تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ }

أي : اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه ، يا أيها الرسول ، بأن قلوبهم غلف ، أي : عليها غلاف وأغطية ، فلا تفقه ما تقول ، يعني فيكون لهم - بزعمهم - عذر لعدم العلم ، وهذا كذب منهم ، فلهذا قال تعالى : { بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي : أنهم مطرودون ملعونون ، بسبب كفرهم ، فقليلا المؤمن منهم ، أو قليلا إيمانهم ، وكفرهم هو الكثير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : في أكنة .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : لا تفقه .

وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } [ قال ]{[2145]} هي القلوب المطبوع عليها .

وقال مجاهد : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } عليها غشاوة .

وقال عكرمة : عليها طابع . وقال أبو العالية : أي لا تفقه . وقال السدي : يقولون : عليها غلاف ، وهو الغطاء .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } هو كقوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، في قوله : { غُلْفٌ } قال : يقول : قلبي في غلاف فلا يَخْلُص إليه ما تقول ، قرأ{[2146]} { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ }

وهذا هو الذي رجحه ابن جرير ، واستشهد مما روي من حديث عمرو بن مُرّة الجملي ، عن أبي البختري ، عن حذيفة ، قال : القلوب أربعة . فذكر منها : وقلب أغلف مَغْضُوب عليه ، وذاك قلب الكافر .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العَرْزَمي ، أنبأنا أبي ، عن جدي ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال : لم تختن .

هذا{[2147]} القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم ، وأنها بعيدة من الخير .

قول آخر :

قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال قالوا : قلوبنا مملوءة علمًا لا تحتاج إلى علم محمد ، ولا غيره .

وقال عطية العوفي : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : أوعية للعلم .

وعلى هذا المعنى جاءت قراءة بعض الأنصار{[2148]} فيما حكاه ابن جرير : " وقالوا قلوبنا غُلُف " بضم اللام ، أي : جمع غلاف ، أي : أوعية ، بمعنى أنهم ادعوا{[2149]} أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر . كما كانوا يَمُنُّون{[2150]} بعلم التوراة . ولهذا قال تعالى : { بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } ، أي : ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها ، كما قال في سورة النساء : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } [ النساء : 155 ] . وقد اختلفوا في معنى قوله : { فَقَلِيلا مَّا يُؤْمِنُونَ } وقوله : { فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } ، فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم [ واختاره فخر الدين الرازي وحكاه عن قتادة والأصم وأبي مسلم الأصبهاني ] وقيل : فقليل إيمانهم . بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ، ولكنه إيمان لا ينفعهم ، لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال بعضهم : إنهم كانوا غير مؤمنين بشيء ، وإنما قال : { فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون ، كما تقول العرب : قلما رأيت مثل هذا قط . تريد : ما رأيت مثل هذا قط . [ وقال الكسائي : تقول العرب : من زنى بأرض قلما تنبت ، أي : لا تنبت شيئًا ]{[2151]} .

حكاه{[2152]} ابن جرير ، والله أعلم .


[2145]:زيادة من جـ، ط.
[2146]:في جـ، ط، ب: "وقرأ".
[2147]:في جـ، ط، ب: "وهذا".
[2148]:في أ، و: "بعض الأمصار".
[2149]:ف جـ: "أنهم زعموا".
[2150]:في أ: "كما كانوا يكتمون".
[2151]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[2152]:في جـ، ط، ب: "حكاها".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلۡفُۢۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَقَلِيلٗا مَّا يُؤۡمِنُونَ} (88)

إما عطف على قوله : { استكبرتم } [ البقرة : 87 ] أو على { كذبتم } [ البقرة : 87 ] فيكون على الوجه الثاني تفسيراً للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على { كذبتم } من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع : تكذيبٌ وتقتيل وإعراض . وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراضَ البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية{[151]} .

وقد حسَّن الالتفاتَ أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم ، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم صار الخطاب جارياً مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة . على أنه يحتمل أن قولهم { قلوبنا غلف } لم يصرحوا به علَنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى : { ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل } [ البقرة : 92 ] . والقلوبُ مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل .

والغُلْف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غَلَّفه إذا جعل له غِلافاً وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يُكره له .

وهذا كلام كانوا يقولونه للنبيء صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] . وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوباً عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغِلاف فهم يُخيَلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون : إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقاً لوعته ، وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى : { بل لعنهم الله بكفرهم } أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه . وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون ( غلف ) جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل .

وقوله : { بل لعنهم الله بكفرهم } تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبيء صلى الله عليه وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول ، فاللعنة حصلت لهم عقاباً على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية .

وقوله : { فقليلاً ما يؤمنون } تفريع على { لَعَنهم } و { قليلاً } صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيماناً قليلاً وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون ( قليلاً ) صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحيناً قليلاً يؤمنون . وقيل يجوز أن يكون باقياً على حقيقته مشاراً به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبيء صلى الله عليه وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى أو إلى إيمان أفراد منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة . ويجوز أن يكون { قليلاً } هنا مستعملاً في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العَدَم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي :

قليلُ التشكي للمهم يصيبه *** كثيرُ الهوى شتى النوى والمسالك

أراد أنه لا يتشكى ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين « كثيرة العقارب قليلة الأقارب » أراد عديمة الأقارب ويقولون : فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازماً عرفياً للقلة ادعائياً فتكون { ما } مصدرية والوجهان أشار إليهما في « الكشاف » باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قولَه تعالى : { ءإله مع الله قليلاً ما تذكرون } في سورة النمل ( 62 ) فقال : والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي وكأنَّ وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له ، كيف وخطابهم بقوله : { ءإله مع الله } المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك .


[151]:- قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم: أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ونفس أضاق الله بالخير باعها إذا هي حثته على الخير مرة عصاها وإن همت بشر أطاعها