تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

{ 53 - 54 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

يأمر تعالى عباده المؤمنين ، بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في دخول بيوته فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ } أي : لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها ، لأجل الطعام . وأيضًا لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي : منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه ، أو سعة صدر بعد الفراغ منه . والمعنى : أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين :

الإذن لكم بالدخول ، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : قبل الطعام وبعده .

ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال : { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي : انتظاركم الزائد على الحاجة ، { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي : يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته ، واشتغاله فيه { فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } أن يقول لكم : { اخرجوا } كما هو جاري العادة ، أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم ، { و } لكن { اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }

فالأمر الشرعي ، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء ، فإن الحزم كل الحزم ، اتباع الأمر الشرعي ، وأن يجزم أن ما خالفه ، ليس من الأدب في شيء . واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم ، بما فيه الخير لكم ، والرفق لرسوله كائنًا ما كان .

فهذا أدبهم في الدخول في بيوته ، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته ، فإنه ، إما أن يحتاج إلى ذلك ، أو لا يحتاج إليه ، فإن لم يحتج إليه ، فلا حاجة إليه ، والأدب تركه ، وإن احتيج إليه ، كأن يسألن متاعًا ، أو غيره من أواني البيت أو نحوها ، فإنهن يسألن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } أي : يكون بينكم وبينهن ستر ، يستر عن النظر ، لعدم الحاجة إليه .

فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال ، وكلامهن فيه التفصيل ، الذي ذكره اللّه ، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } لأنه أبعد عن الريبة ، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر ، فإنه أسلم له ، وأطهر لقلبه .

فلهذا ، من الأمور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها ، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته ، ممنوعة ، وأنه مشروع ، البعد عنها ، بكل طريق .

ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة : { وَمَا كَانَ لَكُمْ } يا معشر المؤمنين ، أي : غير لائق ولا مستحسن منكم ، بل هو أقبح شيء { أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } أي : أذية قولية أو فعلية ، بجميع ما يتعلق به ، { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } هذا من جملة ما يؤذيه ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم ، له مقام التعظيم ، والرفعة والإكرام ، وتزوج زوجاته [ بعده ]{[719]}  مخل بهذا المقام .

وأيضا ، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ، والزوجية باقية بعد موته ، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده ، لأحد من أمته . { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } وقد امتثلت هذه الأمة ، هذا الأمر ، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه ، وللّه الحمد والشكر .


[719]:- زيادة من: ب.
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا ، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ، قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك{[9558]} ، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة{[9559]} والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[9560]} ، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفاً ، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة -رصاً على الحجاب{[9561]}-

وقالت له زينب بنت جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب{[9562]} .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث : منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، و{ عسى ربه إن طلقكن }{[9563]} . الحديث{[9564]} .

وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، و { ناظرين } معناه منتظرين و { إناه } مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل خاتمة تمام{[9565]}

وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه » وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله { ولا مستأنسين } عطف على قوله { غير ناظرين } و { غير } منصوبة على الحال من الكاف والميم في { لكم } أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير » بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم {[9566]} » ، وقرأ الأعمش «آناءة » على جمع «أنى » بمدة بعد النون{[9567]} ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله { والله لا يستحيي } معناه لا يقع منه ترك قوله { الحق } ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع » عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال ، وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله{[9568]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها{[9569]} فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر{[9570]} ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر ، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .


[9558]:أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والنسائي،وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه-من طرق- عن أنس رضي الله عنه.(الدر المنثور)، وفي(فتح القدير): أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
[9559]:أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه.
[9560]:ذكره البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند.
[9561]:أخرجه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها-(فتح القدير، والدر المنثور)، قال ابن كثير: هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب، كما رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
[9562]:أخرجه ابن جرير،عن ابن مسعود من طريق عطاء بن السائب، وذكره السيوطي في الدر المنثور، من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الحافظ بن في حجر في تخريج(الكشاف):"رواه الثعلبي من رواية مجاهد عن الشعبي".
[9563]:من الآية (5) من سورة التحريم).
[9564]:أخرجه البخاري في الصلاة، وفي تفسير آل عمران، ومسلم في فضائل الصحابة، والدارمي في المناسك، والإمام أحمد في مسنده(1-23، 36)، ولفظه:(وافقت ربي عز وجل في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقلت:يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة:"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت كذلك. هذا وقد ذكر-في رواية لمسلم- قصة أسارى بدر، وهي نقطة رابعة حصلت فيها الموافقة.
[9565]:نسبه في التاج إلى عمرو بن حسان، ونسبه في القرطبي إلى الشيباني، وذكره مع بيت قبله وهو: وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام واستشهد به في اللسان غير منسوب، قال:"ابن الأنباري: الأنى من بلوغ الشيء منتهاه، مقصور يكتب بالياء، وقد أنى ياني، وقال: تمخضت المنون...البيت"، أي: أدرك وبلغ، وهكذا قال صاحب التاج، وعلى هذا فإن(أنى) في البيت فعل ماض بمعنى أدرك وبلغ. ومعنى البيت أن كل شيء له أوان ينتهي عنده، كما أن كل ما تحمل من النساء لا بد أن تلد عندما تتم حملها.
[9566]:يرى الفراء أن[غير] بالنصب نعت للقوم، وهم معرفة، و[غير] نكرة، فنصبت على الفعل، كقوله تعالى:{أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد}، ثم قال:"ولو خفضت{غير ناظرين} كان صوابا، لأن قبلها[طعام] وهو نكرة، فتجعل فعلهم تابعا للطعام، كما تقول العرب: رأيت زيدا مع امرأة محسن إليها، محسنا إليها".
[9567]:في (أنى) لغات، تكون بكسر الهمزة، و(أنى) بفتحها، و(أناء) بفتح الهمزة والمد، وعلى هذه جاء قول الحطيئة: وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناء.
[9568]:هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة المبشرين بالجنة، مشهور، استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وكان عمره ثلاثا وستين سنة.(تقريب التهذيب). هذا وقد ذكر السيوطي الحديث في(الدر المنثور) من طريق ابن مردويه عن ابن عباس، وقال الحافظ بن حجر في (تخريج الكشاف):"وروى ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم...الحديث، قال السيوطي في(الدر):قال: سفيان: ذكروا أنها عائشة رضي الله عنها"ا هـ. كلام الحافظ. وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن:"قال ابن عباس: قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء-في نفسه-: لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي، قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله، قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا، فكفر الله عنه". هذا مجمل ما روي عن طلحة في هذه القصة، ولكن ابن عطية رحمه الله ينفيها عنه كما رأينا، والقرطبي يقول بعد أن حكى الخبر عن النحاس:"ولا يصح"، وقال الإمام أبو العباس:"وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله"، والآية صريحة في تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس بعد وفاته، قال الشافعي:"ومن استحل ذلك كان كافرا".
[9569]:أي: لم يدخل بها، يقال: بنى الرجل بامرأته وعليها بمعنى:دخل بها.
[9570]:قال القرطبي:"أما زوجاته صلى الله عليه وسلم اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية تزوجها عكرمة بن أبي جهل"، وقيل: إن الذي تزوجها هو الأشعث بن قيس الكندي- لاحظ اسمها كما نقله ابن عطية-،وقيل: بل إن الذي تزوجها هو مهاجر بن أبي أمية.قال القاضي أبو الطيب:"ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه} نضجه وبلاغه.

{ولكن إذا دعيتم فادخلوا} على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته {فإذا طعمتم} الطعام {فانتشروا} فقوموا من عنده وتفرقوا.

{ولا مستأنسين لحديث} وذلك أنهم كانوا يجلسون عند النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطعام وبعد الطعام، وكان ذلك في بيت أم سلمة بنت أبي أمية أم المؤمنين، فيتحدثون عنده طويلا، فكان ذلك يؤذيه ويستحيي أن يقول لهم قوموا، وربما أحرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيته يتحدثون، فذلك قوله عز وجل: {ولا مستأنسين لحديث}.

ثم أمر الله تبارك وتعالى نبيه بالحجاب على نسائه... فأمر الله تعالى المؤمنين ألا يكلموا نساء النبي إلا من وراء حجاب، فذلك قوله: {وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم} من الريبة.

{وقلوبهن} وأطهر لقلوبهن من الريبة...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين أمنوا بالله ورسوله، لا تدخلوا بيوت نبيّ الله إلا أن تُدْعَوا إلى طعام تطعمونه "غَيرَ ناظِرِينَ إناهُ "يعني: غير منتظرين إدراكه وبلوغه...

وقوله: "وَلَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا" يقول: ولكن إذا دعاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فادخلوا البيت الذي أذن لكم بدخوله.

"فإذَا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا" يقول: فإذا أكلتم الطعام الذي دعيتم لأكله فانتشروا، يعني فتفرّقوا واخرجوا من منزله.

"وَلا مُسْتأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ":... ولا متحدّثين بعد فراغكم من أكل الطعام إيناسا من بعضكم لبعض به...

وقوله: "إنّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النّبِيّ". يقول: إن دخولكم بيوت النبيّ من غير أن يؤذن لكم، وجلوسكم فيها مستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له، كان يؤذي النبيّ، فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذا قعدتم فيها للحديث بعد الفراغ من الطعام، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيته لذلك منكم. "وَاللّهُ لا يَسْتحْيِ مِنَ الحَقّ" أن يتبين لكم، وإن استحيا نبيكم فلم يبين لكم كراهية ذلك حياء منكم.

"وَإذَا سألْتَمُوهُنّ مَتاعا فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجابٍ" يقول: وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعا "فاسأَلُوهُنّ مِنْ وَرَاءِ حِجاب" يقول: من وراء ستر بينكم وبينهنّ، ولا تدخلوا عليهنّ بيوتهنّ. "ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ" يقول تعالى ذكره: سؤالكم إياهنّ المتاع إذا سألتموهنّ ذلك من وراء حجاب أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها التي تعرض في صدور الرجال من أمر النساء، وفي صدور النساء من أمر الرجال، وأحرى من أن لا يكون للشيطان عليكم وعليهنّ سبيل...

وقوله: "وَما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله، وما يصلح ذلك لكم، "وَلا أنْ تَنْكِحُوا أزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أبَدا" يقول: وما ينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا لأنهنّ أمهاتكم، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أمه...

وقوله: "إنّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيما" يقول: إن أذاكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكاحكم أزواجه من بعده عند الله عظيم من الإثم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... جائز أن يكون الأمر بالانتشار والخروج من عنده لما كان لرسول الله أمور وعبادات يحتاج إلى القيام بها، إما بينه وبين الله، وإما بينه وبين غيرهم من الناس، فكانوا يشغلونه عن ذلك، فنهوا عن ذلك لذلك.

{فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحق} ورسول الله أيضا كان لا يستحيي من الحق، لكنه يستحيي أن يقول لهم: اخرجوا من منزلي ولا تدخلوا علي، ونحوه...

{والله لا يستحيي من الحق} أي لا يدع ولا يترك أن يعلمهم الحق والأدب.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلُوبِهِنَّ}: نَقَلَهم عن مألوفِ العادة إلى معروف الشريعة ومفروض العبادة، وبَيَّنَ أن البَشَرَ بَشَرٌ- وإن كانوا من الصحابة، فقال: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقَلَوبِهِنَّ} فلا ينبغي لأحدٍ أن يأمن نفسه -ولهذا يُشَدَّدُ الأمرُ في الشريعة بألا يخلوَ رجلٌ بامرأة ليس بينهما مَحْرَمَة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

... {وَمَا كَانَ لَكُمْ}: وما صحّ لكم إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نكاح أزواجه من بعده، وسمى نكاحهن من بعده عظيماً عنده، وهو من أعلام تعظيم الله [تعالى] لرسوله وإيجاب حرمته حياً وميتاً، وإعلامه بذلك مما طيب به [تعالى] نفسه وسر قلبه واستغزر شكره...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي سَبَبِ نُزُولِهَا: وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: رُوِيَ عن أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ: كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ:"تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أُمِّي حَيْسًا، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ، وَقَالَتْ لِي: يَا أَنَسُ اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ: بَعَثَتْ بِهِ إلَيْك أُمِّي، وَهِيَ تُقْرِئُك السَّلَامَ، وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت: إنَّ أُمِّي تُقْرِئُك السَّلَامَ وَتَقُولُ لَك: إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (ضَعْهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا، وَمَنْ لَقِيت -وَسَمَّى رِجَالًا- فَدَعَوْت مَنْ سَمَّى، وَمَنْ لَقِيت. قَالَ: قُلْت لِأَنَسٍ: عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا؟ قَالَ: زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ. فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ قَالَ: فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِيَتَحَلَّقْ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ، وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ: فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا قَالَ: فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ قَالَ: قَالَ لِي: يَا أَنَسُ، ارْفَعْ قَالَ: فَرَفَعْت، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْت كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْت، قَالَ: وَجَلَسَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلَى الْحَائِطِ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ، فَابْتَدَرُوا الْبَابَ، وَخَرَجُوا كُلُّهُمْ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ، وَدَخَلَ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ} إلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ أَنَسٌ: أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَحُجِبَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)".

...

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ: {فَانْتَشِرُوا}: الْمُرَادُ: تَفَرَّقُوا. من النَّشْرِ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُفْتَرَقُ. وَالْمُرَادُ إلْزَامُ الْخُرُوجِ من الْمَنْزِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ من الْأَكْلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ حَرَامٌ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْلِ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَكْلُ زَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ، وَعَادَ التَّحْرِيمُ إلَى أَصْلِهِ.

...

.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي من الْحَقِّ}:... وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا فَيُمْسِكُ عن كَشْفِ مُرَادِهِ لَكُمْ، فَيَتَأَذَّى بِإِقَامَتِكُمْ، عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عن الشَّيْءِ بِمُقَدِّمَتِهِ، وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ، أَوْ بِفَائِدَتِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَهُوَ الثَّالِثُ.

...

.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} وَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْعِلَّةِ، وَتَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا؛ وَتَأْكِيدُ الْعِلَلِ أَقْوَى فِي الْأَحْكَامِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ من بَعْدِهِ أَبَدًا}... اُخْتُلِفَ فِي حَالِهِنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَهِيَ: الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَوْ زَالَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ... وَمَعْنَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَقَاءُ أَحْكَامِهِ من تَحْرِيمِ الزَّوْجِيَّةِ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى؛ إذْ جُعِلَ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغِيبِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ قَطْعًا، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَعَ أَهْلِهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي النَّارِ، فَبِهَذَا الْوَجْهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم إن حال الأمة مع النبي على وجهين:

أحدهما: في حال الخلوة، والواجب هناك عدم إزعاجه، وبين ذلك بقوله: {لا تدخلوا بيوت النبي}.

وثانيهما: في الملأ، والواجب هناك إظهار التعظيم، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما}.

وقوله {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} يعني العين روزنة القلب، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب. أما إن رأت العين فقد يشتهي القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا} أي شيئاً يتمتع به، من الماعون وغيره... والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو الفتوى أو المصحف.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ} أي من الإشارة إليكم بالانتشار {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحيي، فأمركم به ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن).. فلا يقل أحد غير ما قال الله. لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك.. إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف المهازيل الجهال المحجوبين.

لا يقل أحد شيئا من هذا والله يقول: (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن).. يقول هذا عن نساء النبي الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق! وحين يقول الله قولا، ويقول خلق من خلقه قولا؛ فالقول لله -سبحانه- وكل قول آخر هراء، لا يردده إلا من يجرؤ على القول بأن العبيد الفانين أعلم بالنفس البشرية من الخالق الباقي الذي خلق هؤلاء العبيد، والواقع العملي الملموس يهتف بصدق الله وكذب المدعين غير ما يقوله الله، والتجارب المعروضة اليوم في العالم مصدقة لما نقول؛ وهي في البلاد التي بلغ الاختلاط الحر فيها أقصاه أظهر في هذا وأقطع من كل دليل (إن ذلكم كان عند الله عظيما).. وما أهول ما يكون عند الله عظيما!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... وقد أفاد قوله: {والله لا يستحيي من الحق} أن من واجبات دِين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإِسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته، وفي إبلاغه وهو تعليمه، وفي الأخذ به، إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقاً راجعاً إلى غيره؛ لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثالهم بقدر الإِمكان.

والمتاع: ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها، ومثل سؤال العفاة، ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤالٍ عن الدِّين أو عن القرآن، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين.