فعل { نرسل } . والتقدير : أن نرسل رسولَنا ، فالباء في قوله : { بالآيات } للمصاحبة ، أي مصاحباً للآيات التي اقترحها المشركون . ويجوز أن يكون الإرسال مستعاراً لإظهار الآيات وإيجادها ، فتكون الباء مزيدة لتأكيد تعلق فعل { نرسل بالآيات } ، وتكون { بالآيات } مفعولاً في المعنى كقوله تعالى : { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
والتعريف في { بالآيات } على كلا الوجهين للعهد ، أي المعهودة من اقتراحهم كقولهم : { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } ، [ الإسراء : 90 ] و { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } [ القصص : 48 ] و { قالوا لن نؤمن حتى نوتَى مثل ما أوتي رسل الله } [ الأنعام : 124 ] على أحد التأويلين .
و ( أن ) الأولى مفيدة مصدراً منصوباً على نزع الخافض } ، وهو ( مِن ) التي يتعدى بها فعل المنع ، وهذا الحذف مطرد مع ( أن ) .
و ( أن ) الثانية مصدرها فاعل منعنا } على الاستثناء المفرغ .
وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين بالآيات مجاز عقلي لأن التكذيب سبب الصرف .
والمعنى : أننا نعلم أنهم لا يؤمنون كما لم يؤمن من قبلهم من الكفرة لما جاءتهم أمثال تلك الآيات . فعلم الناس أن الإصْرار على الكفر سجية للمشرك لا يقلعها إظهار الآيات ، فلو آمن الأولون عندما أظهرت لهم الآيات لكان لهؤلاء أن يجعلوا إيمانهم موقوفاً على إيجاد الآيات التي سألوها . قال تعالى : { إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية } [ يونس : 96 97 ] .
والأظهر أن هذا تثبيت لأفئدة المؤمنين لئلا يفتنهم الشيطان ، وتسلية للنبيء لحرصه على إيمان قومه فلعله يتمنى أن يجيبهم الله لما سألوا من الآيات ولحزنه من أن يظنوه كاذباً .
وجملة { وآتينا ثمود الناقة } في محل الحال من ضمير الجلالة في { منعنا } ، أي وقد آتينا ثموداً آية كما سألوه فزادوا كفراً بسببها حتى عجل لهم العذاب .
ومعنى { مبصرة } واضحة الدلالة ، فهو اسم فاعل أبصر المتعدي إلى مفعول ، أي جعل غيرَه مُبصراً وذا بصيرة . فالمعنى : أنها مفيدة البصيرة ، أي اليقين ، أي تجعل من رآها ذا بصيرة وتفيدهُ أنها آية . ومنه قوله تعالى : { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين } [ النمل : 13 ] .
وخص بالذكر ثمود وآيتها لشهرة أمرهم بين العرب ، ولأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبَة من أهل مكة يبصرها صادرهم وواردهم في رحلاتهم بين مكة والشام .
وقوله : { فظلموا بها } يجوز أن يكون استُعمل الظلم بمعنى الكُفر لأنه ظلم النفس ، وتكون الباء للتعدية لأن فعل الكفر يعدى إلى المكفور بالباء . ويجوز أن يكون الظلم مضمناً معنى الجحد ، أي كابروا في كونها آية ، كقوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] . ويجوز بقاء الظلم على حقيقته ، وهي الاعتداء بدون حق ، والباء صلة لتوكيد التعدية مثل الباء في { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ، أي ظلموا الناقة حينَ عَقَروها وهي لم تجن عليهم ، فكان عقرها ظلماً . والاعتداء على العجماوات ظلم إذا كان غير مأذون فيه شرعاً كالصيد .
{ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا }
هذا بيان لحكمة أخرى في ترك إرسال الآيات إلى قريش ، تشير إلى أن الله تعالى أراد الإبقاء عليهم ليدخل منهم في الإسلام كثير ويكون نشر الإسلام على يد كثير منهم .
وتلك مكرمة للنبيء صلى الله عليه وسلم فلو أرسل الله لهم الآيات كما سألوا مع أن جبلتهم العناد لأصروا على الكفر فحقت عليهم سنّة الله التي قد خلت في عباده وهي الاستئصال عقب إظهار الآيات ، لأن إظهار الآيات تخويف من العذاب والله أراد الإبقاء على هذه الأمة قال : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] الآية ، فعوضنا تخويفهم بدلاً عن إرسال الآيات التي اقترحوها .
والقول في تعدية { وما نرسل بالآيات } كالقول في { وما منعنا أن نرسل بالآيات } معنى وتقديراً على الوجهين .
والقصر في قوله : { إلا تخويفاً } لقصر الإرسال بالآيات على علة التخويف ، وهو قصر إضافي ، أي لا مباراة بين الرسل وأقوامهم أو لا طمعاً في إيمان الأقوام فقد علمنا أنهم لا يؤمنون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.