تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

يقول تعالى - لما انهزم المشركون يوم بدر ، وقتلهم المسلمون - فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بحولكم وقوتكم وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ حيث أعانكم على ذلك بما تقدم ذكره .

وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت القتال دخل العريش وجعل يدعو اللّه ، ويناشده في نصرته ، ثم خرج منه ، فأخذ حفنة من تراب ، فرماها في وجوه المشركين ، فأوصلها اللّه إلى وجوههم ، فما بقي منهم واحد إلا وقد أصاب وجهه وفمه وعينيه منها ، فحينئذ انكسر حدهم ، وفتر زندهم ، وبان فيهم الفشل والضعف ، فانهزموا .

يقول تعالى لنبيه : لست بقوتك - حين رميت التراب - أوصلته إلى أعينهم ، وإنما أوصلناه إليهم بقوتنا واقتدارنا . وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا أي : إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين ، من دون مباشرة قتال ، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين ، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المقامات ، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابا جزيلا .

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع تعالى ما أسر به العبد وما أعلن ، ويعلم ما في قلبه من النيات الصالحة وضدها ، فيقدر على العباد أقدارا موافقة لعلمه وحكمته ومصلحة عباده ، ويجزي كلا بحسب نيته وعمله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

{ فلم تقتلوهم } بقوتكم . { ولكن الله قتلهم } بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم . روي : أنه لما طلعت قريش من العقنقل قال عليه الصلاة والسلام : هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك ، اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من الحصباء فرمى بها في وجوههم وقال " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر فيقول الرجل قتلت وأسرت ، فنزلت . والفاء جواب شرط محذوف تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم . { وما رميت } يا محمد رميا توصله إلى أعينهم ولم تقدر عليه . { إذ رميت } أي إذ أتيت بصورة الرمي . { ولكنّ الله رمى } أتى بما هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم ، وقد عرفت أن اللفظ يطلق على المسمى وعلى ما هو كماله والمقصود منه . وقيل معناه ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم . وقيل إنه نزل في طعنة طعن بها أبي بن خلف يوم أحد ولم يخرج منه دم فجعل يخور حتى مات . أو رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه ، والجمهور على الأول . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي { ولكن } بالتخفيف ورفع ما بعده في الموضعين . { وليُبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } ولينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات فعل ما فعل . { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم . { عليم } بنياتهم وأحوالهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَيۡتَ إِذۡ رَمَيۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبۡلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡهُ بَلَآءً حَسَنًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (17)

هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليسوا هم مستبدين بالقتل ، لأن القتل بالإقدار عليه ، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء ، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده ، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم ، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم مما فعل ، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية ، وقوله { وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى } يراد به ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله يومئذ ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب ، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية ، ويروى أنه قال يوم بدر : شاهت الوجوه ، وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم حنين بلا خلاف ، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء ، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث .

قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ما قلناه في قوله { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } وذلك منصوص في الطبري وغيره ، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ، ونحوه قول العباس بن مرداس : [ المتقارب ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فلم أعط شيئاً ولم أمنعِ{[5267]}

أي لن أعط شيئاً مرضياً ويحتمل أن يريد ، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك ، ولكن الله رماه وهذا أيضاً منصوص في المهدوي وغيره ، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك ، والعرب تقول في الدعاء : رمى الله لك ، أي أعانك وصنع لك .

وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة «ولكنّ الله رمى » بتشديد النون ، وفرقة «ولكنْ اللهُ » بتخفيفها ورفع الهاء من «الله » { وليبلي } أي ليصيبهم ببلاء حسن ، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة ، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً ، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء ، وغيرهم ، { إن الله سميع } لاستغاثتكم ، { عليم } بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو ، وحكى الطبري : أن المراد بقوله { وما رميت إذ رميت } رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد{[5268]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر ، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد ، وحكي أيضاً أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه{[5269]} ، وهذا فاسد ، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير ، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا ، فهذان القولان ضعيفان لما ذكرناه .


[5267]:- هذا عجز البيت، وتمامه: وقد كنت في القوم ذا ُتْدَرإ فلم أعط شيئا ولم أمنع. قال ابن الأثير: ذو تدرإ أي: ذو هجوم لا يتوقى ولا يهاب ففيه قوة على دفع أعدائه، وهو إسم موضوع للدفع، والتاء فيه زائدة كما زيدت في تَتْفُل وتنضب وترتُب، يقال: السلطان ذو تدرأ بضم التاء، أي ذو عُدة وقوة على دفع أعدائه عن نفسه (اللسان).
[5268]:- كان أبي بن خلف قد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل في مكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بل أنا أقتلك)، فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له "سرف"، قال موسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما كان يوم أحد أقبل أبي مقنعا في الحديد على فرسه يقول: لا نجوت إن نجا محمد، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله، قال موسى بن عقبة: قال سعيد ابن المسيب: فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخّلوا طريقه، فاستقبله مصعب بن عمير يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مصعب بن عمير، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة بين سابغة البيضة والدّرع، فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه، ولم يخرج من طعنته دم، قال سعيد: فكسر ضلعا من أضلاعه، قال: ففي ذلك نزل: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} والقصة صحيحة، ولكن القول بأن الآية نزلت فيها هو الذي يصفه ابن عطية وغيره من المفسرين بالضعف لأن الآية نزلت عقب بدر.
[5269]:- قصة قتل ابن أبي الحقيق فيها روايات كثيرة، والذي يهمنا هنا أنها كانت في فتح خيبر بعيدة تماما عن هذه الآية التي نزلت عقب غزوة بدر.