ثم قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس ، ودعائهم الخلق إلى الله ، ثم فضل بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الأوصاف الحميدة والأفعال السديدة والنفع العام ، فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلام ، ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره ، وجمع الله له من المناقب ما فاق به الأولين والآخرين { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } الدالات على نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه { وأيدناه بروح القدس } أي : بالإيمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر به ، وقيل أيده بجبريل عليه السلام يلازمه في أحواله { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات } الموجبة للاجتماع على الإيمان { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } فكان موجب هذا الاختلاف التفرق والمعاداة والمقاتلة ، ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا الاختلاف ما اقتتلوا ، فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للأسباب ، وإنما تنفع الأسباب مع عدم معارضة المشيئة ، فإذا وجدت اضمحل كل سبب ، وزال كل موجب ، فلهذا قال { ولكن الله يفعل ما يريد } فإرادته غالبة ومشيئته نافذة ، وفي هذا ونحوه دلالة على أن الله تعالى لم يزل يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته ، ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الاستواء والنزول والأقوال ، والأفعال التي يعبرون عنها بالأفعال الاختيارية .
فائدة : كما يجب على المكلف معرفته بربه ، فيجب عليه معرفته برسله ، ما يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم ، ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم الله به في آيات متعددة ، منها : أنهم رجال لا نساء ، من أهل القرى لا من أهل البوادي ، وأنهم مصطفون مختارون ، جمع الله لهم من الصفات الحميدة ما به الاصطفاء والاختيار ، وأنهم سالمون من كل ما يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية ، وأنهم لا يقرون على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف ، وأن الله تعالى خصهم بوحيه ، فلهذا وجب الإيمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ، ومن قدح في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ، ودلائل هذه الجمل كثيرة ، من تدبر القرآن تبين له الحق .
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ }
{ تلك } رفع بالابتداء ، و { الرسل } خبره ، ويجوز أن يكون { الرسل } عطف بيان و { فضلنا } الخبر ، و { تلك } إشارة إلى جماعة مؤنثة اللفظ ، ونص الله في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض( {[2410]} ) وذلك في الجملة دون تعيين مفضول . وهكذا هي الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإنه قال : «أنا سيد ولد آدم »( {[2411]} ) ، وقال : «لا تفضلوني على موسى »( {[2412]} ) ، وقال : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى »( {[2413]} ) ، وفي هذا نهي شديد عن تعيين المفضول ، لأن يونس عليه السلام كان شاباً( {[2414]} ) وتفسخ( {[2415]} ) تحت أعباء النبوءة ، فإذا كان هذا التوقف فيه لمحمد وإبراهيم ونوح فغيره أحرى ، فربط الباب أن التفضيل فيهم على غير تعيين المفضول ، وقد قال أبو هريرة : خير ولد آدم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وهم أولو العزم( {[2416]} ) والمكلم موسى صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم أنبي مرسل هو ؟ فقال نعم نبي مكلّم( {[2417]} ) ، وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة ، فعلى هذا تبقى خاصة موسى ، وقول تعالى : { ورفع بعضهم درجات } قال مجاهد وغيره : هي إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بعث إلى الناس كافة وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله( {[2418]} ) ، وهو أعظم الناس أمة ، وختم الله به النبوات إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله ، ومن معجزاته وباهر آياته ، ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره( {[2419]} ) ممن عظمت آياته ويكون الكلام تأكيداً للأول ، ويحتمل أن يريد رفع إدريس المكان العليّ( {[2420]} ) ومراتب الأنبياء في السماء( {[2421]} ) فتكون الدرجات في المسافة ويبقى التفضيل مذكوراً في صدر الآية فقط ، وبينات عيسى عليه السلام هي إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الطير من الطين ، و «روح القدس » جبريل عليه السلام ، وقد تقدم ما قال العلماء فيه( {[2422]} ) .
{ ولَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
ظاهر اللفظ في قولهم : من بعدهم يعطي أنه أراد القوم الذين جاؤوا من بعد جميع الرسل ، وليس كذلك المعنى ، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبي فلف الكلام لفاً يفهمه السامع ، وهذا كما تقول : اشتريت خيلاً ، ثم بعتها ، فجائزة لك هذه العبارة وأنت اشتريت فرساً ثم بعته ، ثم آخر وبعته ، ثم آخر وبعته ، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغياً وحسداً ، وعلى حطام الدنيا ، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى ، ولو شاء خلاف ذلك لكان . ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك . الفعال لما يريد ، فاقتتلوا بأن قتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر ، وذلك هو دفع الله الناس بعضهم ببعض .
موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها . فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله : { تلك ءايت اللَّه نتلوها عليك بالحق } [ البقرة : 252 ] . جمع ذلك كلّه في قوله : { تلك الرسل } لَفْتاً إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه . ولما أنهى ذلك كلّه عَقَّبه بقوله : { وإنّك لمن المرسلين } [ البقرة : 252 ] تذكيراً بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته . إذ ما كان لمثله قِبَلٌ بعلم ذلك لولا وحي الله إليه . وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة :
بني عمه دنيا وعمِرو بن عامر *** أولئك قومٌ بأسهم غير كاذب
والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله : { وإنّك لمن المرسلين } . وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال .
وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سوء فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال . فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن ، أي هي قصة الرسل وأممهم ، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويهاً بمراتبهم كقوله : { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ] .
واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر ، وليس الرسل بدلاً لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم ، وجملة « فضّلنا » حال .
والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام ، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض ، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المُصلِحة للبشر ومن نصر الحق ، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك ، وما أيَّدُوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر ، وفي عموم ذلك الهديِ ودوامهِ ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " لأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس " ، فما بالك بمن هدى الله بهم أمماً في أزمان متعاقبة ، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل . ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه .
وقد خصّ الله من جملة الرسل بعضاً بصفات يتعيّن بها المقصود منهم ، أو بذكر اسمه ، فذكر ثلاثةً إذ قال : منهم من كلَّم اللَّهُ ، وهذا موسى عليه السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن ، وذَكَر عيسى عليه السلام ، ووسط بينهما الإيماءَ إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه ، بقوله : { ورفع بعضهم درجات } .
وقوله : { ورفع بعضهم درجات } يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحداً من الرسل معيّناً لا طائفة ، وتكون الدرجات مراتبَ من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد : لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مُجملاً ، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكراراً مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض ، ولأنّه لو أريد بعضٌ فُضِّل على بعض لقال ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى : { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } [ الأنعام : 165 ] .
وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبّر بالبعض عن النفس كما في قول لبيد :
تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أرْضَها *** أوْ يعْتَلِقْ بعضَ النّفوسِ حِمَامُها
أراد نفسه ، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب :
إذا كان بعضُ النّاس سيفاً لِدَوْلَةٍ *** ففي النّاسِ بُوقات لها وطُبُول
والذي يعيِّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة :
إذا القَوْم قالوا مَنْ فتًى خِلْتُ أنّني *** عُنِيْتُ فلم أكسل ولم أتَبَلَّدِ
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى : { وما أرسلناك عليهم وكيلاً وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 54 ، 55 ] عَقب قوله : { وإذا قرآتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا } إلى أن قال { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } إلى قوله { ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض } [ الإسراء : 45 ، 55 ] .
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدمِ تعيين الفاضل من المفضول : ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم ، وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقّع الخطإ وعروض ، وليس ذلك بسهلٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطإ . فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع ، ومَنْ إليه التفضيل ، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله .
وهذا مورد الحديث الصحيح « لا تُفضّلوا بين الأنبياء » يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلاً . وقد ثبت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه . وهي متقارنة الدلالة تنصيصاً وظهوراً . إلاّ أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملاً بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع . وأعظمها آية { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرنَّه } [ آل عمران : 81 ] الآية .
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يقولَنّ أحَدُكُم أنا خير من يونس بن مَتَّى » يعني بقوله : « أنا » نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : « لا تُفَضِّلوني على مُوسَى » فذلك صدر قبل أن يُنبئَه اللَّهُ بأنّه أفضل الخلق عنده .
وهذه الدرجات كثيرة عرَفْنَا منها : عمومَ الرسالة لكافة الناس ، ودوامَها طُولَ الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعْوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارَهم وأموالَهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواتراً لا يجهلها إلاّ مُكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف ، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم .
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعَتَيْهما ، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع ، ممّا قبلها ، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام .
وتكليمُ الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطةِ جبريل ، بأن أسمعه كلاماً أيقن أنّه صادر بتكوين الله ، بأن خلق الله أصواتاً من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة ، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى : { وكلَّم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] في سورة النساء .
وقوله : { وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } البينات هي المعجزات الظاهرة البيّنة ، وروح القدس هو جبريل ، فإنّ الروح هنا بمعنى المَلَك الخاص كقوله : { تنزل الملائكة والروح فيها } [ القدر : 4 ] .
والقُدُس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميمَ بمعنى الخلوص والنزاهة ، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ولذلك يقال الروحُ القدس ، وقيل القُدُس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية ، أي روح من ملائكةِ الله .
وروح القدس هو جبريل قال تعالى : { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } [ النحل : 102 ] ، وفي الحديث : « إنّ رُوح القدس نفث في رُوعي أنّ نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها » وفي الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان : " اهجُهُم ومَعَك روحُ القدس " .
وإنّما وصف عيسى بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس ، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته ، وللرد على النصارى الذين غلَوْا فزعموا ألوهيته ، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه مهما ذكر للتنبيه على أنّ ابن الإنسان لا يكون إلهاً ، وعلى أنّ مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأنّ العرب لا تذكر أسماء نسائِها وإنّما تكنى ، فيقولون ربّة البيت ، والأهل ، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل ، أو أسماء الإماء .
{ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .
اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها وبين الجملة { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } [ البقرة : 254 ] ، فالواو اعتراضية : فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بَيّنَتْ خصال الشجاعة والجبن وآثارهما ، المقصود منه تشريعاً وتمثيلاً قتالُ أهلِ الإيمان لأهللِ الكفر لإعلاءِ كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهُدى وإزهاق الضلال . بيّن اللَّه بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا : بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل ، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا .
ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله : { من بعدهم } مراداً به جملة الرسّل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود ، ومقاتلة الفلسطينيِّين لبني إسرائيل انتصاراً لأصنامهم ، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصاراً لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليَمن ، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناوَوْه وقاتلوا المسلمين أهلَه ، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهودُ والنصارى ، ويكون المراد بالبيّنات دلائلِ صدق محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم ، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله : { وقاتلوا في سبيل الله واعلموا } [ البقرة : 244 ] إلخ .
ويجوز أن يكون ضمير « مِنْ بعدهم » ضميرَ الرسل على إرادة التوزيع ، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل ، فيكون مفيداً أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافاً واقتتالاً نشَآ من تكفير بعضهم بعضاً كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدِّين إلى حد عبادة الأوثان ، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفَّر بعضهم بعضاً ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالاً جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والمَلَكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّاراً لادّعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرَانسا وإسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا .
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً متواتراً بقوله في خطبة حجة الوداع : " فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض " يحذّرهم ما يقع من حروب الردَّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائللِ النبوءة العظيمة .
وورد في « الصحيح » قوله : " إذا التقَى المسلمان بسيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار " قيل يا رسول الله هذا القاتلُ ، فما بالُ المقتول ، قال : " أمَا إنَّه كان حريصاً على قتل أخيه " وذلك يفسّر بعضه بعضاً أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة .
والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ كقول طرفة :
فلو شاء ربي كنتُ قيس بن خالد *** ولو شاء ربي كنتُ عَمْرو بن مرثد
وقوله : { ولمن اختلفوا } استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل ، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا . وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال ، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطإ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أممِ الرسل كلٍ للأخرى كما في قوله : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } [ البقرة : 113 ] ، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان .
وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله : { فمنهم من آمن ومنهم من كفر } ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يُعْمِهم سوء الفهم وقلة الهدى .
لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسباباً لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذَنْ مركوزة في الطباع ، ولهذَا قال تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ثم قال : { ولكن اختلفوا } فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة . بيد أن الله تَعالى قد جعل أيضاً في العقول أصُولاً ضرورية قطعية أو ظنّية ظناً قريباً من القطع به تستطيع العقول أن تعيِّن الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلاتُ البعيدة التي تحمِل عليها المكابرةُ أو كراهيةُ ظهور المغلوبيّة ، أو حُب المدحة من الأشياع وأهلِ الأغراض ، أو السعي إلى عَرَض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غَرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافاً يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلافَ فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشيء بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال .
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها " لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنّه إذا كان يرى بعضَ أحوال الإيمان كفراً ، فقد صار هو كافراً لأنّه جعل الإيمان كفراً . وقال عليه الصلاة والسلام : « فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض » ، فجعل القتال شعار التكفير . وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافاً بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفَّروا علياً في قبوله تحكيم الحكمي ، ثم خلاف أتباع المقنَّع بخراسان الذي ادعى الإلاهية واتخذ وجهاً من ذهب ، وظهر سنة 159 وهلك سنة 163 ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائِبة مِن الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفَروا وادّعوا الحلول أي حلول الرب في المخلوقات واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة 293 . واختلف المسلمون أيضاً خلافاً كثيراً في المذاهب جَرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفِّرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة 333 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة 407 ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة 475 ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة 445 ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة 502 وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسْمَاعِيلية لأهل السنة في سَاوَة وغيرها من سنة 494 إلى سنة 523 .
ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية . ثم انقلبوا أنصاراً للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل . لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام . وتطرّقت كل جهة منه حتى البلدِ الحرام .
فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائللِ التي يتفادون بها عن التقاتل ، فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } فأعاد { ولو شاء الله ما اقتتلوا } تأكيداً للأول وتمهيداً لقوله : { ولكن الله يفعل ما يريد } ليعلَمَ الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعاً لهم لو أرادوا الاهتداء ، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكملَ من هذا الخَلق كما خلق الملائكةِ . فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرّطون في ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله}: وهو موسى صلى الله عليه وسلم، ومنهم من اتخذَه خليلا، وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن أُعْطِيَ الزّبورَ وتسبيحَ الجبال والطير، وهو داودُ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من سُخّرت له الريح والشياطين، وعُلِّم منطقَ الطير، وهو سليمانُ صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يُحْيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرصَ، ويَخلُق من الطين طيرا، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم، فهذه الدرجاتُ، يعني الفضائلَ... {ورفع بعضهم درجات} على بعض،
{وآتينا}...: يقول وأعطينا {عيسى ابن مريم البينات} يعني ما كان يَصنَع من العجائب، وما كان يُحيي من الموتى ويُبرئ الأكمه والأبرصَ ويَخلق من الطين...
{وأيدناه بروح القدس}: وقويناه بجبريل عليه السلام...
{ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم}: من بعد عيسى وموسى.
{من بعد ما جاءتهم البينات} العجائب التي كان يصنعها الأنبياء.
{ولكن اختلفوا}: فصاروا فريقين في الدين، فذلك قوله سبحانه: {فمنهم من آمن}: صدق بتوحيد الله عز وجل، {ومنهم من كفر} بتوحيد الله.
{ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد}؛ يعني أراد ذلك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{تِلْكَ الرّسُلُ}: الذين قصّ الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب... وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم، والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم، ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة... عن مجاهد يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة.
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسا لَمْ يُعْطَهُنّ أحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إلى الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، وَنُصِرْتُ بالرّعْبِ، فإنّ العَدُوّ لَيُرْعَبُ مِنّي على مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا، وأُحِلّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ولَمْ تَحِلّ لأحَدٍ كانَ قَبْلِي، وَقِيلَ لي: سَلْ تُعْطَهْ، فاخْتَبأتُها شَفاعَةً لأُمّتِي، فَهِيَ نائِلَةٌ مِنْكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ مَنْ لا يُشْرِكُ باللّهِ شَيْئا».
{وآتَيْنَا عِيسَى ابنَ مَرْيَمَ البَيّنَاتِ وَأيّدْناهُ بِرُوحِ القُدُسِ}: وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوّته: من إبراء الأكْمَهِ والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه.
{وأيّدْناهُ}: وقوّيناه وأعنّاه، {بِرُوحِ القُدُسِ}: بروح الله، وهو جبريل.
{وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلَ الّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ البَيّناتُ}: ولو أراد الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مُزْدَجَرٌ لمن هداه الله ووفقه.
{مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ}: من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.
وقد قيل: إن الهاء والميم في قوله: {مِنْ بَعْدِهِمْ} من ذكر موسى وعيسى. {وَلَكِنِ اختَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا وَلَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ}: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته. {وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما اقْتَتَلُوا}: ولو أراد الله أن يحجزهم بعصمته وتوفيقه إياهم عن معصيته فلا يقتتلوا ما اقتتلوا ولا اختلفوا. {وَلكِنّ الله يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}...يحتمل: في الحجاج والحجج على القوم لأن فيهم من كان أكثر محاجة لقومه وأعظم حججا، وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم وموسى. ويحتمل التفضيل التمكين في الأرض؛ مكن لبعضهم ما لم يمكن للباقين. ويحتمل ذلك في الشفاعة ورفع الدرجات. ويحتمل {بعضهم على بعض} في الرسالة لأن منهم من أرسل إلى الإنس والجن جميعا، ومنهم من أرسل إلى الإنس خاصة، ومنهم من أرسل إلى نفر، والله اعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}... في الآخرة، لتفاضلهم في الأعمال، وتحمل الأثقال... ويحتمل وجهاً... آخر: بالشرائع، فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع...
{وَلَو شَآءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فيه وجهان: أحدهما: ولو شاء الله ما أمر بالقتال بعد وضوح الحجة. والثاني: ولو شاء الله لاضطرهم إلى الإيمان، ولما حصل فهيم خيار...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... جمعتهم الرسالة ولكن تباينوا في خصائص التفضيل... فلم تكن فضائلهم استحقاقهم على أفعالهم وأحوالهم، بل حُكْمٌ بالحسنى أدركهم، وعاقبة بالجميل تداركتهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم درجات كثيرة. والظاهر أنه أراد محمداً صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية أو أكثر. ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات. وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس...
فإن قلت: فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين الله وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلاً بالآيات منهم فقد فضل على غيره.
ولما كان نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين.
{وَلَوْ شَاءَ الله} مشيئة إلجاء وقسر {مَا اقتتل الذين} من بعد الرسل، لاختلافهم في الدين، وتشعب مذاهبهم، وتكفير بعضهم بعضاً {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ} لالتزامه دين الأنبياء {وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} لإعراضه عنه {وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتلوا} كرّره للتأكيد {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من الخذلان والعصمة...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{فضلنا} نص في التفضيل في الجملة من غير تعيين مفضول: كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تخيروا بين الأنبياء، ولا تفضلوني على يونس بن متى". فإن معناه النهي عن تعيين المفضول، لأنه تنقيص له، وذلك غيبة ممنوعة، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بفضله على جميع الأنبياء بقوله: "أنا سيد ولد آدم "لا بفضله على واحد بعينه، فلا تعارض بين الحديثين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقدم في هذه السورة ذكر رسل كثيرة وختم هذه الآيات بأنه صلى الله عليه وسلم منهم تشوفت النفس إلى معرفة أحوالهم في الفضل هل هم فيه سواء أو هم متفاضلون، فأشار إلى علو مقادير الكل في قوله: {تلك الرسل} بأداة البعد إعلاماً ببعد مراتبهم و علو منازلهم وأنها بالمحل الذي لا ينال والمقام الذي لا يرام، وجعل الحرالي التعبير بتلك التي هي أداة التأنيث دون أولئك التي هي إشارة المذكر توطئة وإشارة لما يذكر بعد من اختلاف الأمم بعد أنبيائها وقال: يقول فيه النحاة إشارة لجماعة المؤنث وإنما هو في العربية لجماعة ثانية في الرتبة، لأن التأنيث أخذ الثواني عن أولية تناسبه في المعنى وتقابله في التطرق... ثم قال: ففي ضمن هذه الإشارة لأولي التنبه إشعار بما تتضمنه الآية من الإخبار النازل عن رتبة الثبات والدوام إلى رتبة الاختلاف والانقطاع كما أنه لما كان الذكر واقعاً في محل إعلاء في آية الأنعام قيل: {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90]
ولما كان شأن الاختلاف والانقطاع غير مستغرب في محل النقص والإشكال وطأ لهذا الواقع بعد الرسل بأنه ليس من ذلك وأنه من الواقع بعد إظهار التفضيل وإبلاغ البينات لما يشاءه من أمره...
ثم أتبع هذه الإشارة حالاً منها أو استئنافاً قوله: {فضلنا بعضهم على بعض} أي بالتخصيص بمآثر لم تجتمع لغيره بعد أن فضلنا الجميع بالرسالة. ولما كان أكثر السورة في بني إسرائيل وأكثر ذلك في أتباع موسى عليه الصلاة والسلام بدأ بوصفه، وثنى بعيسى عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الناسخ لشريعته وهو آخر أنبيائهم، فقال مبيناً لما أجمل من ذلك التفضيل بادئاً بدرجة الكلام لأنها من أعظم الدرجات لافتاً القول إلى مظهر الذات بما لها من جميع الصفات لأنه أوفق للكلام المستجمع للتمام: {منهم مَّن كَلّمَ الله} أي بلا واسطة بما له من الجلال كموسى ومحمد وآدم عليهم الصلاة والسلام {ورفع بعضهم} وهو محمد صلى الله عليه وسلم على غيره، ومن فوائد الإبهام الاستنباط بالدليل ليكون مع أنه أجلى أجدر بالحفظ وذلك الاستنباط أن يقال إنه سبحانه وتعالى قد عمهم بالتفضيل بالرسالة أولاً، ثم بين أنه فضل بعضهم على غيره، وذلك كله رفعة فلو كانت هذه مجرد رفعة لكان تكريراً فوجب أن يفهم أنها رفعة على أعلاهم، وأسقط الفوقية هنا إكراماً للرسل بخلاف ما في الزخرف فقال معيناً بعض ما اقتضاه التفضيل: {درجات} أي عظيمة بالدعوة العامة والمعجزات الباقية؛ والأتباع الكثيرة في الأزمان الطويلة، من غير تبديل ولا تحريف، وبنسخ شرعه لجميع الشرائع، وبكونه رحمة للعالمين، وأمته خير أمة أخرجت للناس، وكونه خاتماً للنبيين الذين أرسلهم سبحانه وتعالى عند الاختلاف مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، فلا نبي بعده ينسخ شريعته، وإنما يأتي النبي الناسخ لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام مقرراً لشريعته مجدداً لما درس منها كما كان من أنبياء بني إسرائيل الذين بينه وبين موسى عليهم الصلاة والسلام،
ولما كان الشخص لا يبين فضله إلا بآثاره وكانت آيات موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أكثر من آيات من سبقهما خصهما بالذكر إشارة إلى ذلك، فكان فيه إظهار الفضل لنبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه لا نسبة لما أوتي أحد من الأنبياء إلى ما أوتي، وإبهامه يدل على ذلك من حيث إنه إشارة إلى أن إبهامه في الظهور والجلاء كذكره، لأن ما وصف به لا ينصرف إلا إليه.
ولما كان الناس واقفين مع الحس إلا الفرد النادر وكان لعيسى صلى الله عليه وسلم من تكرر الآيات المحسوسات كالإحياء والإبراء ما ليس لغيره ومع ذلك ارتد أكثرهم بعد رفعه عليه الصلاة والسلام قال صارفاً القول إلى مظهر العظمة تهديداً لمن كفر بعد ما رأى أو سمع من تلك الآيات الكبر:
{وءاتينا} بما لنا من العظمة بالقدرة على كل شيء من الخلق والتصوير كيف نشاء وعلى غير ذلك {عيسى} ونسبه إلى أمه إشارة إلى أنه لا أب له فقال: {ابن مريم} أي الذي خلقناه منها بغير واسطة ذكرٍ أصلاً {البينات} من إحياء الموتى وغيره.
قال الحرالي: والبينة ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده، وذلك فيما أظهر الله سبحانه وتعلى على يديه من الإحياء والإماتة الذي هو من أعلى آيات الله، فإن كل باد في الخلق ومتنزل في الأمر فهو من آيات الله، فما كان أقرب إلى ما اختص الله تعالى به كان أعلى وأبهر، وما كان مما يجري نحوه على أيدي خلقه كان أخفى وألبس إلا على من نبه الله قلبه لاستبصاره فيه {وأيدناه} أي بعظمتنا البالغة
{بروح القدس} في إعلامه ذكر ما جعل تعالى بينه وبين عيسى عليه الصلاة والسلام في كيانه فجرى نحوه في عمله من واسطة الروح كما قال سبحانه وتعالى: {فأرسلنا إليها روحنا} [مريم: 17] كذلك كان فعله مع تأييده؛ وفي ذلك بينه وبين موسى عليهما الصلاة والسلام موازنة ابتدائية، حيث كان أمر موسى من ابتداء أمر التكليم الذي هو غاية سقوط الواسطة، وكان أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء أمر الإحياء الذي هو غاية تصرف المتصرفين...
ولما تقدم أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسلاً وأنزل معهم كتباً، وأنهم تعبوا ومستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى جمعوا الناس على الحق، وأن أتباعهم اختلفوا بعد ما جاءتهم البينات كان مما يتوجه النفس للسؤال عنه سبب اختلافهم، فبين أنه مشيئته سبحانه وتعالى لا غير إعلاماً بأنه الفاعل المختار فكان التقدير: ولو شاء الله سبحانه وتعالى لساوى بين الرسل في الفضيلة، ولو شاء لساوى بين أتباعهم في قبول ما أتوا به فلم يختلف عليهم اثنان، ولكنه لم يشأ ذلك فاختلفوا عليهم وهم يشاهدون البينات، وعطف عليه قوله تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم لافتاً القول إلى التعبير بالجلالة إشارة إلى أن الاختلاف مع دلالة العقل على أنه لا خير فيه شاهد للخالق بجميع صفات الجلال والجمال {ولو شاء الله} أي الذي له جميع الأمر. قال الحرالي: وهي كلمة جامعة قرآنية محمدية تشهد الله وحده وتمحو عن الإقامة ما سواه... {ما اقتتل} أي ما تكلف القتال مع أنه مكروه للنفوس {الذين من بعدهم} لاتفاقهم على ما فارقوا عليه نبيهم من الهدى. قال الحرالي: فذكر الاقتتال الذي إنما يقع بعد فتنة المقال بعد فتنة الأحوال بالضغائن والأحقاد بعد فقد السلامة بعد فقد الوداد بعد فقد المحبة الجامعة للأمة مع نبيها...
{من بعد ما جآءتهم البينات} أي على أيدي رسلهم. قال الحرالي: فيه إيذان بأن الوسائل والأسباب لا تقتضي آثارها إلا بإمضاء كلمة الله فيها...
{ولكن اختلفوا} لأنه سبحانه وتعالى لم يشأ اتفاقهم على الهدى {فمنهم} أي فتسبب عن اختلافهم أن كان منهم {من آمن} أي ثبت على ما فارق عليه نبيه حسبما دعت إليه البينات فكان إيمانه هذا هو الإيمان في الحقيقة لأنه أعرق في أمر الغيب {ومنهم من كفر} ضلالاً عنها أو عناداً.
ولما كان من الناس من أعمى الله قلبه فنسب أفعال المختارين من الخلق إليهم استقلالاً قال تعالى معلماً أن الكل بخلقه تأكيداً لما مضى من ذلك معيداً ذكر الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الحال في أمر القتال الكاشف لمن باشره في ضلال عن أقبح الخلال: {ولو شاء الله} الذي لا كفوء له
{ما اقتتلوا} بعد اختلافهم بالإيمان والكفر، وكرر الاسم الأعظم زيادة في الإعلام بعظم المقام {ولكن الله} أي بجلاله وعزّ كماله شاء اقتتالهم فإنه {يفعل ما يريد *} فاختلفوا واقتتلوا طوع مشيئته على خلاف طباعهم وما يناقض ما عندهم من العلم والحكمة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما مثاله مفصلا: كان الكلام إلى هنا في طلب بذل المال والنفس في سبيل الله تعالى، وقد ضرب له مثل الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فماتوا بجبنهم ولم تغن كثرتهم ثم أحياهم الله تعالى أي أحيا أمتهم بنفر منهم غيروا ما بأنفسهم، ومثلا الملأ من بني إسرائيل...
بعد هذا أراد سبحانه أن يقوي النفوس على القيام بذلك فذكر الأنبياء المرسلين الذين كانوا أقطاب الهداية، ومحل التوفيق منه والعناية، الذين بين الدليل في ّآخر السياق الماضي على أن المخاطب بهذا القرآن الذي فيه سيرتهم منهم. وكان قد ذكر قبل ذلك داود وما آتاه الله من الملك والنبوة ذكرهم مبينا تفضيل بعضهم على بعض، وخص بالذكر أو الوصف من بقي لهم أتباع وذكر ما كان من أمر أتباعهم من بعدهم في الاختلاف والاقتتال ثم عاد إلى الموضوع الأول وهو الإنفاق وبذل المال في سبيل الله لكن بأسلوب آخر كما ترى في الآية التي تلي هذه الآية.
قال تعالى: {تلك الرسل} أي المشار إليهم بقوله {وإنك لمن المرسلين} في آخر الآية السابقة، ومنهم داود الذي ذكر في الآية التي قبلها. وهذا أظهر من قولهم: المراد بالرسل من ذكروا في هذه السورة، أو من قص الله على النبي قبل هذا من أنبائهم، أو المراد جماعة الرسل
{فضلنا بعضهم على بعض} مع استوائهم في اختيار الله تعالى إياهم للتبليغ عنه وهداية خلقه إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة والتصريح بهذا التفضيل وذكر بعض المفضلين يشبه أن يكون استدراكا مع ما ذكر في الآيات السابقة من إيتائه تعالى داود الملك والحكمة وتعليمه مما يشاء، فهو يقول إنهم كلهم رسل الله، فهم حقيقيون بأن يتبعوا ويقتدى بهداهم، وإن امتاز بعضهم على بعض بما شاء الله من الخصائص في أنفسهم وفي شرائعهم وأممهم.
وقد بين هذا التفضيل في بعض المفضلين فقال: {منهم من كلم الله}؛ بصيغة الالتفات عن الضمير إلى التعبير بالظاهر لتفخيم شأن هذه المنقبة. والغرض من هذا الالتفات إلفات الأذهان إلى هذه المنبقة تفخيما لها وتعظيما لشأنها. وهذا التكليم كان من الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام كما قال تعالى في سورة النساء {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 143] وفي سورة الأعراف {قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} [الأعراف: 144] فهذه الآيات تدل على أن موسى قد خص بتكليم لم يكن لكل نبي مرسل، وإن كان وحي الله تعالى عاما لكل الرسل، ويطلق عليه كلام الله تعالى في سورة الشورى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء إنه عليم حكيم} [الشورى: 51] فجعل كلامه لرسله ثلاثة أنواع. والظاهر أن تكليم موسى كان من النوع الثاني في الآية وكلها تسمى وحي الله وكلام الله.
وقال بعضهم: إن هذا النوع من التكليم كان لنبينا عليه الصلاة والسلام في تجلي ليلة المعراج فهو المراد بمن كلم الله هنا، والجمهور على القول الأول، وإن كان لفظ "من "يتناول أكثر من واحد...
وأما قوله تعالى {ورفع بعضهم درجات} فذهب جماهير المفسرين إلى أن المراد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه ابن جرير عن مجاهد وأيده الأستاذ الإمام: إن الأسلوب يؤيده ويقتضيه. أي لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تتبع الرسل والتشنيع على اختلافهم واقتتالهم مع أن دينه واحد في جوهره. والموجود من هذه الأمم اليهود والنصارى والسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر ولعل ذكر آخرهم في الوسط للإشعار بكون شريعته وكذا أمته وسطا. أقول: ومن هذه الدرجات ما هو خصوصية في نفسه الشريفة، ومنها ما هو في كتابه وشريعته، ومنها ما هو في أمته. وآيات القرآن تنبئ بذلك كقوله تعالى في سورة القلم {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4] وقوله تعالى في أواخر سورة الأنبياء بعد ما ذكر نعمه على أشهرهم {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 108] ولم يقل مثل هذا في أحد منهم. وقوله في سورة سبأ {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [النبأ: 28] وقال تعالى في فضل القرآن
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] الآيات. وقال فيها {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الزمر: 23] الآية وقال فيها {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} [الزمر: 55] الآية وقال {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} [النحل: 89] وقال {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38]. ووصفه بالحكيم وبالمجيد وبالعظيم وبالمبين وبالفرقان، وحفظه من التحريف والتغيير والتبديل ووصف الشريعة بقوله تعالى في سورة الأعلى {ونيسرك لليسرى} [الأعلى: 8] وقال في أمته أي أمة الإجابة الذين اتبعوه حق الإتباع دون الذين لقبوا أنفسهم بلقب الإسلام ولم يهتدوا بهدى القرآن {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول شهيدا عليكم شهيدا} [البقرة: 143] وقال فيها من سورة آل عمران {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110] ولو أردت استقصاء الآيات في وجوه درجاته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأتيت بكثير وهذا القليل لا يقال له قليل.
وفي الأحاديث من ذكر خصائصه ما أفرد بالتأليف وهي مما يصح أن تعد من درجاته...
ثم قال تعالى {وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} البينات هي ما يتبين به الحق من الآيات والدلائل كما قال في هذه السورة {ولقد جاءكم موسى بالبينات} [البقرة: 92] وروح القدس هو روح الوحي الذي يؤيد الله به رسله كما قال لنبينا {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرننا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} [الشورى: 52] الآية. وقال له في سورة النحل {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [النحل: 102] وقال أبو مسلم: إن روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدسة التي أيد بها عيسى عليه السلام... ولعل النكتة في ذكر اسم عيسى عليه الصلاة السلام: أن ما آتاه إياه لما كان مشتركا كان ذكره بالإبهام غير صريح في كونه ممن فضل به أو الرد على الذين غلوا فيه، فزعموا أنه إله لا رسول مؤيد بآيات الله ظهر لي هذا عند الكتابة، ثم راجعت تفسير أبي السعود فإذا هو يقول: وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الجزء الثالث مؤلف من شطرين:الشطر الأول تتمة سورة البقرة التي استغرقت الجزءين الأولين. والشطر الثاني أوائل سورة آل عمران.. وسنتحدث هنا -إجمالا- عن الشطر الأول. أما الشطر الثاني فسيجيئ الحديث عنه عند استعراض سورة آل عمران إن شاء الله. وهذه البقية الباقية من سورة البقرة هي استطراد في موضوعها الرئيس الذي شرحناه في مطلع الجزء الأول، والذي ظللنا نطالعه في سياق السورة حتى نهاية الجزء الثاني. وهو إعداد الجماعة المسلمة في المدينة لتنهض بتكاليف الأمة المسلمة.. تنهض بها وقد تهيأت لهذه الأمانة الضخمة بالتصور الإيماني الصحيح؛ وزودت بتجارب الأمة المؤمنة على مدار الرسالات السابقة؛ وعرفت زاد الطريق كما عرفت مزالق الطريق؛ وحذرت كيد أعدائها.. أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإيمان.. لتكون منهم على بينة في كل مراحل الطريق. وهذا الإعداد بكل وسائله، وبكل زاده وتجاربه، وبكل أهدافه وغاياته.. هو هو الذي يعالج به القرآن الكريم أجيال الجماعة المسلمة على مدار الزمان بعد الجيل الأول. فهو المنهج الثابت الواضح المستقر لإنشاء الجماعة المسلمة، ولقيادة الحركة الإسلامية في كل جيل. والقرآن من ثم أداة حية متحركة فاعلة، ودستور شامل عامل في كل وقت؛ بل هو قيادة راشدة لمن يطلب عندها الرشد والهدى والنصيحة في كل موقف وفي كل خطوة وفي كل جيل.
تعريف بباقي سورة البقرة هذه البقية تأتي بعد قول الله لنبيه [ص] في نهاية الجزء الثاني من السورة: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق. وإنك لمن المرسلين).. وذلك تعقيبا على قصة الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى... والتي جاء في نهايتها: (وقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء).. فنهاية الجزء الثاني كانت حديثا عن قوم موسى، وكانت حديثا عن داود -عليهما السلام- وكانت كذلك إشارة إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى تزويده بتجارب (المرسلين). ومن ثم يبدأ الجزء الثالث بعد هذا حديثا ملتحما بما قبله عن الرسل، وتفضيل الله بعضهم على بعض، وخصائص بعضهم، ورفع بعضهم درجات.. وحديثا عن اختلاف من جاء بعدهم من اتباعهم، وقتال بعضهم لبعض...
ومناسبة هذا الاستطراد واضحة في الحديث عن الرسل بين أواخر الجزء الثاني وأوائل هذا الجزء الثالث.. والمناسبة كذلك واضحة في سياق السورة كله. فمعظم الجدل في السياق كان بين الجماعة المسلمة الناشئة في المدينة وبين بني إسرائيل -كما هو واضح من خلال الجزءين الأولين- ومن ثم يجيء الحديث هنا عن اختلاف اتباع الرسل من بعدهم واقتتالهم -بعد ما كفر منهم من كفر وآمن منهم من آمن- يجيء الحديث عن هذا الاختلاف والاقتتال في موضعه المناسب. لتمضي الأمة المسلمة في طريقها، تواجه بني إسرائيل وغيرهم وفق ما يقتضيه الموقف الواقعي بين اتباع الرسل:المستقيمين على الهدى والمنحرفين عن الطريق. ولتنهض هذه الأمة بتبعاتها، فهي الجماعة المهتدية التي ينبغي أن تكافح المنحرفين. لهذا يعقب ذلك البيان عن الرسل واتباعهم والاختلاف والاقتتال دعوة حارة إلى الإنفاق {من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}.. فالإنفاق هو فريضة المال الملازمة لفريضة الجهاد في جميع الأحوال؛ وبخاصة في الحالة التي كانت فيها الجماعة المسلمة، التي يتجهز فيها الغزاة في سبيل الله من مالهم ومن مال المنفقين في سبيل الله.
ثم بيان لقواعد التصور الإسلامي الذي يقوم عليه وجود الجماعة المسلمة. وهو بيان عن وحدانية الله وحياته، وقيامه على كل شيء وقيام كل شيء به، وملكيته المطلقة لكل شيء، وعلمه المحيط بكل شيء، وهيمنته الكاملة على كل شيء، وقدرته الكاملة وحفظه لكل شيء.. لا شفاعة عنده إلا بإذنه، ولا علم إلا ما يهبه وذلك ليمضي المسلم في طريقه، واضح التصور لعقيدته، التي يقوم عليها منهجه كله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم، له ما في السماوات وما في الأرض. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه. يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض. ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم}..
ثم هو يقاتل في سبيل الله، لا ليكره الناس على عقيدته هذه وعلى تصوره؛ ولكن ليتبين الرشد من الغي. وتنتفي عوامل الفتنة والضلالة. ثم ليكن من أمر الناس بعد ذلك ما يكون: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، والله سميع عليم}.. وهو يمضي مطمئنا في طريقه، في كنف الله وولايته، واثقا من هداية الله ورعايته {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
وهكذا تمضي هذه الفقرات المتتابعة في مطلع هذا الجزء. تمضي في الطريق الذي اتخذته السورة منذ مطالعها. لتحقيق أهدافها في حياة الجماعة المسلمة وغاياتها. يلي ذلك استطراد في توضيح التصور الإيماني لحقيقة الموت وحقيقة الحياة.. في سلسلة من التجارب يذكر إبراهيم -عليه السلام- في تجربتين منها، ويذكر شخص آخر لا يفصح عن اسمه في التجربة الثالثة.. وتنتهي كلها إلى إيضاح لحقيقة الموت ولحقيقة الحياة وارتباطهما مباشرة بإرادة الله وعلمه؛ واستعصاء هذا السر على الإدراك البشري أن يعرف كنهه؛ فهو فوق مجال الإدراك، ومرده إلى الله وحده دون سواه. وعلاقة هذا الاستطراد بأمر القتال والجهاد واضحة؛ كما أن علاقته بتصحيح التصور الإيماني بصفة عامة واضحة كذلك.
ومن هنا يبدأ في حديث طويل عن الارتباطات التي يقوم عليها المجتمع المسلم. فيقرر أن التكافل هو قاعدة هذا المجتمع وأن الربا منبوذ منه ملعون. ومن ثم يرد حديث عن الإنفاق والصدقة يستغرق مساحة واسعة من بقية السورة.. وهو حديث حافل بالصور والظلال، والإيقاعات والإيحاءات التي يحسن إرجاء وصفها إلى موضعها عند مواجهة نصوصها الجميلة. أما مناسبتها في هذا السياق فهي مناسبة قوية مع القتال والجهاد. كما أن النفقة في سبيل الله والصدقة جانب هام من جوانب الحياة الإسلامية العامة، التي تنظمها هذه السورة بشتى التشريعات وشتى التوجيهات.
وفي الجانب الآخر المقابل لجانب الإنفاق والصدقة يقوم الربا.. ذلك النظام الخبيث الذي يحمل عليه القرآن حملة قاصمة في خلال صفحة من المصحف، كأنما تنقض منها الصواعق لتحطيم هذا الأساس النكد للحياة الاقتصادية والاجتماعية؛ ولإقامة قاعدة أخرى سليمة قوية ينهض عليها بناء المجتمع الإسلامي الذي كان ينشئه الله -سبحانه- بهذا القرآن.
يليه تشريع الدين، الذي سبق به القرآن الكريم كل تشريع في موضوعه. وهو مسوق في آيتين، إحداهما أطول آية في القرآن الكريم. وتتجلى فيهما خاصية هذا القرآن في سوق تشريعاته سياقة حية موحية يتفرد بها تفردا كاملا معجزا.
وفي النهاية تختم السورة ختاما يتناسق تماما مع افتتاحها، ومع أظهر ما اشتمل عليه سياقها. ختاما يتناول قاعدة التصور الإسلامي في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله {لا نفرق بين أحد من رسله}.. وهي القاعدة التي تكرر إبرازها في السورة من قبل. كما يتناول دعاء رخيا من المسلمين لله. يقرر طبيعة العلاقة بين المؤمن وربه وحاله معه سبحانه. وفيه إشارة لما مر في السورة من تاريخ بني إسرائيل: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. واعف عنا واغفر لنا وارحمنا. أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}.. وهو ختام يناسب المطلع ويناسب السياق الطويل الدقيق..
هذا الجزء الثالث مؤلف من شطرين:الشطر الأول تتمة سورة البقرة التي استغرقت الجزءين الأولين. والشطر الثاني أوائل سورة آل عمران.. وسنتحدث هنا -إجمالا- عن الشطر الأول. أما الشطر الثاني فسيجيء الحديث عنه عند استعراض سورة آل عمران إن شاء الله. وهذه البقية الباقية من سورة البقرة هي استطراد في موضوعها الرئيسي الذي شرحناه في مطلع الجزء الأول، والذي ظللنا نطالعه في سياق السورة حتى نهاية الجزء الثاني. وهو إعداد الجماعة المسلمة في المدينة لتنهض بتكاليف الأمة المسلمة.. تنهض بها وقد تهيأت لهذه الأمانة الضخمة بالتصور الإيماني الصحيح؛ وزودت بتجارب الأمة المؤمنة على مدار الرسالات السابقة؛ وعرفت زاد الطريق كما عرفت مزالق الطريق؛ وحذرت كيد أعدائها.. أعداء الله وأعداء الحق وأعداء الإيمان.. لتكون منهم على بينة في كل مراحل الطريق. وهذا الإعداد بكل وسائله، وبكل زاده وتجاربه، وبكل أهدافه وغاياته.. هو هو الذي يعالج به القرآن الكريم أجيال الجماعة المسلمة على مدار الزمان بعد الجيل الأول. فهو المنهج الثابت الواضح المستقر لإنشاء الجماعة المسلمة، ولقيادة الحركة الإسلامية في كل جيل. والقرآن من ثم أداة حية متحركة فاعلة، ودستور شامل عامل في كل وقت؛ بل هو قيادة راشدة لمن يطلب عندها الرشد والهدى والنصيحة في كل موقف وفي كل خطوة وفي كل جيل...
[و] هذه الآية تلخص قصة الرسل والرسالات -كما أنها أفردت جماعة الرسل وميزتها من بين الناس- فهي تقرر أن الله فضل بعض الرسل على بعض؛ وتذكر بعض أمارات التفضيل ومظاهره. ثم تشير إلى اختلاف الذين جاءوا من بعدهم من الأجيال المتعاقبة -من بعد ما جاءتهم البينات- وإلى اقتتالهم بسبب هذا الاختلاف. كما تقرر أن بعضهم آمن وبعضهم كفر. وأن الله قد قدر أن يقع بينهم القتال لدفع الكفر بالإيمان، ودفع الشر بالخير.. وهذه الحقائق الكثيرة التي تشير إليها هذه الآية تمثل قصة الرسالة وتاريخها الطويل.
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}.. والتفضيل هنا قد يتعلق بالمحيط المقدر للرسول. والذي تشمله دعوته ونشاطه. كأن يكون رسول قبيلة، أو رسول أمة، أو رسول جيل. أو رسول الأمم كافة في جميع الأجيال.. كذلك يتعلق بالمزايا التي يوهبها لشخصه أو لأمته. كما يتعلق بطبيعة الرسالة ذاتها ومدى شمولها لجوانب الحياة الإنسانية والكونية..
وقد ذكر النص هنا مثالين في موسى وعيسى -عليهما السلام- وأشار إشارة عامة إلى من سواهما: {منهم من كلم الله -ورفع بعضهم درجات- وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس}.. وحين يذكر تكليم الله لأحد من الرسل ينصرف الذهن إلى موسى -عليه السلام- ومن ثم لم يذكره باسمه. وذكر عيسى بن مريم -عليه السلام- وهكذا يرد اسمه منسوبا إلى أمه في أغلب المواضع القرآنية. والحكمة في هذا واضحة. فقد نزل القرآن وهناك حشد من الأساطير الشائعة حول عيسى -عليه السلام- وبنوته لله -سبحانه وتعالى- أو عن ازدواج طبيعته من اللاهوت والناسوت. أو عن تفرده بطبيعة إلهية ذابت فيها الطبيعة الناسوتية كالقطرة في الكأس! إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي غرقت الكنائس والمجامع في الجدل حولها؛ وجرت حولها الدماء أنهارا في الدولة الرومانية! ومن ثم كان هذا التوكيد الدائم على بشرية عيسى -عليه السلام- وذكره في معظم المواضع منسوبا إلى أمه مريم..
أما روح القدس فالقرآن يعني به جبريل -عليه السلام- فهو حامل الوحي إلى الرسل. وهذا أعظم تأييد وأكبره. وهو الذي ينقل الإشارة الإلهية إلى الرسل بانتدابهم لهذا الدور الفذ العظيم، وهو الذي يثبتهم على المضي في الطريق الشاق الطويل؛ وهو الذي يتنزل عليهم بالسكينة والتثبيت والنصر في مواقع الهول والشدة في ثنايا الطريق.. وهذا كله التأييد
أما البينات التي آتاها الله عيسى -عليه السلام- فتشمل الإنجيل الذي نزله عليه، كما تشمل الخوارق التي أجراها على يديه، والتي ورد ذكرها مفصلة في مواضعها المناسبة من القرآن. تصديقا لرسالته في مواجهة بني إسرائيل المعاندين! ولم يذكر النص هنا محمدا [ص] لأن الخطاب موجه إليه. كما جاء في الآية السابقة في السياق: تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين.. تلك الرسل.. إلخ. فالسياق سياق إخبار له عن غيره من الرسل. وحين ننظر إلى مقامات الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- من أية ناحية نجد محمدا [ص] في القمة العليا. وسواء [أنظرنا] إلى الأمر من ناحية شمول الرسالة وكليتها، [أم] من ناحية محيطها وامتدادها، فإن النتيجة لا تتغير..
إن الإسلام هو أكمل تصور لحقيقة الوحدة -وهي أضخم الحقائق على الإطلاق- وحدة الخالق الذي ليس كمثله شيء. ووحدة الإرادة التي يصدر عنها الوجود كله بكلمة: (كن). ووحدة الوجود الصادر عن تلك الإرادة. ووحدة الناموس الذي يحكم هذا الوجود. ووحدة الحياة من الخلية الساذجة إلى الإنسان الناطق. ووحدة البشرية من آدم -عليه السلام- إلى آخر أبنائه في الأرض. ووحدة الدين الصادر من الله الواحد إلى البشرية الواحدة. ووحدة جماعة الرسل المبلغة لهذه الدعوة. ووحدة الأمة المؤمنة التي لبت هذه الدعوة. ووحدة النشاط البشري المتجه إلى الله وإعطائه كله اسم "العبادة". ووحدة الدنيا والآخرة داري العمل والجزاء. ووحدة المنهج الذي شرعه الله للناس فلا يقبل منهم سواه. ووحدة المصدر الذي يتلقون عنه تصوراتهم كلها ومنهجهم في الحياة... ومحمد [ص] هو الذي أطاقت روحه التجاوب المطلق مع حقيقة الوحدة الكبرى؛ كما أطاق عقله تصور هذه الوحدة وتمثلها؛ كما أطاق كيانه تمثيل هذه الوحدة في حياته الواقعة المعروضة للناس. كذلك هو الرسول الذي أرسل إلى البشر كافة، من يوم مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ والذي اعتمدت رسالته على الإدراك الإنساني الواعي دون ضغط حتى من معجزة مادية قاهرة، ليعلن بذلك عهد الرشد الإنساني. ومن ثم كان هو خاتم الرسل. وكانت رسالته خاتمة الرسالات. ومن ثم انقطع الوحي بعده؛ وارتسمت للبشرية في رسالته تلك الوحدة الكبرى؛ وأعلن المنهج الواسع الشامل الذي يسع نشاط البشرية المقبل في إطاره؛ ولم تعد إلا التفصيلات والتفسيرات التي يستقل بها العقل البشري -في حدود المنهج الرباني- ولا تستدعي رسالة إلهية جديدة. وقد علم الله -سبحانه- وهو الذي خلق البشر؛ وهو الذي يعلم ما هم ومن هم؛ ويعلم ما كان من أمرهم وما هو كائن.. قد علم الله -سبحانه- أن هذه الرسالة الأخيرة، وما ينبثق عنها من منهج للحياة شامل، هي خير ما يكفل للحياة النمو والتجدد والانطلاق. فأيما إنسان زعم لنفسه أنه أعلم من الله بمصلحة عباده؛ أو زعم أن هذا المنهج الرباني لم يعد يصلح للحياة المتجددة النامية في الأرض؛ أو زعم أنه يملك ابتداع منهج أمثل من المنهج الذي أراده الله.. أيما إنسان زعم واحدة من هذه الدعاوى أو زعمها جميعا فقد كفر كفرا صراحا لا مراء فيه؛ وأراد لنفسه وللبشرية شر ما يريده إنسان بنفسه وبالبشرية؛ واختار لنفسه موقف العداء الصريح لله، والعداء الصريح للبشرية التي رحمها الله بهذه الرسالة، وأراد لها الخير بالمنهج الرباني المنبثق منها ليحكم الحياة البشرية إلى آخر الزمان.
وبعد فقد اقتتل اتباع {تلك الرسل}. ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم، ووحدة الرسالة التي جاءوا بها كلهم.. لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف اتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم -من بعد ما جاءتهم البينات- ولكن اختلفوا: فمنهم من آمن ومنهم من كفر. ولو شاء الله ما اقتتلوا. ولكن الله يفعل ما يريد} إن هذا الاقتتال لم يقع مخالفا لمشيئة الله. فما يمكن أن يقع في هذا الكون ما يخالف مشيئته -سبحانه- فمن مشيئته أن يكون هذا الكائن البشري كما هو. بتكوينه هذا واستعداداته للهدى وللضلال. وأن يكون موكولا إلى نفسه في اختيار طريقه إلى الهدى أو إلى الضلال. ومن ثم فكل ما ينشأ عن هذا التكوين وإفرازاته واتجاهاته داخل في إطار المشيئة؛ وواقع وفق هذه المشيئة. كذلك فإن اختلاف الاستعدادات بين فرد وفرد من هذا الجنس سنة من سنن الخالق، لتنويع الخلق -مع وحدة الأصل والنشأة- لتقابل هذه الاستعدادات المختلفة وظائف الخلافة المختلفة المتعددة المتنوعة. وما كان الله ليجعل الناس جميعا نسخا مكررة كأنما طبعت على ورق "الكربون".. على حين أن الوظائف اللازمة للخلافة في الأرض وتنمية الحياة وتطويرها منوعة متباينة متعددة.. أما وقد مضت مشيئة الله بتنويع الوظائف فقد مضت كذلك بتنويع الاستعدادات. ليكون الاختلاف فيها وسيلة للتكامل. وكلف كل إنسان أن يتحرى لنفسه الهدى والرشاد والإيمان. وفيه الاستعداد الكامن لهذا، وأمامه دلائل الهدى في الكون، وعنده هدى الرسالات والرسل على مدار الزمان. وفي نطاق الهدى والإيمان يمكن أن يظل التنوع الخير الذي لا يحشر نماذج الناس كلهم في قالب جامد!
{ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر}.. وحين يصل الاختلاف إلى هذا المدى، فيكون اختلاف كفر وإيمان، يتعين القتال. يتعين لدفع الناس بعضهم ببعض. دفع الكفر بالإيمان. والضلال بالهدى، والشر بالخير. فالأرض لا تصلح بالكفر والضلال والشر. ولا يكفي أن يقول قوم: إنهم اتباع أنبياء إذا وصل الاختلاف بينهم إلى حد الكفر والإيمان. وهذه هي الحالة التي كانت تواجهها الجماعة المسلمة في المدينة يوم نزل هذا النص.. كان المشركون في مكة يزعمون أنهم على ملة إبراهيم! وكان اليهود في المدينة يزعمون أنهم على دين موسى. كما كان النصارى يزعمون أنهم على دين عيسى.. ولكن كل فرقة من هؤلاء كانت قد بعدت بعدا كبيرا عن أصل دينها، وعن رسالة نبيها. وانحرفت إلى المدى الذي ينطبق عليه وصف الكفر. وكان المسلمون عند نزول هذا النص يقاتلون المشركين من العرب. كما كانوا على وشك أن يوجهوا إلى قتال الكفار من أهل الكتاب. ومن ثم جاء هذا النص يقرر أن الاقتتال بين المختلفين على العقيدة إلى هذا الحد، هو من مشيئة الله وبإذنه: {ولو شاء الله ما اقتتلوا}.. ولكنه شاء. شاء ليدفع الكفر بالإيمان؛ وليقر في الأرض حقيقة العقيدة الصحيحة الواحدة التي جاء بها الرسل جميعا، فانحرف عنها المنحرفون. وقد علم الله أن الضلال لا يقف سلبيا جامدا، إنما هو ذو طبيعة شريرة. فلا بد أن يعتدي، ولا بد أن يحاول إضلال المهتدين، ولا بد أن يريد العوج ويحارب الاستقامة. فلا بد من قتاله لتستقيم الأمور.
{ولكن الله يفعل ما يريد}. مشيئة مطلقة. ومعها القدرة الفاعلة. وقد قدر أن يكون الناس مختلفين في تكوينهم. وقدر أن يكونوا موكولين إلى أنفسهم في اختيار طريقهم. وقدر أن من لا يهتدي منهم يضل. وقدر أن الشر لا بد أن يعتدي ويريد العوج. وقدر أن يقع القتال بين الهدى والضلال. وقدر أن يجاهد أصحاب الإيمان لإقرار حقيقته الواحدة الواضحة المستقيمة؛ وأنه لا عبرة بالانتساب إلى الرسل من اتباعهم، إنما العبرة بحقيقة ما يعتقدون وحقيقة ما يعملون. وأنه لا يعصمهم من مجاهدة المؤمنين لهم أن يكونوا ورثة عقيدة وهم عنها منحرفون.. وهذه الحقيقة التي قررها الله للجماعة المسلمة في المدينة حقيقة مطلقة لا تتقيد بزمان. إنما هي طريقة القرآن في اتخاذ الحادثة المفردة المقيدة مناسبة لتقرير الحقيقة المطردة المطلقة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها. فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله: {تلك ءايات اللَّه نتلوها عليك بالحق} [البقرة: 252]. جمع ذلك كلّه في قوله: {تلك الرسل} لَفْتاً إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه
وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال. و... لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساؤوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سوء فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال. فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع ضمير الشأن، أي هي قصة الرسل وأممهم، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمداً عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمداً صلى الله عليه وسلم. وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويهاً بمراتبهم كقوله: {ذلك الكتاب} [البقرة: 2].
واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر، وليس الرسل بدلاً لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم،
وجملة « فضّلنا» حال. والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم السلام، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلاّ الله تعالى، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المُصلِحة للبشر ومن نصر الحق، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك، وما أيَّدُوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر، وفي عموم ذلك الهديِ ودوامهِ، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"لأنْ يهدي الله بك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس"، فما بالك بمن هدى الله بهم أمماً في أزمان متعاقبة، ومن أجل ذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل. ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه السلام فيما لقي من قومه.
وقد خصّ الله من جملة الرسل بعضاً بصفات يتعيّن بها المقصود منهم، أو بذكر اسمه، فذكر ثلاثةً إذ قال: منهم من كلَّم اللَّهُ، وهذا موسى عليه السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن، وذَكَر عيسى عليه السلام، ووسط بينهما الإيماءَ إلى محمد صلى الله عليه وسلم بوصفه، بقوله: {ورفع بعضهم درجات}. وقوله: {ورفع بعضهم درجات} يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحداً من الرسل معيّناً لا طائفة، وتكون الدرجات مراتبَ من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد: لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مُجملاً، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكراراً مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض، ولأنّه لو أريد بعضٌ فُضِّل على بعض لقال، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} [الأنعام: 165]. وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلِّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى الله عليه وسلم والعرب تعبّر بالبعض عن النفس...
وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى: {وما أرسلناك عليهم وكيلاً وربّك أعلم بمن في السموات والأرض ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 54، 55] عَقب قوله: {وإذا قرأتَ القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا} إلى أن قال {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن} إلى قوله {ولقد فضّلنا بعض النبيين على بعض} [الإسراء: 45، 55]. وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدمِ تعيين الفاضل من المفضول: ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفةِ خيرٍ لا يخلُونَ من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم، وفي تمييز صفات التفاضل غموض، وتطرق لتوقّع الخطأ وعروض، وليس ذلك بسهلٍ على العقول المعرّضة للغفلة والخطأ. فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع، ومَنْ إليه التفضيل، فليس من قدْر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم، وحسبهم الوقوف عندما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله. وهذا مورد الحديث الصحيح « لا تُفضّلوا بين الأنبياء» يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلاً. وقد ثبت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه. وهي متقارنة الدلالة تنصيصاً وظهوراً. إلاّ أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملاً بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع. وأعظمها آية {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيناكم من كتاب وحكمةٍ ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنُنّ به ولتنصُرنَّه} [آل عمران: 81] الآية. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يقولَنّ أحَدُكُم أنا خير من يونس بن مَتَّى» يعني بقوله: « أنا» نفسه على أرجح الاحتمالين، وقوله: « لا تُفَضِّلوني على مُوسَى» فذلك صدر قبل أن يُنبئَه اللَّهُ بأنّه أفضل الخلق عنده. وهذه الدرجات كثيرة عرَفْنَا منها: عمومَ الرسالة لكافة الناس، ودوامَها طُولَ الدهر، وختمها للرسالات، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعْوذة، وبدوام تلك المعجزة، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال، وبتيسير إدانة معانديه له، وتمليكه أرضهم وديارَهم وأموالَهم في زمن قصير، وبجعل نقل معجزته متواتراً لا يجهلها إلاّ مُكابر، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى الله عليه وسلم. وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى عليهما السلام لشدة الشبه بين شريعَتَيْهما، لأنّ شريعة موسى عليه السلام أوسع الشرائع، ممّا قبلها، بخلاف شريعة عيسى عليه السلام. وتكليمُ الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطةِ جبريل، بأن أسمعه كلاماً أيقن أنّه صادر بتكوين الله، بأن خلق الله أصواتاً من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة، وسيجيئ بيان ذلك عند قوله تعالى: {وكلَّم الله موسى تكليماً} [النساء: 164] في سورة النساء.
وقوله: {وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس} الب؟؟نات هي المعجزات الظاهرة البيّنة، وروح القدس هو جبريل، فإنّ الروح هنا بمعنى المَلَك الخاص كقوله: {تنزل الملائكة والروح فيها} [القدر: 4]. والقُدُس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميمَ بمعنى الخلوص والنزاهة، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة، ولذلك يقال الروحُ القدس، وقيل القُدُس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية، أي روح من ملائكةِ الله. وروح القدس هو جبريل قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} [النحل: 102]، وفي الحديث: « إنّ رُوح القدس نفث في رُوعي أنّ نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها» وفي الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "اهجُهُم ومَعَك روحُ القدس". وإنّما وصف عيسى بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس، للرد على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته، وللرد على النصارى الذين غلَوْا فزعموا ألوهيته، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه مهما ذكر للتنبيه على أنّ ابن الإنسان لا يكون إلهاً، وعلى أنّ مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأنّ العرب لا تذكر أسماء نسائِها وإنّما تكنى، فيقولون ربّة البيت، والأهل، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل، أو أسماء الإماء.
{وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}. اعتراض بين الفذلكة المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها وبين الجملة {يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم} [البقرة: 254]، فالواو اعتراضية: فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بَيّنَتْ خصال الشجاعة والجبن وآثارهما، المقصود منه تشريعاً وتمثيلاً قتالُ أهلِ الإيمان لأهللِ الكفر لإعلاءِ كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهُدى وإزهاق الضلال. بيّن اللَّه بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا: بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا. ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله: {من بعدهم} مراداً به جملة الرسّل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود، ومقاتلة الفلسطينيِّين لبني إسرائيل انتصاراً لأصنامهم، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصاراً لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليَمن، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناوَوْه وقاتلوا المسلمين أهلَه، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهودُ والنصارى، ويكون المراد بالبيّنات دلائلِ صدق محمد صلى الله عليه وسلم فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله: {وقاتلوا في سبيل الله واعلموا} [البقرة: 244] إلخ. ويجوز أن يكون ضمير « مِنْ بعدهم» ضميرَ الرسل على إرادة التوزيع، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل، فيكون مفيداً أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافاً واقتتالاً نشَآ من تكفير بعضهم بعضاً كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدِّين إلى حد عبادة الأوثان، وكما وقع للنصارى في عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفَّر بعضهم بعضاً، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالاً جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والمَلَكية قبل الإسلام، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّاراً لادّعائهم ألوهية المسيح، فعظمت بذلك حروب بين فرَانسا وإسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا.
والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك، وقد حَذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك تحذيراً متواتراً بقوله في خطبة حجة الوداع: "فَلاَ ترجعوا بعدي كُفّاراً يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعض "يحذّرهم ما يقع من حروب الردَّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير، وهذه الوصية من دلائلِ النبوءة العظيمة. وورد في « الصحيح» قوله: "إذا التقَى المسلمان بسيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النار" قيل يا رسول الله هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول، قال: "أمَا إنَّه كان حريصاً على قتل أخيه" وذلك يفسّر بعضه بعضاً أنّه القتالَ على اختلاف العقيدة. والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقْبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عَرض الدنيا، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا، وشاء اختلافهم فاختلفوا، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقديرِ لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلَوْ. وقوله: {ولكن اختلفوا} استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله: وهو ما اقتتل، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لِجواب لوْ وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لَمَا اقتتلوا. وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تَرْكَهم الاقتتال، هو أنه خلَق داعية الاختلاف فيهم، فبتلك الداعية اختلفوا، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطإ أهل الدين فيه إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به، وإن كان المراد اختلاف أممِ الرسل كلٍ للأخرى كما في قوله: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء} [البقرة: 113]، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه، فاقتتل الفريقان. وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله: {فمنهم من آمن ومنهم من كفر} ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يُعْمِهم سوء الفهم وقلة الهدى. لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسباباً لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب، فأسباب الاختلاف إذَنْ مركوزة في الطباع، ولهذَا قال تعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} ثم قال: {ولكن اختلفوا} فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة. بيد أن الله تَعالى قد جعل أيضاً في العقول أصُولاً ضرورية قطعية أو ظنّية ظناً قريباً من القطع به تستطيع العقول أن تعيِّن الحق من مختلف الآراء، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلاتُ البعيدة التي تحمِل عليها المكابرةُ أو كراهيةُ ظهور المغلوبيّة، أو حُب المدحة من الأشياع وأهلِ الأغراض، أو السعي إلى عَرَض عاجل من الدنيا، ولو شاء الله ما غَرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافاً يدوم، ولكن اختلفوا هذا الخلافَ فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، فلا عذر في القتال إلا لفريقين: مؤمن، وكافر بما آمن به الآخر، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم، أما الخلاف الناشئ بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها" لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر، ولأنّه إذا كان يرى بعضَ أحوال الإيمان كفراً، فقد صار هو كافراً لأنّه جعل الإيمان كفراً. وقال عليه الصلاة والسلام: « فلا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض»، فجعل القتال شعار التكفير. وقد صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافاً بلغ بهم إلى التكفير والقتال... فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصاله العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائلِ التي يتفادون بها عن التقاتل، فهم ملومون من هذه الجهة، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة، ولذلك قال: {ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} فأعاد {ولو شاء الله ما اقتتلوا} تأكيداً للأول وتمهيداً لقوله: {ولكن الله يفعل ما يريد} ليعلَمَ الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعاً لهم لو أرادوا الاهتداء، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكملَ من هذا الخَلق كما خلق الملائكةِ. فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى، وهم يفرّطون في ذلك...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة ذكر الله سبحانه وتعالى اصطراع الحق مع الباطل، وانتصار الحق في المآل، لأن غلبة الباطل فيها فساد الأرض {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة 251) وذكر في ختام الآيات السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم من المرسلين الذين بعثوا لينصروا الحق، وليعم نور الله في الآفاق. وفي هذه الآيات التالية يبين سبحانه أن الرسل، وإن كانوا جميعا مبعوثين من رب العالمين، ليسوا في درجة واحدة، وأن بعثهم ينصر الحق ولا يمحو الباطل، ويرفع منار الهدى، ولا يزيل الضلال، ولكنه يكون ضلالا بعد البينات، ولا يكون ضلالا عن جهالة، فلا يعذر فيه الضال، ولذلك كان القتال بعد الأنبياء بين المهتدين والضالين، وتلك إرادة الله، وقد ابتلى الخير بالشر، والمهتدين بالضالين {وليمحص الله الذين آمنوا} (آل عمران 141).
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} الإشارة هنا إلى جماعة الرسل الحاضرة في ذهن التالي للقرآن الكريم، المستقرة في وعيه بما ختمت به الآيات السابقة، وهو قوله تعالى: {وإنك لمن المرسلين}. والإشارة باللفظ الدال على البعيد، لبيان علو منزلتهم أجمعين، وأنهم المصطفون الأخيار، وأنهم مهما تتفاوت منازلهم في رسالاتهم،هم جميعا ليسوا كسائر الناس، فلهم شرف البعث والرسالة والاصطفاء.
و التفضيل مشتق من الفضل وهو الزيادة، فمعنى {فضلنا بعضهم على بعض} هو كقوله تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض} (الإسراء 55) أي جعلنا لبعضهم زيادة في بعض النواحي على البعض الآخر. والفضل هنا إضافي وليس بذاتي، أي أن هذا ليس من ذات الرسل، إنما هو بما يختص الله بعضهم من معجزات مغايرة لمعجزات الآخرين. ثم التفضيل إضافي لأنه يكون في ناحية من النواحي، وقد يكون هناك ناحية أخرى فضل بها المفضول غيره، فموسى فضل على عيسى بأنه كلمه الله، وعيسى فضل على موسى بأنه أحيا الموتى؛ فالتفضيل إذن إضافي في موضوعه، وفي نوعه، وفي نواحيه.
و إن تفسير التفضيل على ذلك النحو فيه توفيق بين الآيات الكريمات المثبتة للتفضيل بين الرسل وبين ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن التخيير بين الأنبياء... و إن هذه الآية الكريمة سيقت لبيان فضل بعض النبيين على بعض لكيلا يندفع بعض الناس إلى الجحود، فيقولوا: إننا نتبع النبي موسى أو عيسى دون محمد، وما داموا جميعا أنبياء فأيهم نتبع يكون في اتباعه النجاة، فبين سبحانه أنه فضل بعض الرسل على بعض في الشريعة والزمان {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} أرسل الله سبحانه وتعالى رسله، وخص كل رسول بمعجزات قاطعة من شأنها أن تهدي إلى الصراط المستقيم إن استقامت الفطرة، ولم تنحرف العقول، ولم يطمس على القلوب، ولكن الدليل وحده لا يهدي، بل لابد من نفوس متقبلة، واتجاه لطلب الحق اتجاها مستقيما، ولذلك لم يكن الناس متفقين في تلقي ما جاء به الرسل بل كان منهم من غلبت عليه شقوته، فحارب الحق وحارب النبيين معه، ومنهم من آمن واهتدى، فكانت المغالبة بين الحق والباطل، والهداية والضلالة، وكان الاقتتال بين أنصار الحق، وأنصار الباطل، وبين الضالين والمهتدين، لا يترك الضالون الحق يسير في مجراه، ويصل في القلوب إلى منتهاه، بل يقاومونه، وينزلون الأذى بأهله. و هنا يتساءل العقل البشري: لماذا لم يكن الناس جميعا على شرع سواء؟ ولماذا لم يكن الناس جميعا على الهداية؟ فبين سبحانه وتعالى أن تلك مشيئته، وهذا هو التكوين الذي كون الخلق عليه، ولذا قال سبحانه وتعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم}، أي لو شاء ألا يقتتل الذين جاءوا من بعد الرسل ما اقتتلوا، فالمفعول للفعل شاء محذوف دل عليه جواب الشرط، والمعنى أن الذين جاءوا من بعد الرسل بعد أن بين لهم الرسل المحجة الواضحة البيضاء التي لا يضل فيها سالك، قد اقتتلوا حولها ما بين مؤيد لها، ومعاند كافر بها، ولو شاء الله سبحانه ألا يكون في كل نفس استعداد للطاعة، واستعداد للعصيان، ونزوع إلى الشر، واتجاه إلى الخير، كما قال تعالى في تكوين الإنسان: {وهديناه النجدين 10} (البلد)، أي خلقناه وفي نفسه استعداد للسير في نجد الخير، واستعداد للسير في نجد الشر، وكما قال تعالى: {ونفس وما سواها 7 فألهمها فجورها وتقواها 8} (الشمس)، وإذا كانت النفوس كذلك، فمنهم من يغلب عليه الخير فيطلب الحق ويهتدي به، ومنهم من يغلب عليه الشر فيعرض عن الخير وينأى بجانبه، فالأولون يؤمنون بما جاء به الرسل، والآخرون يكفرون بالحق الذي جاءوا به، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: {ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر} أي اختلفوا في النفوس والعقول والمدارك، واستقامة الفطرة وانحرافها، فترتب على ذلك أن كان منهم من آمن لأن قلبه يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، ومنهم من كفر لأن قلبه عمي عن إدراك الحق، واستولت عليه النزعات المردية، فاتخذ إلهه هواه.
و هنا إشارات بيانية من أسرار إعجاز القرآن، فلنذكر بعضها مما أدركته مداركنا: -ومن هذه الإشارات البيانية الرائعة،
أن الله سبحانه وتعالى ذكر المسبب قبل أن يذكر السبب؛ لأن الاختلاف في الإيمان هو سبب الاقتتال، فذكر الله سبحانه وتعالى أولا الاقتتال الذي هو النتيجة لهذا الاختلاف، للإشارة إلى بيان أسوأ أحوال الاختلاف، ليبين للناس ما يتعرض له الدعاة إلى الحق من تعرضهم للقتل والقتال، وللإشارة إلى أنه سبحانه وتعالى قادر على إزالة الاقتتال في ذاته حتى مع وجود أسبابه، فالله سبحانه وتعالى لا يتقيد بالأسباب والمسببات؛ لأنه سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات، وهو الرابط بين الأشياء ونتائجها، وليقرن سبحانه وتعالى أسوأ النتائج بخير المقدمات، فيتبين الناس مقدار ضلال العقل البشري إن انحرف عن فطرته.
– ومن الإشارات البيانية قوله تعالى: {من بعد ما جاءتهم البينات}، ففي ذلك بيان مقدار ما في حيز الإنسان من حب المنازعة، وما استقر في ثنايا الإنسان من تنازع بين الخير والشر في أنفس الآحاد وأنفس الجماعات؛ لأن ذلك الاقتتال بعد أن جاءتهم البينات أي الأدلة الواضحة المعلنة للحق الكاشفة له، فليس اقتتالهم عن جهالة، بل هو بعد أن تبين الحق ووضحت معالمه، وذلك لأن الهوى يعمي، والأعمى لا يبصر ولو كانت الشمس مشرقة.
- الإشارة الثالثة: الاستدراك في قوله تعالى: [ولكن اختلفوا] فإن هذا الاستدراك يشير إلى أمرين:
أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يزيل القتال؛ لأنه سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفي المنازع، منهم من يتقبل الحق ويصغي فؤاده إليه، ومنهم من يعرضون عنه {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون 48} (النور).
أن مجيء البينات المعلنة الكاشفة كانت توجب أن يكونوا جميعا مجيبين، ولكنهم كانوا مختلفين، فالناس ليسوا سواء.
{ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} الاقتتال خالد إلى يوم القيامة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال لآدم وزوجه وإبليس: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو... 36} (البقرة)، وقد كان القتال السابق بسبب الإيمان والكفر أو بسبب إجابة بعض الناس للأنبياء وجحود الآخرين لرسالات الرسل بعد أن قامت عليها البينات، وثبتت دعوة الحق بالأدلة، وهنا يبين بشكل عام أن الله سبحانه لو شاء لمنع الاقتتال [مهما كانت دوافعه و أغىاضه] فإن المغالبة في طبيعة الإنسان، ذلك أن في الإنسان بطبعه حبا للعلو، والمنازع مختلفة، والقوى متباينة، والفرص قد تواتي فريقا، وتناوئ فريقا، وإذا اتحدت القوى والفرص فقد يحدث موانع لهذا لا تحدث لذاك، وبهذا يعلو فريق على فريق، فيكون النزاع، ويكون الغلاب ويكون الاصطراع، ويسري ذلك التعالي في كل شيء في السلطان وفي التجارة، وفي الاقتصاد، بل في المذاهب الاجتماعية. و إذا وجد ذلك الصراع فسيكون من ورائه – إن اشتد – القتال، ولو شاء الله لجعل بني آدم على طبيعة الملائكة لا يتنازعون، ولا يتقاتلون، ولكن الله الذي خلق السماوات والأرض فأتقن كل شيء خلقه، خلق طبيعة الإنسان تتأدى إلى ذلك النوع من المغالبة، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد} فإنه لما وجد الاعتراض بقوله تعالى: {ولكن اختلفوا} كرر مشيئة الله سبحانه، ليعقبها بقوله: {ولكن الله يفعل ما يريد}. و لكنا نميل إلى تعميم الاقتتال بتعدد أسبابه من غير نظر إلى مجرد الاختلاف بسبب الإيمان والكفر. و الاستدراك في قوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد} فيه الإشارة إلى أنه سبحانه لم يشأ منع الاقتتال، بل أراد أن تكون هكذا طبيعة الإنسان، وهو العلي القدير، فعال لما يريد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... تفضيل الرسل بعضهم على بعض لا يعني اختلاف الهدف
في الآية حديث عن تفضيل الله لبعض الرسل على بعض، وحديث عن اختلاف أممهم من بعدهم واقتتالهم، فكيف نفهم ذلك؟
أما التفضيل، فقد يخطر في البال، أن المراد به تفضيل القيمة، لما توحي به الكلمة من الأفضليّة، ولكن التدبّر في الآية يوحي أنه بمعنى الميزة والخصوصية التي يمنحها الله لبعض الناس دون بعض لحكمةٍ يراها، من دون أن تعني امتيازاً ذاتياً. وهذا ما نستوحيه من الآيات التي تحدثت عن تفضيل بني إسرائيل على العالمين، حيث إن البارز فيها هو تفضيل النعمة لا تفضيل القيمة، ولهذا لم يمنع ذلك من ذمّهم ولعنهم في آياتٍ كثيرة من القرآن، وربما يؤكد ذلك، أن الله عندما فصَّل التفضيل، جعل منه تكليم الله لبعضهم، وجعل منه رفعه لبعضهم درجات، الأمر الذي نستوحي منه، أن التفضيل قد يأتي بمعنى لا يفرض ارتفاع المنزلة.
وبهذا نرُدّ على من تساءل أن فقرة {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} بمثابة تكرير لما تفيده كلمة التفضيل. فإن المعنى الذي أشرنا إليه يبتعد بالآية عن ذلك كما هو واضح. ولكن ذلك لا ينفي انطلاق القيمة في التفضيل من تفاضل العناصر الذاتية الموجودة في كل واحد منهم، كما قد تكون من الألطاف الإلهية التي اختص بها الله بعضهم ببعض الامتيازات والمهمات، انطلاقاً من الظروف الموضوعية المحيطة بالمرحلة الزمنية، والتحديات المتنوعة، والأوضاع الاجتماعية أو بعض القضايا الخفية التي اختص الله بعلمها، ما يفرض الحاجة إلى معجزةٍ معينة في مجتمع ما، ومعجزةٍ أخرى في مواجهة هذا التحدي، وصفات مميزة في هذا النبي أو ذاك تبعاً للدور الذي أوكل إليه أو المهمة التي كلف بها...