ولما ذكر العمل الذي يقصد به وجهه [ من النفقات ] ذكر العمل الذي يقصد به مقصد دنيوي فقال : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُو فِي أَمْوَالِ النَّاسِ } أي : ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم وقصدكم بذلك أن يربو أي : يزيد في أموالكم بأن تعطوها لمن تطمعون أن يعاوضكم عنها بأكثر منها ، فهذا العمل لا يربو أجره عند اللّه لكونه معدوم الشرط الذي هو الإخلاص . ومثل ذلك العمل الذي يراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس فهذا كله لا يربو عند اللّه .
{ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ } أي : مال يطهركم من الأخلاق الرذيلة ويطهر أموالكم من البخل بها ويزيد في دفع حاجة الْمُعْطَى . { تُرِيدُونَ } بذلك { وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } أي : المضاعف لهم الأجر الذين تربو نفقاتهم عند اللّه ويربيها اللّه لهم حتى تكون شيئا كثيرا .
ودل قوله : { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ } أن الصدقة مع اضطرار من يتعلق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم يقضه ويقدم عليه الصدقة أن ذلك ليس بزكاة يؤجر عليه العبد ويرد تصرفه شرعا كما قال تعالى في الذي يمدح : { الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى } فليس مجرد إيتاء المال خيرا حتى يكون بهذه الصفة وهو : أن يكون على وجه يتزكى به المؤتي .
قوله عز وجل :{ وما آتيتم من ربا } قرأ ابن كثير : أتيتم مقصوراً ، وقرأ الآخرون بالمد ، أي : أعطيتم ، ومن قصر فمعناه : ما جئتم من ربا ، ومجيئهم ذلك على وجه الإعطاء كما يقول : أتيت خطئاً ، وأتيت صواباً ، فهو يؤول في المعنى إلى قول من مد . { ليربو في أموال الناس } قرأ أهل المدينة ، ويعقوب : لتربوا بالتاء وضمها وسكون الواو على الخطاب ، أي : لتربوا أنتم وتصيروا ذوي زيادة من أموال الناس ، وقرأ الآخرون بالياء وفتحها ، ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا لقوله : { فلا يربو عند الله } في أموال الناس ، أي : في اختطاف أموال الناس واجتذابها . واختلفوا في معنى الآية ، فقال سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وطاووس ، وقتادة ، والضحاك ، وأكثر المفسرين : هو الرجل يعطي غيره العطية ليثيبه أكثر منها فهذا جائز حلال ، ولكن لا ثواب عليه في القيامة ، وهو معنى قوله عز وجل : { فلا يربو عند الله } وكان هذا حراماً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة لقوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } أي : لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيت . وقال النخعي : هو الرجل يعطي صديقه أو قريبه ليكثر ماله ولا يريد به وجه الله . وقال الشعبي : هو الرجل يلتزق بالرجل فيخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله التماس عونه ، لوجه الله ، فلا يربوا عند الله لأنه لم يرد به وجه الله تعالى . { وما آتيتم من زكاة } أعطيتم من صدقة { تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون } فيضاعف لهم الثواب فيعطون بالحسنة عشر أمثالها فالمضعف ذو الأضعاف من الحسنات ، تقول العرب : القوم مهزولون ومسمونون : إذا هزلت أو سمنت إبلهم .
قوله تعالى : { الله الذي خلقكم ثم يرزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما آتيتم من ربا}: وما أعطيتهم من عطية.
{ليربو في أموال الناس} تزدادوا في أموال الناس...
{فلا يربو عند الله}: فلا تضاعف تلك العطية عند الله، ولا تزكو.
ثم بين الله عز وجل ما يربو من النفقة فقال عز وجل: {وما آتيتم من زكاة}: وما أعطيتم من صدقة.
{تريدون} بها {وجه الله} ففيه الأضعاف، فذلك قوله عز وجل: {فأولئك هم المضعفون} الواحدة عشرة فصاعدا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أعطيتم أيها الناس بعضكم بعضا من عطية لتزداد في أموال الناس برجوع ثوابها إليه، ممن أعطاه ذلك، "فلا يربو عند الله "يقول: فلا يزداد ذلك عند الله، لأن صاحبه لم يعطه من أعطاه مبتغيا به وجهه. "وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ" يقول: وما أعطيتم من صدقة تريدون بها وجه الله، فأولئك يعني الذين يتصدّقون بأموالهم ملتمسين بذلك وجه الله "هم المضعفون" يقول: هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب...
وقال آخرون: إنما عنى بهذا: الرجلَ يعطي ماله الرجلَ ليعينه بنفسه، ويخدمه ويعود عليه نفعه، لا لطلب أجر من الله...
وقال آخرون: هو إعطاء الرجل ماله ليكثر به مال من أعطاه ذلك، لا طلب ثواب الله...
وقال آخرون: ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وأما لغيره فحلال...
وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في ذلك لأنه أظهر معانيه.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة: "لِيَرْبُوَ" بفتح الياء من يربو، بمعنى: وما آتيتم من ربا ليربوَ ذلك الربا في أموال الناس. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل المدينة: «لِتَرْبُوا» بالتاء من تُربوا وضمها، بمعنى: وما آتيتم من ربا لتُربوا أنتم في أموال الناس.
والصواب من القول في ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان في قرّاء الأمصار مع تقارب معنييهما، لأن أرباب المال إذا أربوا ربا المال، وإذا ربا المالُ فبإرباء أياه ربا. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتين قرأ القارئ فمصيب.
وأما قوله: "وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضعِفُونَ" فإن أهل التأويل قالوا في تأويله نحو الذي قلنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هذه الآية في معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 278] سواء بسواء، يريد: وما أعطيتم أكلة الربا {مِّن رِباً لِّيَرْبُوَاْ فى} أموالهم: ليزيد ويزكو في أموالهم، فلا يزكو عند الله ولا يبارك فيه {وَمَآ ءَاتَيْتُم مِّن زكاوة} أي صدقة تبتغون به وجهه خالصاً، لا تطلبون به مكافأة ولا رياء وسمعة {فأولائك هُمُ المضعفون} ذوو الإضعاف من الحسنات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قرأ جمهور القراء «وما آتيتم» بمعنى وما أعطيتم، وقرأ ابن كثير «ما أتيتم» بغير مد بمعنى ما فعلتم كما تقول أتيت صواباً وأتيت خطأ، وأجمعوا على المد في قوله {وما آتيتم من زكاة}. و «الربا» الزيادة، واختلف المتأولون في معنى هذه الآية فقال ابن عباس وابن جبير وطاوس: هذه آية نزلت في هبات الثواب.
وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلم وغيره فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وقال ابن عباس أيضاً وإبراهيم النخعي: نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع، وقال الشعبي: معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحداً وخف به لينتفع في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة {لا يربو عند الله}.
وهذا كله قريب جزء من التأويل الأول، ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية النهي عن الربا في التجارات ما حض عز وجل على نفع ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أعلم أن ما فعل المرء من ربا ليزداد به مالاً وفعله ذلك إنما هو في أموال الناس فإن ذلك {لا يربو عند الله} ولا يزكو بل يتعلق فيه الإثم ومحق البركة، وما أعطى الإنسان من زكاة تنمية لماله وتطهيراً يريد بذلك وجه الله تعالى فذلك هو الذي يجازى به أضعافاً مضاعفة على ما شاء الله تعالى له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما آتيتم} أي جئتم أي فعلتم -في قراءة ابن كثير بالقصر ليعم المعطي والآخذ والمتسبب، أو أعطيتم- في قراءة غيره بالمد.
... ولما ذكر ما زيادته نقص، أتبعه ما نقصه زيادة فقال: {وما آتيتم} أي أعطيتم للإجماع على مده لئلا يوهم الترغيب في أخذ الزكاة {من زكاة} أي صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة، أي تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من مواد الخبث، وأخلاقكم من الغل والدنس. ولما كان الإخلاص عزيزاً، أشار إلى عظمته بتكريره فقال: {تريدون} أي بها {وجه الله} خالصاً مستحضرين لجلاله وعظمته وكماله، وعبر عن الذات بالوجه لأنه الذي يجل صاحبه ويستحي منه عند رؤيته وهو أشرف ما في الذات.
ولما كان الأصل: فأنتم، عدل به إلى صيغة تدل على تعظيمه بالالتفات إلى خطاب من بحضرته من أهل قربه وملائكته، لأن العامل يجب أن يكون له بعمله لسان صدق في الخلائق فكيف إذا كان من الخالق، وبالإشارة إليه بأداة البعد إعلاماً بعلو رتبته، وأن المخاطب بالإيتاء كثير، والعامل قليل وجليل، فقال: {فأولئك} ولعل إفراد المخاطب هنا للترغيب في الإيتاء بأنه لا يفهم ما لأهله حق فهمه سوى المنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم {هم} أي خاصة {المضعفون}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لِذَوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضَى الله تعالى به وكان الربا فاشياً في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش. فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءَهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن المعاملة بالربا للمقترضين منهم، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خَلّة، وشأن المُقرِض أنه ذو جِدَة فمعاملته المقترِض منه بالربا افتراضٌ لحاجته واستغلال لاضطراره، وذلك لا يليق بالمؤمنين.
و {ما} شرطية تفيد العموم، فالجملة معترضة بعد جملة {فئاتِ ذا القربى حقه} [الروم: 38] الخ. والواو اعتراضية. ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم. وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق. فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجهَ الله الذين كانوا يُقرضون بالربا قبل تحريمه.
و {مِن} في قوله {من رباً} وقوله {من زكاة} بيانية مبينة لإبهام {مَا} الشرطية في الموضعين.
{فلا يربو عند الله} جواب الشرط. ومعنى {فلا يربو عند الله} أنه عمل ناقص عند الله غير زاك عنده، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير. وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة، ولموافقة معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276]، ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا {فأولئك هم المضعفون} وقوله {لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} في سورة آل عمران (130).
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وذكر الربا هنا بالأسلوب الذي ورد به يمكن أن يكون إرهاصا قرآنيا مكيا بكراهية الربا التي جاءت بأسلوب تشريعي تحريمي في القرآن المدني وفقا لأسلوبي القرآن المكي والمدني؛ حيث يجنح الأسلوب المكي إلى الحظر بالتخويف من عقاب الله الدنيوي والأخروي وببيان مضار المحظور، في حين يجنح الأسلوب المدني إلى التشريع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد الهجرة صاروا في نطاق دولة وسلطان يستطيعون فيه التنفيذ في حين لم يكن لهم ذلك في العهد المكي.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... عدّوا الآية مقدمة لمسألة «تحريم الربا» التي ذكرها القرآن في بداية الأمر وقبل الهجرة على سبيل الإِرشاد الأخلاقي والنصح، ولكن تمّ تحريم الربا بعد الهجرة في ثلاث سور «البقرة وآل عمران والنساء» بصورة تدريجية
كلمة «مضعفون» التي هي صيغة لاسم الفاعل، لا تعني أنّهم يزيدون ويُضعفون بأنفسهم للمال، بل معناها أنّهم أصحاب الثواب المضاعف، لأنّ اسم الفاعل قد يأتي في لغة العرب ويراد منه اسم المفعول، مثل «الموسِر» أي: صاحب المال الكثير.
الأولى- لما ذكر ما يراد به وجهه ويثبت عليه ذكر غير ذلك من الصفة وما يراد به أيضا وجهه . وقرأ الجمهور : " آتيتم " بالمد بمعنى أعطيتم . وقرأ ابن كثير ومجاهد وحميد بغير مد ، بمعنى ما فعلتم من ربا ليربو ؛ كما تقول : أتيت صوابا وأتيت خطأ . وأجمعوا على المد في قوله : " وما آتيتم من زكاة " . والربا الزيادة وقد مضى في " البقرة " معناه{[12515]} ، وهو هناك محرم وها هنا حلال . وثبت بهذا أنه قسمان : منه حلال ومنه حرام . قال عكرمة في قوله تعالى : " وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس " قال : الربا ربوان ، ربا حلال وربا حرام ، فأما الربا الحلال فهو الذي يهدى ، يلتمس ما هو أفضل منه . وعن الضحاك في هذه الآية : هو الربا الحلال الذي يهدى ليثاب ما هو أفضل منه ، لا له ولا عليه ، ليس له فيه{[12516]} أجر وليس عليه فيه إثم . وكذلك قال ابن عباس : " وما آتيتم من ربا " يريد هدية الرجل الشيء يرجو أن يثاب أفضل منه ، فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه ولكن لا إثم عليه ، وفي هذا المعنى نزلت الآية . قال ابن عباس وابن جبير وطاوس ومجاهد : هذه آية نزلت في هبة الثواب . قال ابن عطية : وما جرى مجراها مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه كالسلام وغيره ، فهو وإن كان لا إثم فيه فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى . وقاله القاضي أبو بكر بن العربي . وفي كتاب النسائي عن عبد الرحمن بن علقمة قال : قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم هدية فقال : ( أهدية أم صدقة{[12517]} فإن كانت هدية فإنما يبتغى بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاء الحاجة ، وإن كانت صدقة فإنما يبتغى بها وجه الله عز وجل ) قالوا : لا بل هدية ، فقبلها منهم وقعد معهم يسائلهم ويسألونه . وقال ابن عباس أيضا وإبراهيم النخعي : نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضل عليهم ، وليزيدوا في أموالهم على وجه النفع لهم . وقال الشعبي : معنى الآية أن ما خدم الإنسان به أحدا وخف له لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله . وقيل : كان هذا حراما على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص ؛ قال الله تعالى : " ولا تمنن تستكثر " {[12518]} [ المدثر : 6 ] فنهى أن يعطي شيئا فيأخذ أكثر منه عوضا . وقيل : إنه الربا المحرم ، فمعنى : " لا يربو عند الله " على هذا القول لا يحكم به لآخذه بل هو للمأخوذ منه . قال السدي : نزلت هذه الآية في ربا ثقيف ؛ لأنهم كانوا يعملون بالربا وتعمله فيهم قريش .
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : صريح الآية فيمن يهب يطلب{[12519]} الزيادة من أموال الناس في المكافأة . قال المهلب : اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب ثوابها وقال : إنما أردت الثواب ، فقال مالك : ينظر فيه ، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك ، مثل هبة الفقير للغني ، وهبة الخادم لصاحبه ، وهبة الرجل لأميره ومن فوقه ، وهو أحد قولي الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يكون له ثواب إذا لم يشترط ، وهو قول الشافعي الآخر . قال : والهبة للثواب باطلة لا تنفعه ؛ لأنها بيع بثمن مجهول . واحتج الكوفي بأن موضوع الهبة التبرع ، فلو أوجبنا فيها العوض لبطل معنى التبرع وصارت في معنى المعاوضات ، والعرب قد فرقت بين لفظ البيع ولفظ الهبة ، فجعلت لفظ البيع على ما يستحق فيه العوض ، والهبة بخلاف ذلك . ودليلنا ما رواه مالك في موطئه عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها . ونحوه عن علي رضي الله عنه قال : المواهب ثلاثة : موهبة يراد بها وجه الله ، وموهبة يراد بها وجوه الناس ، وموهبة يراد بها الثواب ، فموهبة الثواب يرجع فيها صاحبها إذا لم يثب منها . وترجم البخاري رحمه الله ( باب المكافأة في الهبة ) وساق حديث عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها ، وأثاب على لقحة{[12520]} ولم ينكر على صاحبها حين طلب الثواب ، وإنما أنكر سخطه للثواب وكان زائدا على القيمة . خرجه الترمذي .
الثالثة- ما ذكره علي رضي الله عنه وفصّله من الهبة صحيح ؛ وذلك أن الواهب لا يخلو في هبته من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يريد بها وجه الله تعالى ويبتغي عليها الثواب منه . والثاني : أن يريد بها وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها . والثالث : أن يريد بها الثواب من الموهوب له ، وقد مضى الكلام فيه . وقال صلى الله عليه وسلم : ( الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) . فأما إذا أراد بهبته وجه الله تعالى وابتغى عليه الثواب من عنده فله ذلك عند الله بفضله ورحمته ، قال الله عز وجل : " وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " وكذلك من يصل قرابته ليكون غنيا حتى لا يكون كلا فالنية في ذلك متبوعة ، فإن كان ليتظاهر بذلك دنيا فليس لوجه الله ، وإن كان لما له عليه من حق القرابة وبينهما من وشيجة الرحم فإنه لوجه الله . وأما من أراد بهبته وجوه الناس رياء ليحمدوه عليها ويثنوا عليه من أجلها فلا منفعة له في هبته ، لا ثواب في الدنيا ولا أجر في الآخرة ، قال الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس " {[12521]} [ البقرة : 264 ] الآية . وأما من أراد بهبته الثواب من الموهوب له فله ما أراد بهبته ، وله أن يرجع فيها ما لم يثب بقيمتها ، على مذهب ابن القاسم ، أو ما لم يرض منها بأزيد من قيمتها ، على ظاهر قول عمر وعلي ، وهو قول مطرف في الواضحة : أن الهبة ما كانت قائمة العين ، وإن زادت أو نقصت فللواهب الرجوع فيها ، وإن أثابه الموهوب فيها أكثر منها . وقد قيل : إنها إذا كانت قائمة العين لم تتغير فإنه يأخذ ما شاء . وقيل : تلزمه القيمة كنكاح التفويض ، وأما إذا كان بعد فوت الهبة فليس له إلا القيمة اتفاقا . قاله ابن العربي .
الرابعة- قوله تعالى : " ليربو " قرأ جمهور القراء السبعة : " ليربو " بالياء وإسناد الفعل إلى الربا . وقرأ نافع وحده : بضم التاء والواو ساكنة على المخاطبة ، بمعنى تكونوا ذوي زيادات ، وهذه قراءة ابن عباس والحسن وقتادة والشعبي . قال أبو حاتم : هي قراءتنا . وقرأ أبو مالك : " لتربوها " بضمير مؤنث . " فلا يربو عند الله " أي لا يزكو ولا يثيب عليه ؛ لأنه لا يقبل إلا ما أريد به وجهه وكان خالصا له ، وقد تقدم في " النساء " {[12522]} . " وما آتيتم من زكاة " قال ابن عباس : أي من صدقة . " تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون " أي ذلك الذي يقبله ويضاعفه له عشرة أضعافه أو أكثر ، كما قال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا{[12523]} كثيرة " [ البقرة : 245 ] . وقال : " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة " {[12524]} [ البقرة : 265 ] . وقال : " فأولئك هم المضعفون " ولم يقل فأنتم المضعفون ؛ لأنه رجع من المخاطبة إلى الغيبة ، مثل قوله : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " {[12525]} [ يونس : 22 ] . وفي معنى المضعفين قولان : أحدهما : أنه تضاعف لهم الحسنات ذكرنا . والآخر : أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم ، أي هم أصحاب أضعاف ، كما يقال : فلان مقو إذا كانت إبله قوية ، أو له أصحاب أقوياء . ومسمن إذا كانت إبله سمانا . ومعطش إذا كانت إبله عطاشا . ومضعف إذا كان إبله ضعيفة ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم " . فالمخبث : الذي أصابه خبث ، يقال : فلان رديء أي هو رديء في نفسه . ومردئ : أصحابه أردئاء .