تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

{ 53 - 54 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا * إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

يأمر تعالى عباده المؤمنين ، بالتأدب مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، في دخول بيوته فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ } أي : لا تدخلوها بغير إذن للدخول فيها ، لأجل الطعام . وأيضًا لا تكونوا { نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي : منتظرين ومتأنين لانتظار نضجه ، أو سعة صدر بعد الفراغ منه . والمعنى : أنكم لا تدخلوا بيوت النبي إلا بشرطين :

الإذن لكم بالدخول ، وأن يكون جلوسكم بمقدار الحاجة ، ولهذا قال : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي : قبل الطعام وبعده .

ثم بين حكمة النهي وفائدته فقال : { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي : انتظاركم الزائد على الحاجة ، { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي : يتكلف منه ويشق عليه حبسكم إياه عن شئون بيته ، واشتغاله فيه { فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ } أن يقول لكم : { اخرجوا } كما هو جاري العادة ، أن الناس -وخصوصًا أهل الكرم منهم- يستحيون أن يخرجوا الناس من مساكنهم ، { و } لكن { اللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }

فالأمر الشرعي ، ولو كان يتوهم أن في تركه أدبا وحياء ، فإن الحزم كل الحزم ، اتباع الأمر الشرعي ، وأن يجزم أن ما خالفه ، ليس من الأدب في شيء . واللّه تعالى لا يستحي أن يأمركم ، بما فيه الخير لكم ، والرفق لرسوله كائنًا ما كان .

فهذا أدبهم في الدخول في بيوته ، وأما أدبهم معه في خطاب زوجاته ، فإنه ، إما أن يحتاج إلى ذلك ، أو لا يحتاج إليه ، فإن لم يحتج إليه ، فلا حاجة إليه ، والأدب تركه ، وإن احتيج إليه ، كأن يسألن متاعًا ، أو غيره من أواني البيت أو نحوها ، فإنهن يسألن { مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } أي : يكون بينكم وبينهن ستر ، يستر عن النظر ، لعدم الحاجة إليه .

فصار النظر إليهن ممنوعًا بكل حال ، وكلامهن فيه التفصيل ، الذي ذكره اللّه ، ثم ذكر حكمة ذلك بقوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } لأنه أبعد عن الريبة ، وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر ، فإنه أسلم له ، وأطهر لقلبه .

فلهذا ، من الأمور الشرعية التي بين اللّه كثيرًا من تفاصيلها ، أن جميع وسائل الشر وأسبابه ومقدماته ، ممنوعة ، وأنه مشروع ، البعد عنها ، بكل طريق .

ثم قال كلمة جامعة وقاعدة عامة : { وَمَا كَانَ لَكُمْ } يا معشر المؤمنين ، أي : غير لائق ولا مستحسن منكم ، بل هو أقبح شيء { أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } أي : أذية قولية أو فعلية ، بجميع ما يتعلق به ، { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } هذا من جملة ما يؤذيه ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم ، له مقام التعظيم ، والرفعة والإكرام ، وتزوج زوجاته [ بعده ]{[719]}  مخل بهذا المقام .

وأيضا ، فإنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ، والزوجية باقية بعد موته ، فلذلك لا يحل نكاح زوجاته بعده ، لأحد من أمته . { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } وقد امتثلت هذه الأمة ، هذا الأمر ، واجتنبت ما نهى اللّه عنه منه ، وللّه الحمد والشكر .


[719]:- زيادة من: ب.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } إلا وقت أن يؤذن لكم أو إلا مأذونا لكم . { إلى طعام } متعلق ب { يؤذن } لأنه متضمن معنى يدعى للإشعار بأنه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن كما أشعر به قوله : { غير ناظرين إناه } غير منتظرين وقته ، أو إدراكه حال من فاعل { لا تدخلوا } أو المجرور في { لكم } . وقرئ بالجر صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له بلا إبراز الضمير ، وهو غير جائز عند البصريين وقد أمال حمزة والكسائي إناه لأنه مصدر أنى الطعام إذا أدرك . { ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا } تفرقوا ولا تمكثوا ، ولأنه خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم وإلا لما جاز أحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام ولا اللبث بعد الطعام لهم . { ولا مستأنسين لحديث } لحديث بعضكم بعضا ، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على { ناظرين } أو مقدر بفعل أي : ولا تدخلوا أو ولا تمكثوا مستأنسين . { إن ذلكم } اللبث . { كان يؤذي النبي } لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه . { فيستحي منكم } من إخراجكم بقوله : { والله لا يستحيي من الحق } يعني أن إخراجكم حق فينبغي أن لا يترك حياء كما لم يتركه الله ترك الحيي فأمركم بالخروج ، وقرئ " لا يستحي " بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء . { وإذا سألتموهن متاعا } شيئا ينتفع به . { فاسألوهن } المتاع . { من وراء حجاب } ستر . روي " أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت " . وقيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل عائشة رضي الله عنها فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت . { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من الخواطر النفسانية الشيطانية . { وما كان لكم } وما صح لكم . { أن تؤذوا رسول الله } أن تفعلوا ما يكرهه . { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } من بعد وفاته أو فراقه ، وخص التي لم يدخل بها ، لما روي أن أشعث بن قيس تزوج المستعيذة في أيام عمر رضي الله عنه فهم برجمها ، فأخبر بأنه عليه الصلاة والسلام فارقها قبل أن يمسها فتركها من غير نكير . { إن ذلكم } يعني إيذاءه ونكاح نسائه . { كان عند الله عظيما } ذنبا عظيما ، وفيه تعظيم من الله لرسوله وإيجاب لحرمته حيا وميتا ولذلك بالغ في الوعيد عليه فقال : { إن تبدوا شيئا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَدۡخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلَّآ أَن يُؤۡذَنَ لَكُمۡ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيۡرَ نَٰظِرِينَ إِنَىٰهُ وَلَٰكِنۡ إِذَا دُعِيتُمۡ فَٱدۡخُلُواْ فَإِذَا طَعِمۡتُمۡ فَٱنتَشِرُواْ وَلَا مُسۡتَـٔۡنِسِينَ لِحَدِيثٍۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ يُؤۡذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسۡتَحۡيِۦ مِنكُمۡۖ وَٱللَّهُ لَا يَسۡتَحۡيِۦ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ إِنَّ ذَٰلِكُمۡ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمًا} (53)

هذه الآية تضمنت قصتين إحداهما الأدب في أمر الطعام والجلوس الثانية في أمر الحجاب ، فأما الأولى فالجمهور من المفسرين على أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش أولم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا ، قعد نفر في طائفة من البيت فثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم فخرج ليخرجوا لخروجه ، ومر على حجر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم وزينب في البيت معهم ، فلما دخل وراءهم انصرف فخرجوا عند ذلك ، قال أنس بن مالك : فأعلم أو أعلمته بانصرافهم فجاء ، فلما وصل الحجرة أرخى الستر بيني وبينه ودخل ، ونزلت الآية بسبب ذلك{[9558]} ، وقال قتادة ومقاتل وفي كتاب الثعلبي : إن هذا السبب جرى في بيت أم سلمة{[9559]} والأول أشهر ، وقال ابن عباس : نزلت في ناس في المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون{[9560]} ، وقال إسماعيل بن أبي حكيم : هذا أدب أدّب الله تعالى به الثقلاء ، وقال ابن أبي عائشة في كتاب الثعلبي : بحسبك من الثقلاء إن الشرع لم يحتملهم ، وأما آية الحجاب فقال أنس بن مالك وجماعة سببها أمر العقود في بيت زينب ، القصة المذكورة آنفاً ، وقالت فرقة بل في بيت أم سلمة ، وقال مجاهد سبب آية الحجاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل معه قوم وعائشة معهم فمست يدها يد رجل منهم فنزلت آية الحجاب بسبب ذلك ، وقالت عائشة وجماعة سبب الحجاب كلام عمر وأنه كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يحجب نساءه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفعل وكان عمر يتابع فخرجت سودة ليلة لحاجتها وكانت امرأة تفرع النساء طولاً فناداها عمر قد عرفناك يا سودة -رصاً على الحجاب{[9561]}-

وقالت له زينب بنت جحش : عجبنا لك يا ابن الخطاب تغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فما زال عمر يتابع حتى نزلت آية الحجاب{[9562]} .

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث : منها الحجاب ، ومقام إبراهيم ، و{ عسى ربه إن طلقكن }{[9563]} . الحديث{[9564]} .

وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى دار الدعوة ينتظر طبخ الطعام ونضجه في حديث أنس ، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا ، كذلك فنهى الله تعالى المؤمنين عن أمثال ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ودخل في النهي سائر المؤمنين ، والتزم الناس أدب الله تعالى لهم في ذلك فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام ، و { ناظرين } معناه منتظرين و { إناه } مصدر أنى الشيء يأنى إذا فرغ وحان آناً ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]

تمخضت المنون له بيوم . . . أنى ولكل خاتمة تمام{[9565]}

وقرأ الجمهور بفتح النون من «إناه » وأمالها حمزة والكسائي ، ثم أكد المنع وحصر وقت الدخول بأن يكون عن الإذن ، ثم أمر تعالى بعد الطعام بأن يفترق جمعهم وينتشر ، وقوله { ولا مستأنسين } عطف على قوله { غير ناظرين } و { غير } منصوبة على الحال من الكاف والميم في { لكم } أي ناظرين ولا مستأنسين ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير » بكسر الراء وجوازه على تقدير «غير ناظرين إناه أنتم {[9566]} » ، وقرأ الأعمش «آناءة » على جمع «أنى » بمدة بعد النون{[9567]} ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بإظهار الياء المكسورة قبل الساكنة ، وقرأت فرقة «فيستحيي » بسكون الياء دون ياء مكسورة قبلها ، وقوله { والله لا يستحيي } معناه لا يقع منه ترك قوله { الحق } ولما كان ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء نفي عن الله تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر ، وقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً } الآية هي آية الحجاب ، و «المتاع » عام في جميع ما يمكن أن يطلب على عرف السكنى والمجاورة من المواعين وسائر المرافق للدين والدنيا ، وقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } يريد من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النّساء وللنساء في أمر الرجال ، وقوله تعالى : { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } الآية روي أنها نزلت بسبب أن بعض الصحابة قال : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأذى به ، هكذا كنى عنه ابن عباس ببعض الصحابة ، وحكى مكي عن معمر أنه قال هو طلحة بن عبيد الله{[9568]} .

قال الفقيه الإمام القاضي : لله در ابن عباس ، وهذا عندي لا يصح على طلحة ، الله عاصمه منه ، وروي أن رجلاً من المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خُنَيْس بن حذافة ما بال محمد يتزوج نساءنا والله لو مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت الآية في هذا ، وحرم الله تعالى نكاح أزواجه بعده وجعل لهن حكم الأمهات ، ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ثم رجعت زوج عكرمة بن أبي جهل قتيلة بنت الأشعث بن قيس وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوجها ولم يبن بها{[9569]} فصعب ذلك على أبي بكر الصديق وقلق منه فقال له عمر : مهلاً يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنه لم يخيرها ولا أرخى عليها حجاباً وقد أبانتها منه ردتها مع قومها ، فسكن أبو بكر{[9570]} ، وذهب عمر إلى أن لا يشهد جنازة زينب بنت جحش إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب ، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش في القبة وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الحبشة فصنعه عمر ، وروي أن ذلك صنع في جنازة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم .


[9558]:أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والنسائي،وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه-من طرق- عن أنس رضي الله عنه.(الدر المنثور)، وفي(فتح القدير): أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
[9559]:أخرجه عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة رضي الله عنه.
[9560]:ذكره البغوي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند.
[9561]:أخرجه ابن جرير الطبري عن عائشة رضي الله عنها-(فتح القدير، والدر المنثور)، قال ابن كثير: هكذا وقع في هذه الرواية، والمشهور أن هذا كان بعد نزول الحجاب، كما رواه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
[9562]:أخرجه ابن جرير،عن ابن مسعود من طريق عطاء بن السائب، وذكره السيوطي في الدر المنثور، من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الحافظ بن في حجر في تخريج(الكشاف):"رواه الثعلبي من رواية مجاهد عن الشعبي".
[9563]:من الآية (5) من سورة التحريم).
[9564]:أخرجه البخاري في الصلاة، وفي تفسير آل عمران، ومسلم في فضائل الصحابة، والدارمي في المناسك، والإمام أحمد في مسنده(1-23، 36)، ولفظه:(وافقت ربي عز وجل في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فأنزل الله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقلت:يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالأن عليه في الغيرة:"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن" فنزلت كذلك. هذا وقد ذكر-في رواية لمسلم- قصة أسارى بدر، وهي نقطة رابعة حصلت فيها الموافقة.
[9565]:نسبه في التاج إلى عمرو بن حسان، ونسبه في القرطبي إلى الشيباني، وذكره مع بيت قبله وهو: وكسرى إذ تقسمه بنوه بأسياف كما اقتسم اللحام واستشهد به في اللسان غير منسوب، قال:"ابن الأنباري: الأنى من بلوغ الشيء منتهاه، مقصور يكتب بالياء، وقد أنى ياني، وقال: تمخضت المنون...البيت"، أي: أدرك وبلغ، وهكذا قال صاحب التاج، وعلى هذا فإن(أنى) في البيت فعل ماض بمعنى أدرك وبلغ. ومعنى البيت أن كل شيء له أوان ينتهي عنده، كما أن كل ما تحمل من النساء لا بد أن تلد عندما تتم حملها.
[9566]:يرى الفراء أن[غير] بالنصب نعت للقوم، وهم معرفة، و[غير] نكرة، فنصبت على الفعل، كقوله تعالى:{أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد}، ثم قال:"ولو خفضت{غير ناظرين} كان صوابا، لأن قبلها[طعام] وهو نكرة، فتجعل فعلهم تابعا للطعام، كما تقول العرب: رأيت زيدا مع امرأة محسن إليها، محسنا إليها".
[9567]:في (أنى) لغات، تكون بكسر الهمزة، و(أنى) بفتحها، و(أناء) بفتح الهمزة والمد، وعلى هذه جاء قول الحطيئة: وأخرت العشاء إلى سهيل أو الشعرى فطال بي الأناء.
[9568]:هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة التيمي، أبو محمد المدني، أحد العشرة المبشرين بالجنة، مشهور، استشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين وكان عمره ثلاثا وستين سنة.(تقريب التهذيب). هذا وقد ذكر السيوطي الحديث في(الدر المنثور) من طريق ابن مردويه عن ابن عباس، وقال الحافظ بن حجر في (تخريج الكشاف):"وروى ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق داود عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية، قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم...الحديث، قال السيوطي في(الدر):قال: سفيان: ذكروا أنها عائشة رضي الله عنها"ا هـ. كلام الحافظ. وقال القشيري أبو نصر عبد الرحمن:"قال ابن عباس: قال رجل من سادات قريش من العشرة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حراء-في نفسه-: لو توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوجت عائشة، وهي بنت عمي، قال مقاتل: هو طلحة بن عبيد الله، قال ابن عباس: وندم هذا الرجل على ما حدث به في نفسه، فمشى إلى مكة على رجليه، وحمل على عشرة أفراس في سبيل الله، وأعتق رقيقا، فكفر الله عنه". هذا مجمل ما روي عن طلحة في هذه القصة، ولكن ابن عطية رحمه الله ينفيها عنه كما رأينا، والقرطبي يقول بعد أن حكى الخبر عن النحاس:"ولا يصح"، وقال الإمام أبو العباس:"وقد حكي هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة، وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله"، والآية صريحة في تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على الناس بعد وفاته، قال الشافعي:"ومن استحل ذلك كان كافرا".
[9569]:أي: لم يدخل بها، يقال: بنى الرجل بامرأته وعليها بمعنى:دخل بها.
[9570]:قال القرطبي:"أما زوجاته صلى الله عليه وسلم اللاتي فارقهن في حياته مثل الكلبية، فهل كان يحل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية تزوجها عكرمة بن أبي جهل"، وقيل: إن الذي تزوجها هو الأشعث بن قيس الكندي- لاحظ اسمها كما نقله ابن عطية-،وقيل: بل إن الذي تزوجها هو مهاجر بن أبي أمية.قال القاضي أبو الطيب:"ولم ينكر ذلك أحد، فدل على أنه إجماع".