تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

{ 112 } { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }

كأنه قيل : من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من اللّه بدخول الجنات ونيل الكرامات ؟ فقال : هم { التَّائِبُونَ ْ } أي : الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات .

{ الْعَابِدُونَ ْ } أي : المتصفون بالعبودية للّه ، والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبات في كل وقت ، فبذلك يكون العبد من العابدين .

{ الْحَامِدُونَ ْ } للّه في السراء والضراء ، واليسر والعسر ، المعترفون بما للّه عليهم من النعم الظاهرة والباطنة ، المثنون على اللّه بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار .

{ السَّائِحُونَ ْ } فسرت السياحة بالصيام ، أو السياحة في طلب العلم ، وفسرت بسياحة القلب في معرفة اللّه ومحبته ، والإنابة إليه على الدوام ، والصحيح أن المراد بالسياحة : السفر في القربات ، كالحج ، والعمرة ، والجهاد ، وطلب العلم ، وصلة الأقارب ، ونحو ذلك .

{ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ْ } أي : المكثرون من الصلاة ، المشتملة على الركوع والسجود .

{ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ْ } ويدخل فيه جميع الواجبات والمستحبات .

{ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ْ } وهي جميع ما نهى اللّه ورسوله عنه .

{ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ْ } بتعلمهم حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام ، وما لا يدخل ، الملازمون لها فعلا وتركا .

{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ْ } لم يذكر ما يبشرهم به ، ليعم جميع ما رتب على الإيمان من ثواب الدنيا والدين والآخرة ، فالبشارة متناولة لكل مؤمن .

وأما مقدارها وصفتها فإنها بحسب حال المؤمنين ، وإيمانهم ، قوة ، وضعفا ، وعملا بمقتضاه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

{ التائبون } رفع على المدح أي هم التائبون ، والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله : { وكلا وعد الله الحسنى } أو خبره ما بعده أي التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال . وقرئ بالياء نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين . { العابدون } الذين عبدوا الله مخلصين له الدين . { الحامدون } لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء . { السّائحون } الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم " سياحة أمتي الصوم " شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على حفايا الملك والملكوت ، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم . { الراكعون الساجدون } في الصلاة . { الآمرون بالمعروف } بالإيمان والطاعة . { والناهون عن المنكر } عن الشرك والمعاصي ، والعاطف فيه للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال : الجامعون بين الوصفين ، وفي قوله تعالى : { والحافظون لحدود الله } أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها . وقيل إنه للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية . { وبشر المؤمنين } يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ، ووضع { المؤمنين } موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك ، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الإفهام وتعبير الكلام .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

هذه الأوصاف هي من صفات المؤمنين الذين ذكر الله أنه اشترى منهم أنفسهم ، وارتفعت هذه الصفات لما جاءت مقطوعة في ابتداء آية على معنى : «هم التائبون » ، ومعنى الآية على ما تقتضيه أقوال العلماء والشرع أنها أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إليها أهل التوحيد حتى يكونوا في أعلى رتبة والآية الأولى مستقلة بنفسها يقع تحت تلك المبايعة كل موحد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإن لم يتصف بهذه الصفات التي هي في هذه الآية الثانية أو بأكثرها وقالت فرقة : بل هذه الأوصاف جاءت على جهة الشرط ، والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنين الذين هم على هذه الأوصاف ويبذلون أنفسهم في سبيل الله ، وأسند الطبري في ذلك عن الضحاك بن مزاحم أن رجلاً سأله عن قول الله عز وجل : { إن الله اشترى } [ التوبة : 11 ] وقال الرجل ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل ، فقال الضحاك : ويلك أين الشرط { التائبون العابدون } الآية ، وهذا القول تحريج وتضييق والله أعلم ، والأول أصوب ، والشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد ، وقد روي أن الله تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه ختم الله لنا بالحسنى ، وقالت فرقة : إن رفع «التائبين » إنما هو على الابتداء وما بعده صفة ، ألا قوله { الآمرون } فإنه خبر الابتداء كأنه قال «هم الآمرون » وهذا حسن إلا أن معنى الآية ينفصل من معنى التي قبلها وذلك قلق فتأمله ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «التائبين العابدين » إلى آخرها ، ولذلك وجهان أحدهما : الصفة للمؤمنين على اتباع اللفظ والآخر النصب على المدح ، و { التائبون } لفظ يعم الرجوع من الشر إلى الخير كان ذلك من كفر أو معصية والرجوع من حالة إلى ما هي أحسن منها ، وإن لم تكن الأولى شراً بل خيراً ، وهكذا توبة النبي صلى الله عليه وسلم واستغفاره سبعين مرة في اليوم ، والتائب هو المقلع عن الذنب العازم على التمادي على الإقلاع النادم على ما سلف ، والتائب عن ذنب يسمى تائباً وإن قام على غيره إلا أن يكون من نوعه فليس بتائب والتوبة ونقضها دائباً خير من الإصرار ، ومن تاب ثم نقض ووافى على النقض فإن ذنوبه الأولى تبقى عليه لأن توبته منها علم الله أنها منقوضة ، ويحتمل الأمر غير ذلك والله أعلم .

وقال الحسن في تفسير الآية : { التائبون } معناه من الشرك ، و { العابدون } لفظ يعم القيام بعبادة الله والتزام شرعه وملازمة ذلك والمثابرة عليه والدوام ، والعابد هو المحسن الذي فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ، «أن تعبد الله كأنك تراه »{[5923]} الحديث ، وبأدنى عبادة يؤديها المرء المسلم يقع عليه اسم عابد ويحصل في أدنى رتبته وعلى قدر زيادته في البادة يحصل الوصف ، و { الحامدون } معناه : الذاكرون لله بأوصافه الحسنى في كل حال وعلى السراء والضراء وحمده لأنه أهل لذلك ، وهو أعم من الشكر إذ الشكر إنما هو على النعم الخاصة بالشاكر ، و { السائحون } معناه الصائمون ، وروي عن عائشة أنها قالت : سياحة هذه الأمة الصيام ، وأسند الطبري وروي أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم{[5924]} ، وفي الحديث «إن لله ملائكة سياحين مشائين في الآفاق يبلغوني صلاة أمتي عليَّ »{[5925]} ويروى الحديث «صياحين » بالصاد من الصياح والسياحة في الأرض مأخوذ من السيح وهو الماء الجاري على الأرض إلى غير غاية ، وقال بعض الناس وهو في كتاب النقاش : { السائحون } هم الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته ، وهذا قول حسن وهي من أفضل العبادات ، ومن ذلك قول معاذ بن جبل : اقعد بنا نؤمن ساعة ، ويروى أن بعض العباد أخذ القدح ليتوضأ لصلاة الليل فأدخل أصبعه في أذن القدح وجعل يفكر حتى طلع الفجر فقيل له في ذلك فقال : أدخلت أصبعي في أذن القدح فتذكرت قول الله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل }{[5926]} وفكرت كي أتلقى الغل وبقيت في ذلك ليلي أجمع ، و { الراكعون الساجدون } هم المصلون الصلوات الخمس كذا قال أهل العلم ، ولكن لا يختلف في أن من يكثر النوافل هو أدخل في الاسم وأغرق في الاتصاف ، وقوله : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } هو أمر فرض على أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجملة ثم يفترق الناس فيه مع التعيين ، فأما ولاة الأمر والرؤساء فهو فرض عليهم في كل حال ، وأما سائر الناس فهو فرض عليهم بشروط : منها أن لا تلحقه مضرة وأن يعلم أن قوله يسمع ويعمل به ونحو هذا ثم من تحمل بعد في ذات الله مشقة فهو أعظم أجراً ، وأسند الطبري عن بعض العلماء أنه قال : حيثما ذكر الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو الأمر بالإسلام والنهي عن الكفر .

قال القاضي أبو محمد : ولا شك أنه يتناول هذا وهو أحرى ، إذ يتناول ما دونه{[5927]} فتعميم اللفظ أولى ، وأما هذه الواو التي في قوله { والناهون } ولم يتقدم في واحدة من الصفات قبل فقيل معناها الربط بين هاتين الصفتين وهي «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » إذ هما من غير قبيل الصفات الأول .

قال القاضي أبو محمد : لأن الأول فيما يخص المرء ، وهاتان بينه وبين غيره{[5928]} ، ووجب الربط بينهما لتلازمهما وتناسبهما ، وقيل هي زائدة وهذا قول ضعيف لا معنى له ، وقيل هي واو الثمانية لأن هذه الصفة جاءت ثامنة في الرتبة ومن هذا قوله في أبواب الجنة { وفتحت أبوابها }{[5929]} وقوله { وثامنهم كلبهم }{[5930]} ومن هذا قوله { ثيبات وأبكاراً }{[5931]} .

قال القاضي أبو محمد : على أن هذه تعترض حتى لا يلزم أن يكون واو ثمانية ، لأنها فرقت بين فصلين يعمان بمجموعهما جميع النساء ، ولا يصح أن يكون{[5932]} { ثيبات أبكاراً } [ التحريم : 5 ] ، فهي فاصلة ضرورة ، وواو الثمانية قد ذكرها ابن خالويه ، في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله { وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] ، وأنكرها أبو علي ، وحدثني أبي رضي الله عنه عن الأستاذ أبي عبد الله الكفيف المالقي وكان ممن استوطن غرناطة وقرأ فيها في مدة ابن حبوس أنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدوا واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة عشرة ، فهكذا هي لغتهم ، ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو{[5933]} ، وقوله { والحافظون لحدود لله } لفظ عام تحته إلزام الشريعة والانتهاء عما نهى الله في كل شيء وفي كل فن ، وقوله { وبشر المؤمنين } قيل هو لفظ عام أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أمته جميعاً بالخير من الله ، وقيل بل هذه الألفاظ خاصة لمن لم يغز أي لما تقدم في الآية وعد المجاهدين وفضلهم أمر أن يبشر سائر الناس ممن لم يغز بأن الإيمان مخلص من النار والحمد لله رب العالمين .


[5923]:- هذا جزء من حديث طويل رواه البخاري في تفسير سورة لقمان وفي كتاب الإيمان، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، ورواه أبو داود في كتاب السنة، ورواه الترمذي في كتاب الإيمان، وابن ماجه في المقدمة، والإمام أحمد في مواضع كثيرة، وفيه أن جبريل عليه السلام سأل عن الإيمان، فأجاب، ثم سأله عن الإسلام فأجاب، ثم سأله عن الإحسان فقال: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ثم سأله عن الساعة فأجاب بالحديث عن أشراطها، ثم قال في آخر الحديث: (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم).
[5924]:- الخبر المسند إلى عائشة رضي الله عنها أسنده الطبري، أما أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي عن أبي هريرة موقوفا كما قال الشوكاني. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ وابن مردويه، وابن النجار من طريق أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (السائحون هم الصائمون) (الدر المنثور).
[5925]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه-عن ابن مسعود رضي الله عنه، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بالصحة ولفظه كما رواه: (إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام). (الجامع الصغير).
[5926]:- من الآية (71) من سورة (غافر)
[5927]:- جاء في بعض النسخ: "إذ يتناول ما دونه"، على معنى أن اللفظ يتناول ما دون الإسلام والكفر فأولى به أن يتناولها.
[5928]:- جاء ترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن، إذ بدأ أولا بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى، ثم بما يتعدى الإنسان إلى غيره كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه ويتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله، ولما ذكر الله جميع الصفات أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبشر المؤمنين، وفي الآية التي قبلها أمرهم سبحانه بالاستبشار فقال: {فاستبشروا ببيعكم} فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار وأمر رسوله أن يبشرهم.
[5929]:- في الآية (73) من سورة (الزمر).
[5930]:- في الآية (2) من سورة (الكهف).
[5931]:- من الآية (5) من سورة (التحريم).
[5932]:- أي: لا يصح أن يكون التعبير "ثيبات أبكارا" لأن هذا غير ممكن، وفي بعض النسخ: "لا يصح أن يكنّ" أي النساء.
[5933]:- يرى بعض النحويين أن الواو التي تدخل على العدد ثمانية أو على ثامن الأشياء المعدودة تسمى "واو الثمانية"، ومنهم ابن خالويه الذي ذكرها في مناظرته لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى في سورة الزمر: {وفتحت أبوابها}، وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول: "ستة، سبعة، وثمانية" فتدخل الواو في الثمانية، وحكى نحوه القفال فقال: إن قوما قالوا: العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله تعالى: {التائبون العابدون***} ثم قال سبحانه: {والناهون عن المنكر}، وبدل على ذلك أنه سبحانه لما ذكر أبواب جهنم قال: {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} بدون واو، ولما ذكر الجنة قال: {وفتحت أبوابها} بالواو، وأنه سبحانه قال في سورة التحريم: {خيرا منكم مسلمات}.. إلى أن قال: {وأبكارا}، فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا، قال القشيري أبو نصر: ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين أن السبعة نهاية عندهم؟ ثم هو منقوض بقوله تبارك وتعالى: {هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} ولم يذكر الاسم الثامن بالواو، وإنما ذكرت الواو في هذه الآيات لعله خاصة في كل آية، وفي آيتنا هذه ذكر ابن عطية رحمه الله العلة وهي أنها أداة للربط بين صفتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهما تختلفان عن الصفات السابقة من حيث أنهما تتعلقان بصلة المرء بغيره، أما الصفات الأولى فتختص بالمرء نفسه، وذكر أبو حيان التوحيدي علة أخرى خلاصتها أن الصفات إذا تكررت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الإتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف، ولما كان الأمر بالمعروف مباينا للنهي عن المنكر لأن الأول طلب فعل والثاني ترك فعل حسن العطف في قوله سبحانه: {والناهون عن المنكر}- هذا وسنذكر إن شاء الله علّة ذكر الواو في الآيات الأخرى في مواضعها إن شاء الله، أي في (الكهف)، (الزمر) و(التحريم).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلتَّـٰٓئِبُونَ ٱلۡعَٰبِدُونَ ٱلۡحَٰمِدُونَ ٱلسَّـٰٓئِحُونَ ٱلرَّـٰكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدُونَ ٱلۡأٓمِرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡحَٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (112)

اسماء الفاعلين هنا أوصاف للمؤمنين من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] فكان أصلها الجر ، ولكنها قطعت عن الوصفية وجعلت أخباراً لمبتدأ محذوف هو ضمير الجمع اهتماماً بهذه النعوت اهتماماً أخرجها عن الوصفية إلى الخبرية ، ويسمى هذا الاستعمال نعتاً مقطوعاً ، وما هو بنعت اصطلاحي ولكنه نعت في المعنى .

ف { التائبون } مراد منه أنهم مفارقون للذنوب سواء كان ذلك من غير اقترافِ ذنب يقتضي التوبة كما قال تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه } [ التوبة : 117 ] الآية أم كان بعد اقترافه كقوله تعالى : { فإن يتوبوا يك خيراً لهم } [ التوبة : 74 ] بعد قوله : { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } [ التوبة : 74 ] الآية المتقدمة آنفاً . وأول التوْبة الإيمان لأنه إقلاع عن الشرك ، ثم يدخل منهم من كان له ذنب مع الإيمان وتاب منه . وبذلك فارق النعت المنعوت وهو { المؤمنين } [ التوبة : 111 ] .

و{ العابدون } : المؤدّون لما أوجب الله عليهم .

و{ الحامدون } : المعترفون لله تعالى بنعمه عليهم الشاكرون له .

و{ السائحون } : مشتق من السياحة . وهي السير في الأرض . والمراد به سير خاص محمود شرعاً . وهو السفر الذي فيه قربة لله وامتثال لأمره ، مثل سفر الهجرة من دار الكفر أو السفر للحج أو السفر للجهاد . وحمله هنا على السفر للجهاد أنسب بالمقام وأشمل للمؤمنين المأمورين بالجهاد بخلاف الهجرة والحج .

و{ الراكعون الساجدون } : هم الجامعون بينهما ، أي المصلون ، إذ الصلاة المفروضة لا تخلو من الركوع والسجود .

و{ الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } : الذين يَدْعون الناس إلى الهدى والرشاد وينهونهم عما ينكره الشرع ويأباه . وإنما ذكر الناهون عن المنكر بحرف العطف دون بقية الصفات ، وإن كان العطف وتركه في الأخبار ونحوها جائزين ، إلا أن المناسبة في عطف هذين دون غيرهما من الأوصاف أن الصفات المذكورة قبلها في قوله : { الراكعون الساجدون } ظاهرة في استقلال بعضها عن بعض . ثم لما ذكر { الراكعون الساجدون } علم أن المراد الجامعون بينهما ، أي المصلون بالنسبة إلى المسلمين . ولأن الموصوفين بالركوع والسجود ممن وعدهم الله في التوارة والإنجيل كانت صلاة بعضهم ركوعاً فقط ، قال تعالى في شأن داود عليه السلام : { وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] ، وبعض الصلوات سجوداً فقط كبعض صلاة النصارى ، قال تعالى : { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } [ آل عمران : 43 ] . ولما جاء بعده { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } وكانا صفتين مستقلتين عطفتا بالواو لئلا يتوهم اعتبار الجمع بينهما كالوصفين اللذين قبلهما وهما { الراكعون الساجدون } فالواو هنا كالتي في قوله تعالى : { ثيبات وأبكاراً } [ التوبة : 112 ] .

و{ الحافظون لحدود الله } : صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها . وحقيقة الحفظ توخي بقاء الشيء في المكان الذي يراد كونه فيه رغبة صاحبه في بقائه ورعايته عن أن يضيع . ويطلق مجازاً شائعاً على ملازمة العمل بما يؤمر به على نحو ما أمر به وهو المراد هنا ، أي والحافظون لما عين الله لهم ، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله .

وأطلقت الحدود مجازاً على الوصايا والأوامر . فالحدود تشمل العبادات والمعاملات لما تقدم في قوله تعالى : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } في سورة البقرة ( 229 ) . ولذلك ختمت بها هذه الأوصاف . وعطفت بالواو لئلا يوهم ترك العطف أنها مع التي قبلها صفتان متلازمتان معدودتان بعد صفة الأمر بالمعروف .

وقال جمع من العلماء : إن الواو في قوله : { والناهون عن المنكر } واو يكثر وقوعها في كلام العرب عند ذكر معدود ثامن ، وسمَّوها واوَ الثَّمانية . قال ابن عطية : ذكرها ابن خَالويه في مناظرتِه لأبي علي الفارسي في معنى قوله تعالى : { حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] . وأنكرها أبو علي الفارسي . وقال ابن هشام في « مغني اللبيب » « وذكرها جماعة من الأدباء كالحريري ، ومن المفسرين كالثعلبي ، وزعموا أن العرب إذا عَدّوا قالوا : ستة سبعة وثمانية ، إيذاناً بأن السبعة عدد تام وأن ما بعدها عدد مستأنف ، واستدلُّوا بآيات إحداها : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى قوله سبحانه { سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22 ] . ثم قال : الثانية آيةُ الزمر ( 71 ) إذ قيل : { فُتحت } في آية النار لأن أبواب جهنم سبعة ، { وفتحت } [ الزمر : 73 ] في آية الجنة إذ أبوابها ثمانية . ثم قال : الثالثة : { والناهون عن المنكر } فإنه الوصف الثامن . ثم قال : والرابعة : { وأبكاراً } في آية التحريم ( 5 ) ذكرها القاضي الفاضل وتبجح باستخراجها وقد سبقه إلى ذكرها الثعلبي . . . وأما قول الثعلبي : أن منها الواو في قوله تعالى : { سبعَ ليال وثمانيةَ أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] فسهو بيّن وإنما هذه واو العطف اه . وأطَال في خلال كلامه بردود ونقوض .

وقال ابن عطية « وحدثني أبي عن الأستاذ النحوي أبي عبد الله الكفيف المالقي وأنه قال : هي لغة فصيحة لبعض العرب من شأنهم أن يقولوا إذا عدّوا : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، تسعة ، عشرة ، فهكذا هي لغتهم . ومتى جاء في كلامهم أمر ثمانية أدخلوا الواو » اه .

وقال القرطبي : هي لغة قريش .

وأقول : كثر الخوض في هذا المعنى للواو إثباتاً ونفياً ، وتوجيهاً ونقضاً . والوجه عندي أنه استعمال ثابت ، فأما في المعدود الثامن فقد اطرد في الآيات القرآنية المستدَل بها . ولا يريبك أن بعض المقترن بالواو فيها ليس بثامن في العدة لأن العبرة بكونه ثامناً في الذكر لا في الرتبة .

وأما اقتران الواو بالأمر الذي فيه معنى الثامن كما قالوا في قوله تعالى : { وفُتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] . فإن مجيء الواو لِكون أبواب الجنة ثمانية ، فلا أحسبه إلا نكتة لطيفة جاءت اتفاقية . وسيجيء هذا عند قوله تعالى في سورة الزمر { حتى إذا جاءها وفتحت أبوابها } [ الزمر : 73 ] .

وجملة : { وبشر المؤمنين } عطف على جملة { إن الله اشترى من المؤمنين } [ التوبة : 111 ] عطفَ إنشاء على خبر . ومما حسَّنه أن المقصود من الخبر المعطوفِ عليه العمل به فأشبه الأمر . والمقصود من الأمر بتبشيرهم إبلاغُهم فكان كلتا الجملتين مراداً منها معنيان خبريّ وإنشائي . فالمراد بالمؤمنين هم المؤمنون المعهودون من قوله : { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] .

والبشارة تقدمت مراراً .