{ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً } وذلك لشدتهم وقوتهم . { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا } يحتمل أن المراد : إلا لعذابهم وعقابهم في الآخرة ، ولزيادة نكالهم فيها ، والعذاب يسمى فتنة ، [ كما قال تعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } ] ويحتمل أن المراد : أنا ما أخبرناكم بعدتهم ، إلا لنعلم من يصدق ومن يكذب ، ويدل على هذا ما ذكر بعده في قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } فإن أهل الكتاب ، إذا وافق ما عندهم وطابقه ، ازداد يقينهم بالحق ، والمؤمنون كلما أنزل الله آية ، فآمنوا بها وصدقوا ، ازداد إيمانهم ، { وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } أي : ليزول عنهم الريب والشك ، وهذه مقاصد جليلة ، يعتني بها أولو الألباب ، وهي السعي في اليقين ، وزيادة الإيمان في كل وقت ، وكل مسألة من مسائل الدين ، ودفع الشكوك والأوهام التي تعرض في مقابلة الحق ، فجعل ما أنزله الله على رسوله محصلا لهذه الفوائد{[1285]} الجليلة ، ومميزا للكاذبين من الصادقين ، ولهذا قال : { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وشبهة ونفاق . { وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } وهذا على وجه الحيرة والشك ، والكفر منهم بآيات الله ، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه ، وإضلاله لمن يضل ولهذا قال :
{ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } فمن هداه الله ، جعل ما أنزله الله على رسوله رحمة في حقه ، وزيادة في إيمانه ودينه ، ومن أضله ، جعل ما أنزله على رسوله زيادة شقاء عليه وحيرة ، وظلمة في حقه ، والواجب أن يتلقى ما أخبر الله به ورسوله بالتسليم ، فإنه لا يعلم جنود ربك من الملائكة وغيرهم { إلَّا هُوَ } فإذا كنتم جاهلين بجنوده ، وأخبركم بها العليم الخبير ، فعليكم أن تصدقوا خبره ، من غير شك ولا ارتياب ، { وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } أي : وما هذه الموعظة والتذكار مقصودا به العبث واللعب ، وإنما المقصود به أن يتذكر [ به ] البشر ما ينفعهم فيفعلونه ، وما يضرهم فيتركونه .
فانزل الله عز وجل { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكةً } لا رجالاً آدميين ، فمن ذا يغلب الملائكة ؟ ، { وما جعلنا عدتهم } أي عددهم في القلة ، { إلا فتنة للذين كفروا } أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ، { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر ، { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقاً بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا وجدوا ما قاله موافقاً لما في كتبهم ، { ولا يرتاب } لا يشك ، { الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } في عددهم ، { وليقول الذين في قلوبهم مرض } شك ونفاق ، { والكافرون } مشركو مكة ، { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } أي شيء أراد بهذا الحديث ؟ وأراد بالمثل الحديث نفسه . { كذلك } أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك ، { يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو } قال مقاتل : هذا جواب أبي جهل حين قال : أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر ؟ قال عطاء : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار ، لا يعلم عدتهم إلا الله ، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار ، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمهم إلا الله عز وجل ، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال : { وما هي } يعني النار { إلا ذكرى للبشر } إلا تذكرة وموعظة للناس .
" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " أي لم نجعلهم رجالا فتتعاطون مغالبتهم . وقيل : جعلهم ملائكة لأنهم خلاف جنس المعذبين من الجن والإنس ، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة والرقة ، ولا يستروحون إليهم ، ولأنهم أقوم خلق الله بحق الله وبالغضب له ، فتؤمن هوادتهم ؛ ولأنهم أشد خلق الله بأسا وأقواهم بطشا . " وما جعلنا عدتهم إلا فتنة " أي بلية . وروي عن ابن عباس من غير وجه قال : ضلالة للذين كفروا ، يريد أبا جهل وذويه . وقيل : إلا عذابا ، كما قال تعالى : " يوم هم على النار يفتنون . ذوقوا فتنتكم " [ الذاريات : 14 ] . أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب . وفي " تسعة عشر " سبع قراءات{[15589]} : قراءة العامة " تسعة عشر " . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وطلحة بن سليمان " تسعة عشر " بإسكان العين . وعن ابن عباس " تسعة عشر " بضم الهاء . وعن أنس بن مالك " تسعة وعشر " وعنه أيضا " تسعة وعشر " . وعنه أيضا " تسعة أعشر " ذكرها المهدوي وقال : من قرأ " تسعة عشر " أسكن العين لتوالي الحركات . ومن قرأ " تسعة وعشر " جاء به على الأصل قبل التركيب ، وعطف عشرا على تسعة ، وحذف التنوين لكثرة الاستعمال ، وأسكن الراء من عشر على نية السكوت عليها . ومن قرأ " تسعة عشر " فكأنه من التداخل ؛ كأنه أراد العطف وترك التركيب ، فرفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء وأسكن . وأما " تسعة أعشر " : فغير معروف ، وقد أنكرها أبو حاتم . وكذلك " تسعة وعشر " لأنها محمولة على " تسعة أعشر " والواو بدل من الهمزة ، وليس لذلك وجه عند النحويين . الزمخشري : وقرئ : " تسعة أعشر " جمع عشير ، مثل يمين وأيمن .
قوله تعالى : " ليستيقن الذين أوتوا الكتاب " أي ليوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عدة خزنة جهنم موافقة لما عندهم ، قاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد وغيرهم . ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام . ويحتمل أنه يريد الكل . ويزداد الذين آمنوا إيمانا " بذلك ؛ لأنهم كلما صدقوا بما في كتاب الله آمنوا ، ثم ازدادوا إيمانا لتصديقهم بعدد خزنة جهنم . " ولا يرتاب " أي ولا يشك " الذين أوتوا الكتاب " أي أعطوا الكتاب " والمؤمنون " أي المصدقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عدة خزنة جهنم تسعة عشر . " وليقول الذين في قلوبهم مرض " أي في صدورهم شك ونفاق من منافقي أهل المدينة ، الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة ولم يكن بمكة نفاق وإنما نجم بالمدينة . وقيل : المعنى ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بعد الهجرة . " والكافرون " أي اليهود والنصارى " ماذا أراد الله بهذا مثلا " يعني بعدد خزنة جهنم . وقال الحسين بن الفضل : السورة مكية ولم يكن بمكة نفاق ، فالمرض في هذه الآية الخلاف و " الكافرون " أي مشركو العرب . وعلى القول الأول أكثر المفسرين . ويجوز أن يراد بالمرض : الشك والارتياب ؛ لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، وبعضهم قاطعين بالكذب وقوله تعالى إخبارا عنهم : " ماذا أراد الله " أي ما أراد " بهذا " العدد الذي ذكره حديثا ، أي ما هذا من الحديث . قال الليث : المثل الحديث ، ومنه : " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي حديثها والخبر عنها " كذلك " أي كإضلال الله أبا جهل وأصحابه المنكرين لخزنة جهنم " يضل الله " أي يخزي ويعمي " من يشاء ويهدي " أي ويرشد " من يشاء " كإرشاد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : " كذلك يضل الله " عن الجنة " من يشاء ويهدي " إليها " من يشاء " . " وما يعلم جنود ربك إلا هو " أي وما يدري عدد ملائكة ربك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار " إلا هو " أي إلا الله جل ثناؤه وهذا جواب لأبي جهل حين قال : أما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر ! وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم حنين ، فأتاه جبريل فجلس عنده ، فأتى ملك فقال : إن ربك يأمرك بكذا وكذا ، فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شيطانا ، فقال : ( يا جبريل أتعرفه ) ؟ فقال : هو ملك وما كل ملائكة ربك أعرف . وقال الأوزاعي : قال موسى : " يا رب من في السماء ؟ قال ملائكتي . قال كم عدتهم يا رب ؟ قال : اثني عشر{[15590]} سبطا . قال : كم عدة كل سبط ؟ قال : عدد التراب " ذكرهما الثعلبي . وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أطت{[15591]} السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجدا ) .
قوله تعالى : " وما هي إلا ذكرى للبشر " يعني الدلائل والحجج والقرآن . وقيل : " وما هي " أي وما هذه النار التي هي سقر " إلا ذكرى " أي عظة " للبشر " أي للخلق . وقيل : نار الدنيا تذكرة لنار الآخرة . قال الزجاج . وقيل : أي ما هذه العدة " إلا ذكري للبشر " أي ليتذكروا ويعلموا كمال قدرة الله تعالى ، وأنه لا يحتاج إلى أعوان وأنصار ، فالكناية على هذا في قوله تعالى : " وما هي " ترجع إلى الجنود ؛ لأنه أقرب مذكور .
ولما كان هذا غير مميز للمعدود{[69856]} ، وكانت الحكمة في {[69857]}تعيين هذا{[69858]} العد غير ظاهرة ، وكان هذا العدد مما يستقله المتعنت فيزيده كفراً ، قال تعالى-{[69859]} مبيناً لذلك : { وما جعلنا } أي بما لنا من العظمة وإن خفي وجه العظمة فيه على من عمي قلبه{[69860]} { أصحاب النار } أي خزنتها { إلا ملائكة } أي {[69861]}إنهم ليسوا{[69862]} من جنس المعذبين فيرقوا لهم ويطيق المعذبون محاولتهم أو يستريحوا إليهم وهم أقوى الخلق ، وقد تكرر عليكم ذكرهم وعلمتم أوصافهم وأنهم ليسو كالبشر بل الواحد منهم يصيح صيحة واحدة فيهلك{[69863]} مدينة كاملة كما وقع لثمود ، فكيف إذا كان كل واحد من هؤلاء الخزنة رئيساً{[69864]} تحت يده من الجنود ما لا يحصيه إلا الله تعالى { وما جعلنا } على ما لنا من العظمة { عدتهم } أي مذكورة ومحصورة فيما ذكرنا { إلا فتنة } أي حالة مخالطة مميلة محيلة { للذين كفروا } أي أوجدوا هذا الوصف ولو على أدنى الوجوه ، فإنهم يستقلونه ويستهزئون به-{[69865]} ويتعنتون أنواعاً من التعنت بحيث أن{[69866]} بعض أغبياء قريش{[69867]} وهو أبو جهل ، قال : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يقول كذا وأنتم ألدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ، فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، وهذا كله على سبيل الاستهزاء ، فإنهم مكذبون بالبعث الذي هذا من آثاره ، وكان في علم أهل الكتاب{[69868]} أن هذه العدة عدتهم ، وأن العرب إذا سمعوا هذه العدة كانت سبباً لشك أكثرهم وموضعاً للتعنت ، فلذلك علق بالفتنة أو ب " جعلنا " قوله : { ليستيقن } أي يوجد اليقين إيجاداً تاماً كأنه بغاية الرغبة { الذين أوتوا الكتاب } بناه للمفعول لأن مطلق الإيتاء{[69869]} كاف في ذلك من غير احتياج إلى تعيين المؤتي{[69870]} مع أنه معروف أنه هو الله ، قال البغوي{[69871]} : مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر . { ويزداد الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى الوجوه إلى ما عندهم من الإيمان { إيماناً } بتصديق ما لم يعلموا وجه حكمته لا سيما مع افتتان غيرهم به وكثرة كلامهم فيه ، فإن الإيمان بمثل ذلك يكون أعظم .
ولما أثبت لكل من الجاهل والعالم ما أثبت ، أكده بنفي ضده مبيناً للفتنة فقال : { ولا يرتاب } أي يشك شكاً يحصل بتعمد وتكسب { الذين أوتوا الكتاب } لما{[69872]} عندهم من العلم المطابق لذلك ، قال ابن برجان : وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما " أن قوماً من أهل الكتاب جاؤوا إليه في قضية - فيها طول ، وفيها أنهم{[69873]} سألوه عن خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده هكذا وهكذا ، في مرة عشرة وفي مرة تسعة ، فقالوا : بارك الله فيك يا أبا القاسم ، ثم سألهم : ما خزنة الجنة ؟ فسكتوا هيبة ثم-{[69874]} قالوا : خبزة يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخبزة من الدرمك "
والمؤمنون } أي لا يرتاب الذين رسخ الإيمان عندهم لما رأوا من الدلائل التي جعلتهم في{[69875]} مثل ضوء النهار { وليقول الذين } استقر { في قلوبهم مرض } أي شك أو نفاق وإن قل ، ونزول هذه السورة قبل وجود المنافقين علم من أعلام النبوة ، ولا ينكر جعل الله تعالى بعض الأمور علة لمصالح ناس وفساد آخرين ، لأنه لا يسأل عما يفعل على أن العلة قد تكون مقصودة لشيء بالقصد الأول ، ثم يرتب عليها شيء آخر يكون قصده بالقصد الثاني تقول : خرجت-{[69876]} من البلد لمخالفة أكثر ومخافة الشر لا يتعلق بها الغرض { والكافرون } أي ويقول الراسخون في الكفر الجازمون بالتكذيب المجاهرون به الساترون لما دلت عليه الأدلة من الحق { ماذا } أي أي شيء { أراد الله } أي الملك الذي له جميع العظمة { بهذا } : أي العدد القليل في جنب عظمته { مثلاً } أي من جهة أنه صار بذلك مستغرباً استغراب المثل ، أو أن ذلك إشارة إلى أنه ليس المراد به ظاهره بل مثل لشيء لم يفهموه وفهموا أن بين استجماعه للعظمة وهذا العدد عناداً ، وما علموا أن القليل من حيث العدد {[69877]}قد يكون أعظم بقوته من الكثير العدد ، ويكون أدل على استجماع العظمة . ولما كان التقدير{[69878]} : أراد بهذا إضلال من ضل{[69879]} وهو لا يبالي ، وهداية من اهتدى وهو لا يبالي ، {[69880]}كان كأنه{[69881]} قيل : هل يفعل{[69882]} مثل هذا في غير هذا ؟ فقال{[69883]} جواباً : { كذلك } أي مثل هذا المذكور من الإضلال والهداية { يضل الله } أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز { من يشاء } بأي كلام شاء { ويهدي } بقدرته التامة { من يشاء } بنفس ذلك الكلام أو{[69884]} بغيره ، وذلك من حكم جعل الخزنة تسعة عشر والإخبار عنهم بتلك العدة فإن إبراز الأحكام على وجه الغموض من أعظم المهلكات والمسعدات ، {[69885]}لأن المنحرف{[69886]} الطباع يبحث عن عللها بحثً متعنت ، فإذا عميت عليه قطع ببطلان تلك الأحكام أو شك ، وربما أبى الانقياد ، وذلك هو سبب كفر إبليس والمستقيم المزاج يبحث-{[69887]} مع التسليم فإن ظهر له الأمر ازداد تسليماً وإلا قال : آمنت بذلك كل من عند ربنا - فكان في غاية ما يكون من تمام الانقياد لما{[69888]} يعلم سره - رزقنا الله التسليم لأمره وأعاننا على ذكره وشكره .
ولما كان هذا مما يوهم{[69889]} قلة جنوده تعالى ، أتبعه ما{[69890]} يزيل ذلك فقال : { وما } أي والحال أنه ما { يعلم جنود ربك } أي المحسن إليك بأنواع الإحسان المدبر لأمرك بغاية الإتقان من جعل النار وخزنتها وجعلهم على هذه العدة وغير ذلك ، فلا تعلم عدتهم لأجل كثرتهم وخروجهم عن طوق المخلوق وما هم عليه من الأوصاف في الأجساد والمعاني { إلا هو } أي الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال ، فلو أراد لجعل الخزنة أكثر من ذلك ، فقد روي أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا تعود إليهم{[69891]} نوبة أخرى ، وقد ورد أن الأرض في السماء كحلقة ملقاة في فلاة-{[69892]} وكل سماء في التي فوقها كذلك ، وقد ورد في الخبر{[69893]} : أطت السماء وحق لها أن تئط{[69894]} ما فيها موضع قدم إلا وفيه{[69895]} ملك قائم يصلي .
وإنما خص هذا العدد لحكم لا يعلمها إلا هو ، ومن أراد{[69896]} إطلاعه على ذلك من عباده مع أن{[69897]} الكفاية تقع بدون ذلك ، فقد كان في{[69898]} الملائكة من اقتلع مدائن قوم لوط وهي سبع {[69899]}ورفعها{[69900]} إلى عنان السماء ، وكل ما في الإنسان من الجواهر والإعراض من جنود الله {[69901]}لو سلط{[69902]} عليه شيء من نفسه لأهلكه : لو تحرك عرق ساكن أو سكن متحرك أو انسد مجوف أو تجوف منسد لهلك .
ولما ذكر شيئاً من أسرار سوق الأخبار عنها غامضاً ، وكان ذلك من رحمة العباد ليفتح لهم باباً إلى التسليم لما يغمض من تذكيرهم بأمر مليكهم لأن العاجز لا يسعه في المشي على قانون الحكمة إلا التسليم للقادر وإلا أهلك نفسه وما ضر غيرها ، خص أمرها في التذكير تأكيداً للإعلام تذكيراً {[69903]}بالنعمة لأجل ما{[69904]} لأغلب المخاطبين من اعوجاج الطباع المقتضي للرد والإنكار ، المقتضي لسوق الكلام على وجه التأكيد فقال : { وما هي } أي النار التي هي من-{[69905]} أعظم جنوده سبحانه وتعالى : { إلا ذكرى للبشر } أي تذكرة عظيمة {[69906]}لكل من{[69907]} هو ظاهر البشرة فبدنه أقبل شيء للتأثر بها لأجل ما يعرفون منها في دنياهم ، وإلا فهو سبحانه وتعالى قادر على إيجاد ما هو أشد منها وأعظم وأكثر إيلاماً مما لا يعلمه الخلائق .