تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ 23-24 } { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }

لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال : { وَقَضَى رَبُّكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا { أَنْ لَا تَعْبُدُوا } أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات .

{ إِلَّا إِيَّاهُ } لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أعظمها على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء .

ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر .

{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا } أي : إذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف . { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه ، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية .

{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } أي : تزجرهما وتتكلم لهما كلاما خشنا ، { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ قضى } في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى { وقضى ربك } أمره { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً ، والمقضي هنا هو الأمر{[7517]} ، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك » وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى » حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً ، قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك }{[7518]} ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحاً ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون { قضى } على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } عطفاً على { أن } الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و { إما } شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ » ، وروي عن ابن ذكوان «يبلغنَ » بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان » وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله { أحدهما } فاعلاً ، وقوله { أو كلاهما } معطوفاً عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [ الطويل ]

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت{[7519]}

ويجوز{[7520]} أن يكون { أحدهما } فاعلاً وقوله { أو كلاهما } عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن ، وقرأ أبو عمرو «أفِّ » بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفَّ » بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال «أفٌّ » بضم الفاء{[7521]} ، وقرأ ابن عباس «أف » خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف » بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، «وأفّاً » بالنصب والتنوين «وأفي » بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، «وأفاً » بألف بعد الفتحة ، «وأفّْ » بسكون الفاء المشددة «وأَف » مثل رب ، ومن العرب من يميل «أفاً » ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه » .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر{[7522]} أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و «الألف » وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله { ولا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ{[7523]} الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما{[7524]} . وتقول { أف } .

قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدَّاج النجيبي{[7525]} : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله { وقل لهما قولاً كريماً } ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .


[7517]:قال أبو حيان في البحر تعقيبا على كلام ابن عطية هذا: "كأنه رام أن يترك [قضى] على مشهور موضعها بمعنى: قدر، فجعل متعلقة الأمر بالعبادة لا العبادة نفسها؛ لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئا بمعنى أن يقدر إلا ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق [قضى] هو {ألا تعبدوا} سواء كانت [أن] تفسيرية أم مصدرية". (البحر المحيط 6-25).
[7518]:من الآية (13) من سورة (الشورى).
[7519]:البيت لكثير عزة، وهو في الديوان، والكتاب لسيبويه، وخزانة الأدب، وشرح شواهد العيني، وابن يعيش، وقبله يقول: فليت قلوصي عند عزة قــــيدت بحبل ضعيف عز منها فضلت وغودر في الحي المقيمين رحلها وكان لها باغ سواي فبـلــــت تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وأن تضل ناقته فلا يرحل عنها، فيكون قوله: (وكنت كذي رجلين...) معطوفا على قوله: (قيدت) ليدخل في التمني. وقال ابن سيدة: لما خانت عزة العهد، وثبت هو عليه، صار كذي رجلين: رجل صحيحة وهي ثباته على العهد، ورجل مريضة وهي خيانتها وزللها عن العهد، وقال بعضهم: معنى البيت أنه بين الخوف والرجاء والقرب والتنائي. وقيل غير هذا في معنى البيت، وهذا البيت من شواهد النحويين، فيروى (رجل) بالجر على أنه بدل مع أخرى مفصل من (رجلين)، ويجوز أن يكون الجر على الصفة، ويروى بالرفع على القطع وأنه خبر مبتدإ محذوف، والتقدير: هما رجل صحيحة ورجل أخرى، أو إحداهما صحيحة والأخرى رجل... والبيت في هذا كقوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة}، أي: إحداهما فئة تقاتل ...الخ. هذا وقد علق أبو حيان الأندلسي على قول ابن عطية هنا: "وهو بدل مقسم" بقوله: "هذا ليس من بدل التقسيم ؛ لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضا فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و [كلاهما] يصدق عليه الضمير، وهو المبدل منه، فليس من المقسم".
[7520]:أي على هذه القراءة الثالثة.
[7521]:قال في البحر المحيط: "بضم الفاء من غير تنوين".
[7522]:يتقذر منهما لما يجد في حال كبرهما من نزول لعاب، أو ظهور مخاط، وفي حال مرضهما من بول ونحوه.
[7523]:الشيخ: الشيخوخة، وهما مصدر "شاخ" إذا أسن وكبر.
[7524]:أي: لا تكرههما ولا تجتنبهما لقذر أو وساخة.
[7525]:في بعض النسخ: "أبو الهداج"، وهو موافق لما في الطبري، والدر المنثور. وفي القرطبي: أبو البداح.