تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (110)

{ 110 - 111 } { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }

يخبر تعالى : أنه يرسل الرسل الكرام ، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام ، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق ، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل .

حتى إن الرسل - على كمال يقينهم ، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده - ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس ، ونوع من ضعف العلم والتصديق ، فإذا بلغ الأمر هذه الحال { جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ } وهم الرسل وأتباعهم ، { وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } أي : ولا يرد عذابنا ، عمن اجترم ، وتجرأ على الله { فما لهم من قوة ولا ناصر }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (110)

ويتضمن قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا أممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، صاروا في حيز من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن تدخل { حتى } في قوله : { حتى إذا استيأس الرسل }{[6867]} .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن وعائشة - بخلاف - وعيسى وقتادة ومحمد بن كعب والأعرج وأبو رجاء وابن أبي مليكة «كُذّبوا » بتشديد الذال وضم الكاف ، وقرأ الباقون «كُذِبوا » بضم الكاف وكسر الذال{[6868]} وتخفيفها - وهي قراءة علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والأعمش وابن جبير ومسروق والضحاك وإبراهيم وأبي جعفر ، ورواها شيبة بن نصاح عن القاسم عن عائشة - وقرأ مجاهد والضحاك وابن عباس وعبد الله بن الحارث - بخلاف عنهم - «كَذَبوا » بفتح الكاف والذال ، فأما الأولى فتحتمل أن يكون الظن بمعنى اليقين ، ويكون الضمير في { ظنوا } وفي { كذبوا } للرسل ، ويكون المكذبون مشركي من أرسل إليه ؛ المعنى : وتيقن الرسل أن المشركين كذبوهم وهموا على ذلك وأن الانحراف عنه ويحتمل أن يكون الظن على بابه ، والضميران للرسل ، والمكذبون مؤمنو من أرسل إليه ، أي مما طالت المواعيد حسب الرسل أن المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم .

وأما القراءة الثانية - وهي ضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها - فيحتمل أن يكون المعنى - حتى إذا استيأس الرسل من النصر أو من إيمان قومهم - على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك - وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة ، أو فيما توعدوهم به من العذاب - لما طال الإمهال واتصلت العافية - فلما كان المرسل إليهم - على هذا التأويل - مكذبين - بني الفعل للمفعول في قوله : «كُذِبوا » - هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير - وأسند الطبري : أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير : يا أبا عبد الله ، آية بلغت مني كل مبلغ : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } فهذا هو أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مخففة . فقال له ابن جبير : يا أبا عبد الرحمن ؛ إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم ، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم ، فحينئذ جاء النصر . فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال : فرجت عني فرج الله عنك .

قال القاضي أبو محمد : فرضي الله عنهم كيف كان خلقهم في العلم{[6869]} . وقال بهذا التأويل - في هذه القراءة - ابن مسعود ومجاهد ، ورجح أبو علي الفارسي هذا التأويل ، وقال : إن رد الضمير في { ظنوا } وفي «كذبوا » على المرسل إليهم - وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح - جائز لوجهين .

أحدهما : أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه .

والآخر : أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله : { عاقبة الذين } ، وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في { ظنوا } وفي { كذبوا } عائد على الرسل ، والمعنى : كذبهم من أخبرهم عن الله ، والظن على بابه - وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم - والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم - قاله ابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن جبير - وقال : ألم يكونوا بشراً ؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا هو الذي نكره . وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم ، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا . وقال أبو علي الفارسي : هذا غير جائز على الرسل .

قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، وأين العصمة والعلم ؟

وأما القراءة الثالثة - وهي فتح الكاف والذال - فالضمير في { ظنوا } للمرسل إليهم ، والضمير في «كذبوا » للرسل ، ويحتمل أن يكون الضميران للرسل ، أي ظن الرسل أنهم قد كذبوا من حيث نقلوا الكذب وإن كانوا لم يتعمدوه ، فيرجع هذا التأويل إلى المعنى المردود الذي تقدم ذكره .

وقوله : { جاءهم نصرنا } أي بتعذيب أممهم الكافرة ، ثم وصف حال مجيء العذاب في أنه ينجي الرسل وأتباعهم ، وهم الذين شاء رحمتهم ، ويحل بأسه بالمجرمين الكفرة .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فنُنْجي » - بنونين - من أنجى . وقرأ الحسن : «فننَجي » - النون الثانية مفتوحة ، وهو من نجى ينجّي . وقرأ أبو عمرو أيضاً وقتادة «فنجّي » - بنون واحدة وشد الجيم وسكون الياء - فقالت فرقة : إنها كالأولى أدغمت النون الثانية في الجيم ؛ ومنع بعضهم أن يكون هذا موضع إدغام لتنافر النون والجيم في الصفات لا في المخارج ، وقال : إنما حذفت النون في الكتاب لا في اللفظ وقد حكيت هذه القراءة عن الكسائي ونافع . وقرأ عاصم وابن عامر «فنجيَ » بفتح الياء على وزن فعل . وقرأت فرقة «فننجيَ » - بنونين وفتح الياء - رواها هبيرة عن حفص عن عاصم - وهي غلط من هبيرة{[6870]} . وقرأ ابن محيصن ومجاهد «فنجى » - فعل ماض بتخفيف الجيم وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن بن أبي الحسن وابن السميفع وأبي حيوة ، قال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن «فنجّى » - بشد الجيم - على معنى فنجى النصر .

و «البأس » : العذاب . وقرأ أبو حيوة «من يشاء » - بالياء - وجاء الإخبار عن هلاك الكافرين ، بقوله : { ولا يرد بأسنا*** } الآية - إذ في هذه الألفاظ وعيد بين ، وتهديد لمعاصري محمد عليه السلام . وقرأ الحسن «بأسه » ، بالهاء .


[6867]:قال أبو حيان في البحر بعد أن نقل الكلام ابن عطية هذا: "ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد (حتى) غاية له، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله تعالى: {أفلم يسيروا} الآية". وقال القرطبي: "المعنى: و ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل".
[6868]:أي الذال الخفيفة
[6869]:هكذا في جميع النسخ الأصلية "كانت" بتاء التأنيث.
[6870]:عقب على ذلك أبو حيان في البحر بقوله: "وليست غلطا، ولها وجه في العربية، وهو أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار (أن) بعد الفاء، كقراءة من قرأ: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر} بنصب (يغفر) بإضمار (أن) بعد الفاء، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة". (5ـ355).