{ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا }
هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق . وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين ، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أهلِ الرأي : والعلم والنصح والعقل والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها . فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك . وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة{[216]} أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته ، لم يذيعوه ، ولهذا قال : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة .
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ . وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها ، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه ، هل هو مصلحة ، فيُقْدِم عليه الإنسان ؟ أم لا ، فيحجم عنه ؟
ثم قال تعالى : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : في توفيقكم وتأديبكم ، وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون ، { لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } لأن الإنسان بطبعه ظالم جاهل ، فلا تأمره نفسه إلا بالشر . فإذا لجأ إلى ربه واعتصم به واجتهد في ذلك ، لطف به ربه ووفقه لكل خير ، وعصمه من الشيطان الرجيم .
وقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة .
وقد قال مسلم في " مقدمة صحيحه " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[7935]} بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب " الأدب " من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة مسندًا{[7936]} ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خُبَيب{[7937]} عن حفص بن عاصم ، به مرسلا{[7938]} .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت ، ولا تَدبُّر ، ولا تبَيُّن{[7939]} .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه " .
وفي الصحيح : " من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن " . {[7940]} ويذكر{[7941]} هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت الله أكبر . وذكر الحديث{[7942]} بطوله .
وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .
ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها{[7943]} .
ومعنى قوله : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني : كلكم . واستشهد من نصر هذا القول . بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المُهَلَّب :
أشَمَّ{[7944]} كثير يُدَيِّ النوال{[7945]}*** قليل المَثَالب والقَادحة{[7946]}
وقوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن } الآية ، قال جمهور المفسرين : الآية في المنافقين حسبما تقدم من ذكرهم ، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يشرئبون إلى سماع ما يسوء النبي في سراياه ، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين أو فتح عليهم ، حقروها وصغروا شأنها وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير ، وإذا طرأت لهم شبهة خوف المسلمين أو مصيبة عظموها وأذاعوا ذلك التعظيم ، و { أذاعوا به } معناه : أفشوه ، وهو فعل يتعدى بحرف جر وبنفسه أحياناً ، تقول أذعت كذا وأذعت به ، ومنه قول أبي الأسود : [ الطويل ]
أَذَاعُوا بِهِ في النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ *** بِعَلْيَاءِ نَارٍ أَوقِدَتْ بِثُقُوبِ{[4166]}
وقالت فرقة : الآية نازلة في المنافقين ، وفي من ضعف جلده عن الإيمان من المؤمنين وقلت تجربته .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا فإنهم كانوا يسمعون أقوال المنافقين فيقولونها مع من قالها ، ويذيعونها مع من أذاعها ، وهم غير متثبتين في صحتها ، وهذا هو الدال على قلة تجربتهم ، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة ، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه جاء وقوم في المسجد يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، قال : فدخلت على عائشة فقلت : يابنة أبي بكر بلغ من أمرك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : يابن الخطاب عليك بعيبتك{[4167]} ، قال : فدخلت على حفصة فقلت : يا حفصة قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبك ولولا أنا لطلقك فجعلت تبكي قال فخرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفة له ، ورباح مولاه جالس على أسكفة{[4168]} الغرفة ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله ، فنظر إلى الغرفة ثم نظر إليَّ وسكت ، فقلت : يا رباح استأذن لي على رسول الله فلعله يظن أني جئت من أجل حفصة ، والله لو أمرني أن أضرب عنقها لضربته ، فنظر ثم أشار إليَّ بيده : أن ادخل ، فدخلت وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع على حصير وقد أثر في جنبه ، وإذ ليس في غرفته إلا قبضة من شعير ، وقبضة من قرظ ، وإذا أفيقان معلقان ، فبكيت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يابن الخطاب ؟ فقلت : يارسول الله ، أنت صفوة الله من خلقه ورسوله ، وليس لك من الدنيا إلا هذا ، وكسرى وقيصر في الأشجار والأنهار ، فقال : ها هنا أنت ياعمر ؟ أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ فقلت : بلى ، ثم جعلت أحدثه حتى تهلل وابتسم ، فقلت إنهم ادعوا أنك طلقت نساءك ، فقال :لا ، فقلت أتأذن لي أن أعرف الناس ؟ فقال :افعل إن شئت . قال :فقمت على باب المسجد فقلت : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه ، فانزل الله في هذه القصة :{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } . الآية وأنا الذي استنبطه ،
وقوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول }الآية . المعنى : لو أمسكوا عن الخوض ، واستقصوا الأمور من قبل الرسول ، أو أولي الأمر_وهم الأمراء_ قاله السدي ، وابن زيد ، وقيل :أهل العلم ، قاله
وغيرهما ، والمعنى يقتضيهما معا . . { لعلمه }طلابه من أولي الأمر ، والبحثة عنه وهم مستنبطوه كما يستنبط الماء وهو :النبط ، أي :الماء المستخرج من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
قريب ثراه ما ينال عدوه *** *** له نبطا آبي الهوان قطوب
وهذا التأويل جار مع قول عمر ، أنا استنبطته ببحثي وسؤالي ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى لعلمه المسؤولون المستنبطون ، فأخبروا بعلمهم ، وقرأ أبو السمال ، «لعلْمه » بسكون اللام وذلك مثل «شجَر{[4169]} بينهم » والضمير في { ردوه } عائد على الأمر ، وفي { ومنهم } يحتمل أن يعود على { الرسول } و { أولي الأمر } ، ويحتمل أن يعود على الجماعة كلها ، أي لعلمه البحثة من الناس ، وقوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } الآية ، هذا خطاب لجميع المؤمنين باتفاق من المتأولين ، والمعنى : ولولا هداية الله وإرشاده لكم بالإيمان وذلك فضل منه ورحمة - لكنتم على كفركم ، وذلك هو اتباع الشيطان . وحكى الزجاج : لولا فضل الله في هذا القرآن ورسالة محمد عليه السلام ، واختلف المتأولون في الاستثناء بقوله { إلا قليلاً } مم هو ؟ فقال ابن عباس وابن زيد : ذلك مستثنى من قوله : «أذاعوا به إلا قليلاً » ورجحه الطبري ، وقال قتادة : ذلك مستثنى من قوله : «يستنبطونه إلا قليلاً » وقالت فرقة : ذلك مستثنى من قوله : { لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } ، على سرد الكلام دون تقدير تقديم ، ثم اختلفت هذه الفرقة ، فقال الضحاك : إن الله هدى الكل منهم إلى الإيمان ، فكان منهم من تمكن فيه حتى لم يخطر له قط خاطر شك ، ولا عنت له شبهة ارتياب ، فذلك هو القليل ، وسائر من أسلم من العرب لم يخل من الخواطر ، فلولا فضل الله بتجديد الهداية لهم لضلوا واتبعوا الشيطان .
قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الضحاك ، ويجيء الفضل معيناً ، أي :رسالة محمد والقرآن ، لأن الكل إنما هُدي بفضل الله على الإطلاق ، وقال قوم : المخاطب بقوله { اتبعتم } جميع المؤمنين ، وقوله : { إلا قليلاً } إشارة إلى من كان قبل الإسلام غير متبع للشيطان على ملة إبراهيم ، كورقة بن نوفل ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وغيرهما ، وقال قوم : الاستثناء إنما هو من الإتباع ، أي { لاتبعتم الشيطان } كلكم { إلا قليلاً } من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها ، وقال قوم : قوله : { إلا قليلاً } عبارة عن العدم ، يريدون لاتبعتم الشيطان كلكم ، وهذا الأخير قول قلق ، وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم :_أرض قل ما تنبت كذا_بمعنى :لا تنبته ، لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ، ولكن قد ذكره الطبري .
عطف على جملة { ويقولون طاعة } [ النساء : 81 ] فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله ، العائدة إلى المنافقين ، وهو الملائم للسياق ، ولا يعكّر عليه إلاّ قوله : { وإلَى أولي الأمر منهم } ، وسنعلم تأويله ، وقيل : الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين : ممّن قلّت تجربَته وضعف جَلده ، وهو المناسب لقوله : { وإلى أولي الأمر منهم } بحسب الظاهر ، فيكون معَاد الضمير محذوفاً من الكلام اعتماداً على قرينة حال النزول ، كما في قوله : { حتّى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] .
والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة ، من المسلمين الأغرار .
ومعنى { جاءهم أمر } أي أخبروا به ، قال امرؤ القيس :
فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار ، مثل نظائره . وهي : بلغ ، وانتهى إليه وأتاه ، قال التابغة :
أتأني -أبيتَ اللعن- أنَّكَ لُمَتَنِي
والأمر هنا بمعنى الشيء ، وهو هنا الخبر ، بقرينة قوله : { أذاعوا به } .
ومعنى { أذاعوا } أفْشَوْا ، ويتعدّى إلى الخبر بنفسه ، وبالباء ، يقال : أذاعَه وأذاع به ، فالباء لتوكيد اللصوق كما في { وامْسَحُوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
والمعنى إذا سمعوا خبَراً عن سَرايا المسلمين من الأمن ، أي الظَّفَر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين ، أي اشتداد العدوّ عليهم ، بادروا بإذاعته ، أو إذا سمعوا خَبراً عن الرسول عليه السلام وعن أصحابه ، في تدبير أحوال المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف ، تحدّثوا بتلك الأخبار في الحالين ، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد ، إذا جاءت أخبار أمن حتّى يؤخذ المؤمنون وهم غَارَّون ، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف ، واختلاف المعَاذير للتهيئة للتخلّف عن الغزو إذا استنفروا إليه ، فحذّر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء ، ونبّه هؤلاء على دخيلتهم ، وقَطَع معذرتهم في كيدهم بقوله : { ولو ردّوه إلى الرسول } الخ ، أي لولا أنّهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي .
وعلى القول بأنّ الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرّع بالإذاعة ، وأمرُهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلّموهم محامله .
وقيل : كان المنافقون يختلقون الأخبار من الأمن أو الخوف ، وهي مخالفة للواقع ، ليظنّ المسلمون الأمْن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم ، أو الخوفَ حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختلّ أحوال اجتماعهم ، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به ، فتمّ للمنافقين الدست ، وتمشّت المكيدة ، فلامهم الله وعلّمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلّة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحالَه من الصدق أو الكذب ، ويأخذوا لكلّ حالة حيطتها ، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه . وهذا بعيد من قوله : { جاءهم } وعلى هذا فقوله : { لَعَلِمَه } هو دليل جواب ( لو ) وعِلَّتُه ، فجُعل عوضه وحذف المعلول ، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلَبَيَّنُوه لهم على وجهه .
ويجوز أن يكون المعنى : ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلقوا الخبَر فلَخابوا إذ يوقنون بأنّ حيلتهم لم تتمشّ على المسلمين ، فيكون الموصول صادقاً على المختلقين بدلالة المقام ، ويكون ضمير { منهم } الثاني عائداً على المنافقين بقرينة المقام .
والردّ حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يَدٍ . واستعمل هنا مجازاً في إبلاغ الخبر إلى أوْلى الناس بعلمه . وأولو الأمر هم كبّراء المسلمين وأهل الرأي منهم ، فإن كان المتحدّث عنهم المنافقين فوصف أولي الأمر بأنّهم منهم جارٍ على ظاهر الأمر وإرخاءِ العِنان ، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضَهم ؛ وإن كان المتحدّث عنهم المؤمنين ، فالتبعيض ظاهر .
والاستنباط حقيقته طلب النَّبَط بالتحريك ؛ وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر ؛ وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه ، وأصله مكنية : شبّه الخبر الحادث بحفير يُطلب منه الماء ، وذكْر الاستنباط تَخييلٌ . وشاعت هذه الاستعارة حتّى صارت حقيقة عرفية ، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين ، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي ، ولولا ذلك لقيل : يستنبطون منه ، كما هو ظاهر ، أوْ هو على نزع الخافض .
وإذا جريتَ على احتمال كون ( يستنبطون ) بمعنى يختلقون كما تقدّم كانت { يستنبطونه } تبعية ، بأن شبّه الخبر المختلَق بالماء المحْفور عنه ، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون ، وتعدّى الفعل إلى ضمير الخبرلأنّه المستخرَج . والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يُصْدر ويُورِد ، وقولهم ضَرَبَ أخماساً لأسْدَاسٍ ، وقولهم : يَنْزِع إلى كذا ، وقوله تعالى : { فإنّ للذين ظلموا ذَنُوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم } [ الذاريات : 59 ] ، وقال عَبدة بن الطبيب :
ومنه قولهم : تَساجل القوم ، أصله من السَّجْل ، وهو الدلو .
إذَا ما اصطبَحْتُ أرْبعاً خطّ مِئْزَري *** وأتْبَعْتُ دلوي في السماح رِشاءها
فذكَر الدلوَ والرشاء . وقال النابغة :
خَطاطِيف حَجْنٍ في حِبالٍ متينَة *** تَمُدّ بها أيْدٍ إليكَ نَوازِع
ولولا أبُو الشقراء مَا زال ماتح *** يُعالج خَطَّافاً بإحدى الجرائر
وقالوا أيضاً : « انتهز الفرصة » ، والفرصة نوبة الشرب ، وقالوا : صدر الوم عن رأي فلان ووَردوا على رأيه .
وقوله : { منهم } وصفٌ للذين يستنبطونه ، وهم خاصّة أولي الأمر من المسلمين ، أي يردّونه إلى جماعةِ أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر ، وإذا فهمه جميعهم فأجدَر .
وقوله : { ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه } امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح ، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره .
واستثناء { إلاّ قليلاً } من عموم الأحوال المؤذن بها { اتّبعتم } ، أي إلاّ في أحوال قليلة ، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها ، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي ، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام . ولك أن تجعله استثناء من ضمير { اتّبعتم } أي إلاّ قليلاً منكم ، فالمراد من الاتّباع اتّباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين .