ولما ذكر جملة كثيرة من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر ، وكان الخطاب للثقلين ، الإنس والجن ، قررهم تعالى بنعمه ، فقال : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي نعم الله الدينية والدنيوية تكذبان ؟
وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة ، فما مر بقوله : { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلا قالوا{[944]} ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ، فلك الحمد ، فهذا الذي ينبغي{[945]} للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه ، أن يقر بها ويشكر ، ويحمد الله عليها .
وقوله : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي : فبأي الآلاء {[27852]} - يا معشر الثقلين ، من الإنس والجن - تكذبان ؟ قاله مجاهد ، وغير واحد . ويدل عليه السياق بعده ، أي : النِّعَمُ ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها ، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها {[27853]} ، فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون : " اللهم ، ولا بشيء من آلائك ربنا نكذِّب ، فلك الحمد " . وكان ابن عباس يقول : " لا بأيِّها يا رب " . أي : لا نكذب بشيء منها .
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ، وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر ، والمشركون يستمعون {[27854]} { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } {[27855]} .
والآلاء : النعم ، واحدها إلى مثل معى وألى مثل قفا ، حكى هذين أبو عبيدة ، وألي مثل أمر وإلي مثل حصن ، حكى هذين الزهراوي . والضمير في قوله : { ربكما } للجن والإنس ، وساغ ذلك ولم يصرح لهما بذكر على أحد وجهين إما أنهما قد ذكرا في قوله : { للأنام } على ما تقدم من أن المراد به الثقلان ، وإما على أن أمرهما مفسر في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 14 ] { وخلق الجان } [ الرحمن : 15 ] فساغ تقديمهما في الضمير اتساعاً . وقال الطبري : يحتمل أن يقال هذا من باب { ألقيا في جهنم }{[10813]} و " يا غلام اضربا عنقه " . وقال منذر بن سعيد خوطب من يعقل لأن المخاطبة بالقرآن كله هي للإنس والجن ، ويروى أن هذه الآية لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سكت أصحابه فقال : «إن جواب الجن خير من سكوتكم ، أي لما قرأتها على الجن قالوا : لا ، بأيها نكذب يا ربنا »{[10814]} .
الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة مع دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقّية وَحي القرآن ، ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يتأتى لهم إنكارها ، وهو تذييل لما قبله .
و ( أيِّ ) استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضِدّ ما يقربه مثل قوله : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . وقد بينته عند قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) ، أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله .
والآلاء : النعم جمع : إلْي بكسر الهمزة وسكون اللام ، وأَلْي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال أَلْوُ بواو عوض الياء وهو النعمة .
وضمير المثنى في { ربكما تكذبان } خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن . والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإِنسان المذكور في قوله : { خلق الإنسان } [ الرحمن : 3 ] وهم المخاطبون بقوله : { ألا تطغوا في الميزان } [ الرحمن : 8 ] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره ، أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بَلْهَ المؤمن ، وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله .
والمقصود الأصلي : التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعِم غيرَ المنعِم ، والشهادةُ عليهم بتوحيد المؤمنين ، والتكذيب مستعمل في الجحود والإِنكار .
وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى : { ألقيا في جهنم كل كفار عنيد } [ ق : 24 ] ذكر ذلك الطبري والنسفي .
ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل : لَبيك وسعديك ، ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان .
وقال جمهور المفسرين : هو خطاب للإنس والجن ، وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن ، فلا يتعرض القرآن لخطابهم ، وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلّف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم ، وقد يُكلف الله أصنافاً بما هم أهل له دون غيرهم ، كما كلّف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلّفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك ، فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة .
وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن وهم ساكتون فقال لهم " لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسن مردوداً منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : { فبأي ألاء ربكما تكذبان } قالوا : لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " . قال الترمذي : هو حديث غريب وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد بن حنبل .
وهذا الحديث لو صح فليس تفسيراً لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله ، وقيل الخطاب للذكور والإِناث وهو بعيد .
والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإِنكار مجازاً لتشنيع هذا الجحد .
وتكذيب الآلاء كناية عن الإِشراك بالله في الإِلهية . والمعنى : فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون أنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بَلْه إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواماً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.