{ 126 - 128 } { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } .
يقول تعالى -مبيحا للعدل ونادبا للفضل والإحسان- : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } من أساء إليكم بالقول والفعل ، { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، من غير زيادة منكم على ما أجراه معكم .
{ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ } عن المعاقبة ، وعفوتم عن جرمهم ، { لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } من الاستيفاء ، وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } .
يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق ، كما قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين : أنه قال في قوله تعالى : { فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، إن أخذ منكم رجل شيئًا ، فخذوا منه مثله .
وكذا قال مجاهد ، وإبراهيم ، والحسن البصري ، وغيرهم . واختاره ابن جرير .
وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين ، فأسلم رجال ذوو منعةٍ ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ! فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ ذلك بالجهاد .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يَسَار قال : نزلت سورة " النحل " كلها بمكة ، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد ، حيث قتل حمزة ، رضي الله عنه ، ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم " ، فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط . فأنزل الله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر السورة{[16754]} .
وهذا مرسل ، وفيه [ رجل ]{[16755]} مبهم لم يسم ، وقد روي هذا من وجه{[16756]} آخر متصل ، فقال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا صالح المري{[16757]} ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب ، رضي الله عنه ، حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه . أو قال : لقلبه [ منه ]{[16758]} فنظر{[16759]} إليه وقد مُثِّل به فقال : " رحمة الله عليك ، إن كنت - لما علمتُ - لوصولا للرحم ، فعولا للخيرات ، والله لولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة نحوها - أما والله على ذلك ، لأمثلن بسبعين كمثلتك{[16760]} . فنزل جبريل ، عليه السلام ، على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة{[16761]} وقرأ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر الآية ، فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : عن يمينه - وأمسك عن ذلك{[16762]} .
وهذا إسناد فيه ضعف ؛ لأن صالحا - هو ابن بشير المري - ضعيف عند الأئمة ، وقال البخاري : هو منكر الحديث .
وقال الشعبي وابن جُرَيْج : نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم : لنمثلن بهم . فأنزل الله فيهم ذلك .
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا هدِيَّة{[16763]} بن عبد الوهاب المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، حدثنا عيسى بن عبيد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد ، قتل من الأنصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لَنُرْبِيَنَّ عليهم . فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا تعرف{[16764]} قريش بعد اليوم . فنادى مناد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الأسود والأبيض إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ [ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ] }{[16765]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نصبر ولا نعاقب " {[16766]} .
وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ، ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ الشورى : 40 ] . وقال { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ، ثُمَّ قَالَ : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [ المائدة : 45 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، ثُمَّ قَالَ : { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } .
عَطف على جملة { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } [ سورة النحل : 125 ] ، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إيّاهم كما وصفنا ، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبين لمشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بِتجاوُز حدّ ما لقيتم منهم .
فهذه الآية متّصلة بما قبلها أتم اتّصال ، وحسبك وجود العاطف فيها . وهذا تدرّج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويوعظون إلى معاملة الذين يجادلون ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم ، وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام .
وهذا مختار النحاس وابن عطية وفخر الدين ، وبذلك يترجّح كون هذه الآية مكية مع سوابقها ابتداء من الآية الحادية والأربعين ، وهو قول جابر بن زيد ، كما تقدم في أول السورة . واختار ابن عطية أن هذه الآية مكّية .
ويجوز أن تكون نزلت في قصة التّمثيل بحَمزة يوم أُحُد ، وهو مرويّ بحديث ضعيف للطبراني . ولعلّه اشتبه على الرّواة تذكر النبي الآيةَ حين توعّد المشركين بأن يمثّل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم .
والخطاب للمؤمنين ويدخل فيه النبي .
والمعاقبة : الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء .
فقوله : { بمثل ما عوقبتم } مشاكَلَةٌ لِ { عاقبتم } . استعمل { عوقبتم } في معنى عوملتم به ، لوقوعه بعد فعل { عاقبتم } ، فهو استعارة وجه شبهها هو المشاكلة . ويجوز أن يكون { عوقبتم } حقيقة لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم وعلى شتم أصنامهم وتسفيه آبائهم .
والأمر في قوله : { فعاقبوا } للوجوب باعتبار متعلّقه ، وهو قوله : { بمثل ما عوقبتم به } فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب .
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يُظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم ، فلعلّ بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحَنق على الإفراط في العقاب . فهي ناظرة إلى قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [ سورة النحل : 110 ] .
ورغّبهم في الصبر على الأذى ، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه ، لأنه أجلب لقلوب الأعداء ، فوصف بأنه خير ، أي خير من الأخذ بالعقوبة ، كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم } [ سورة فصّلت : 34 ] ، وقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ سورة الشورى : 40 ] .
وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل صبرتم } ، كما في قوله تعالى : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ سورة المائدة : 8 ] .
وأكّد كون الصبر خيراً بلام القسم زيادة في الحثّ عليه .
وعبّر عنهم بالصابرين إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة التنويه بصفة الصابرين ، أي الصبر خبر لجنس الصابرين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.