هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال : { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي : من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك { يَسُومُونَكُمْ } أي : يولونهم ويستعملونهم ، { سُوءَ الْعَذَابِ } أي : أشده بأن كانوا { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ } خشية نموكم ، { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } أي : فلا يقتلونهن ، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة ، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة .
{ وَفِي ذَلِكم } أي : الإنجاء { بَلَاءٌ } أي : إحسان { مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره .
يقول تعالى{[1718]} : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم " إِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ " أي : خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة{[1719]} موسى ، عليه السلام ، وقد كانوا يسومونكم ، أي : يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب . وذلك أن فرعون - لعنه الله - كان قد رأى رؤيا هالته ، رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر ، إلا بيوت بني إسرائيل ، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ، ويقال : بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم ، يكون لهم به دولة ورفعة ، وهكذا جاء في حديث الفُتُون ، كما سيأتي في موضعه [ في سورة طه ]{[1720]} إن شاء الله ، فعند ذلك أمر فرعون - لعنه الله - بقتل كل [ ذي ]{[1721]} ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل ، وأن تترك البنات ، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأراذلها .
وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه ، كما قال : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } [ إبراهيم ] وسيأتي تفسير{[1722]} ذلك في أول سورة القصص ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة والمعونة والتأييد .
ومعنى { يَسُومُونَكُمْ } أي : يولونكم ، قاله أبو عبيدة ، كما يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ، قال عمرو بن كلثوم :
إذا ما الملك سام الناس خسفا *** أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل : معناه : يديمون عذابكم ، كما يقال : سائمة الغنم من إدامتها الرعي ، نقله القرطبي ، وإنما قال هاهنا : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وأما في سورة إبراهيم فلما قال : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } [ إبراهيم : 5 ] ، أي : بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك : { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ويُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ } فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي .
وفرعون علم على كل مَنْ مَلَكَ مصر ، كافرًا من العماليق{[1723]} وغيرهم ، كما أن قيصر علم على كل من ملك الروم مع الشام كافرًا ، وكسرى لكل من ملك الفرس ، وتُبَّع لمن ملك اليمن كافرا [ والنجاشي لمن ملك الحبشة ، وبطليموس لمن ملك الهند ]{[1724]} ويقال : كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى ، عليه السلام ، الوليد بن مصعب بن الريان ، وقيل : مصعب بن الريان ، أيا ما كان فعليه لعنة الله ، [ وكان من سلالة عمليق بن داود بن إرم بن سام بن نوح ، وكنيته أبو مرة ، وأصله فارسي من استخر ]{[1725]} .
وقوله تعالى : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال ابن جرير : وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا إياكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم . أي : نعمة عظيمة عليكم في ذلك{[1726]} .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [ في ]{[1727]} قوله : { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال : نعمة . وقال مجاهد : { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } قال : نعمة من ربكم عظيمة . وكذا قال أبو العالية ، وأبو مالك ، والسدي ، وغيرهم .
وأصل البلاء : الاختبار ، وقد يكون بالخير والشر ، كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] .
قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشر : بلوته أبلوه بَلاءً ، وفي الخير : أبليه إبلاء وبلاء ، قال زهير بن أبي سلمى :
جزى الله بالإحسان ما فَعَلا بكُم *** وأبلاهما خَيْرَ البلاءِ الذي يَبْلُو{[1728]}
قال : فجمع بين اللغتين ؛ لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يَخْتَبر بها عباده .
[ وقيل : المراد بقوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ } إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء ؛ قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ولفظه بعدما حكى القول الأول ، ثم قال : وقال الجمهور : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، والبلاء هاهنا في الشر ، والمعنى في الذبح مكروه وامتحان ]{[1729]} .
{ وإذ نجيناكم من آل فرعون } تفصيل لما أجمله في قوله : { اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } وعطف على { نعمتي } عطف { جبريل } و{ ميكائيل } على { الملائكة } وقرئ " أنجيتكم " . وأصل { آل } أهل لأن تصغيره أهيل ، وخص بالإضافة إلى أولي الخطر كالأنبياء والملوك . و{ فرعون } لقب لمن ملك العمالقة ككسرى وقيصر لملكي الفرس والروم . ولعتوهم اشتق منه تفرعن الرجل إذا عتا وتجبر ، وكان فرعون موسى ، مصعب بن ريان ، وقيل ابنه وليد من بقايا عاد . وفرعون يوسف عليه السلام ، ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة .
{ يسومونكم } يبغونكم ، من سامه خسفا إذا أولاه ظلما ، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء .
{ سوء العذاب } أفظعه فإنه قبيح بالإضافة إلى سائره ، والسوء مصدر ساء يسوء ونصبه على المفعول ليسومونكم ، والجملة حال من الضمير في نجيناكم ، أو من { آل فرعون } ، أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل واحد منهما .
{ يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } بيان ليسومونكم ولذلك لم يعطف ، وقرئ { يذبحون } بالتخفيف . وإنما فعلوا بهم ذلك لأن فرعون رأى في المنام ، أو قال له الكهنة : سيولد منهم من يذهب بملكه ، فلم يرد اجتهادهم من قدر الله شيئا .
{ وفي ذلكم بلاء } محنة ، إن أشير بذلكم إلى صنيعهم ، ونعمة إن أشير به إلى الإنجاء ، وأصله الاختبار لكن لما كان اختبار الله تعالى عباده تارة بالمحنة وتارة بالمنحة أطلق عليهما ، ويجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويراد به الامتحان الشائع بينهما .
{ من ربكم } بتسليطهم عليكم ، أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم ، أو بهما . { عظيم } صفة بلاء . وفي الآية تنبيه على أن ما يصيب العبد من خير أو شر إختبار من الله تعالى ، فعليه أن يشكر على مساره ويصبر على مضاره ليكون من خير المختبرين .
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ( 49 )
وقوله تعالى : { وإذ نجيناكم من آل فرعون } أي خلصناكم ، و { آل } أصله أهل ، قلبت الهاء ألفاً كما عمل في ماء ، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل ، فقيل أُهَيْل ، موَيْه ، وقد قيل في { آل } إنه اسم غير أهل ، أصله أول وتصغيره أويل ، وإنما نسب الفعل إلى { آل فرعون } وهم إنما كانوا يفعلونه بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم .
وقال الطبري رحمه الله : «ويقتضي هذا أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به( {[577]} ) ، وآل الرجل قرابته وشيعته وأتباعه » .
ومنه قول أراكة الثقفي( {[578]} ) : [ الطويل ]
فلا تبك ميْتاً بعد ميْتٍ أجنّهُ . . . عليٌّ وعباسٌ وآلُ أبي بكر
يعني المؤمنين الذين قبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأشهر في { آل } أن يضاف إلى الأسماء لا إلى البقاع والبلاد ، وقد يقال آل مكة ، وآل المدنية ، وفرعون اسم لكل من ملك من العمالقة مصر ، وفرعون( {[579]} ) موسى قيل اسمه مصعب بن الريان .
وقال ابن إسحاق : «اسمه الوليد بن مصعب » .
وروي أنه كان من أهل اصطخر ، ورد مصر فاتفق له فيها الملك ، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام .
و { يسومونكم } معناه : يأخذونكم به ويلزمونكم إياه ومنه المساومة بالسلعة ، وسامه خطة خسف و { يسومونكم } إعرابه رفع على الاستئناف والجملة في موضع نصب على الحال ، أي سائمين لكم سوء العذاب( {[580]} ) ، ويجوز أن لا تقدر فيه الحال ، ويكون وصف حال ماضية ، و { سوء العذاب } أشده وأصعبه .
قال السدي : «كان يصرفهم في الأعمال القذرة ويذبح الأبناء ، ويستحيي النساء » .
وقال غيره : صرفهم على الأعمال : الحرث والزراعة والبناء وغير ذلك ، وكان قومه جنداً ملوكاً ، وقرأ الجمهور «يذبِّحون » بشد الباء المكسورة على المبالغة ، وقرأ ابن محيصن : «يذبحون » بالتخفيف ، والأول أرجح إذ الذبح متكرر . كان فرعون على ما روي قد رأى في منامه ناراً خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر ، فأولت له رؤياه أن مولوداً من بني إسرائيل ينشأ فيخرب ملك فرعون على يديه( {[581]} ) .
وقال ابن إسحاق وابن عباس وغيرهما : إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون : قد أظلك زمن مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك .
وقال ابن عباس أيضاً : إن فرعون وقومه تذاكروا وعد الله لإبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فأمر عند ذلك بذبح الذكور من المولودين في بني إسرائيل ، ووكل بكل عشر نساء رجلاً يحفظ من يحمل منهن .
وقالت طائفة : معنى { يذبحون أبناءكم } يذبحون الرجال ويسمون أبناء لما كانوا كذلك( {[582]} ) ، واستدل هذا القائل بقوله تعالى : { نساءكم } .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : والصحيح من التأويل أن الأبناء هم الأطفال الذكور ، والنساء هم الأطفال الإناث ، وعبر عنهن باسم النساء بالمآل( {[583]} ) ، وليذكرهن بالاسم الذي في وقته يستخدمن ويمتهنَّ ، ونفس الاستحياء ليس بعذاب ، لكن العذاب بسببه وقع الاستحياء ، و { يذبحون } بدل من «يسومون » .
قوله تعالى : { وفي ذلكم } إشارة إلى جملة الأمر ، إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر ، و { بلاء } معناه امتحان واختبار ، ويكون { البلاء } في الخير والشر .
وقال قوم : الإشارة { بذلكم } إلى التنجية من بني إسرائيل ، فيكون { البلاء } على هذا في الخير ، أي وفي تنجيتكم نعمة من الله عليكم .
وقال جمهور الناس : الإشارة إلى الذبح ونحوه ، و { البلاء } هنا في الشر ، والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان .
وحكى الطبري وغيره في كيفيه نجاتهم : أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط ، وأحل الله ذلك لبني إسرائيل ، فسرى بهم موسى من أول الليل ، فأعلم فرعون فقال لا يتبعنهم أحد حتى تصيح الديكة ، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك حتى أصبح ، وأمات الله تلك الليلة كثيراً من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين ، وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه ، وكانت عدة بني إسرائيل نيفاً على ستمائة ألف ، وكانت عدة فرعون( {[584]} ) ألف ألف ومائتي ألف .
وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته ، فلما لحق فرعون موسى ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين ، فقال يوشع بن نون لموسى أين أمرت ؟ فقال هكذا وأشار إلى البحر فركض فرسه فيه حتى بلغ الغمر ، ثم رجع فقال لموسى أين أمرت ، فوالله ما كذبت ولا كذبت ، فأشار إلى البحر ، وأوحى الله تعالى إليه ، { أن اضرب بعصاك البحر } [ الشعراء : 63 ] . وأوحى إلى البحر أن انفرق لموسى إذا ضربك ، فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب موسى البحر ، وكناه أبا خالد فانفرق وكان ذلك في يوم عاشوراء( {[585]} ) .
عطف على قوله : { نعمتي } [ البقرة : 47 ] فيُجْعل { إذ } مفعولاً به كما هو في قوله تعالى : { واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم } [ الأعراف : 86 ] فهو هنا اسم زمان غير ظرف لفعل والتقدير اذكروا وقت نجيناكم ، ولما غلبت إضافة أسماء الزمان إلى الجمل وكان معنى الجملة بعدها في معنى المصدر وكان التقدير اذكروا وقت إنجائنا إياكم ، وفائدة العدول عن الإتيان بالمصدر الصريح لأن في الإتيان بإذ المقتضية للجملة استحضاراً للتكوين العجيب المستفاد من هيئة الفعل لأن الذهن إذا تصور المصدر لم يتصور إلا معنى الحدث وإذا سمع الجملة الدالة عليه تصور حدوث الفعل وفاعله ومفعوله ومتعلقاته دفعة واحدة فنشأت من ذلك صورة عجيبة ، فوزان الإتيان بالمصدر وزان الاستعارة المفردة ، وزان الإتيان بالفعل وزان الاستعارة التمثيلية ، وليس هو عطفاً على جملة { اذكروا } [ البقرة : 46 ] كما وقع في بعض التفاسير لأن ذلك يجعل { إذ } ظرفاً فيطلب متعلقاً وهو ليس بموجود ، ولا يفيده حرف العطف لأن العاطف في عطف الجمل لا يفيد سوى التشريك في حكم الجملة المعطوف عليها ، وليس نائباً مناب عامل ، ولا يريبك الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه أعني { وإذ نجيناكم } بجملة { واتقوا يوماً } [ البقرة : 47 ] فتظنه ملجأ لاعتبار العطف على الجملة لما علمت فيما تقدم أن قوله : { واتقوا } ناشىء عن التذكير فهو من علائق الكلام وليس بأجنبي ، على أنه ليس في كلام النحاة ما يقتضي امتناع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي فإن المتعاطفين ليسا بمرتبة الاتصال كالعامل والمعمول ، وعُدي فعل { أنجينا } إلى ضمير المخاطبين مع أن التنجية إنما كانت تنجية أسلافهم لأن تنجية أسلافهم تنجية للخلف فإنه لو بقي أسلافهم في عذاب فرعون لكان ذلك لاحقاً لأخلافهم فذلك كانت منة التنجية منتين : منة على السلف ومنة على الخلف فوجب شكرها على كل جيل منهم ولذلك أوجبت عليهم شريعتهم الاحتفال بما يقابل أيام النعمة عليهم من أيام كل سنة وهي أعيادهم وقد قال الله لموسى : { وذكرهم بأيام الله } [ إبراهيم : 5 ] .
وآل الرجل أهله . وأصل آل أهل قلبت هاؤه همزة تخفيفاً ليتوصل بذلك إلى تسهيل الهمزة مداً . والدليل على أن أصله أهل رجوع الهاء في التصغير إذ قالوا : أهيل ولم يسمع أُويل خلافاً للكسائي .
والأهل والآل يراد به الأقارب والعشيرة والموالي وخاصة الإنسان وأتباعه . والمراد من آل فرعون وَزَعَته ووكلاؤه ، ويختص الآل بالإضافة إلى ذي شأن وشرف دنيوي ممن يعقل فلا يقال آل الجاني ولا آل مكة ، ولما كان فرعون في الدنيا عظيماً وكان الخطاب متعلقاً بنجاة دنيوية من عظيم في الدنيا أطلق على أتباعه آل فلا توقف في ذلك حتى يحتاج لتأويله بقصد التهكم كما أول قوله تعالى : { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] لأن ذلك حكاية لكلام يقال يوم القيامة وفرعون يومئذ محقر ، هلك عنه سلطانه .
فإن قلت : إن كلمة أهل تطلق أيضاً على قرابة ذي الشرف لأنها الاسم المطلق فلماذا لم يؤت بها هنا حتى لا يطلق على آل فرعون ما فيه تنويه بهم ؟ قلت : خصوصية لفظ آل هنا أن المقام لتعظيم النعمة وتوفير حق الشكر والنعمة تعظيم بما يحف بها فالنجاة من العذاب وإن كانت نعمة مطلقاً إلا أن كون النجاة من عذاب ذي قدرة ومكانة أعظم لأنه لا يكاد ينفلت منه أحد .
* ولا قرار على زأر من الأسد{[122]} *
وإنما جعلت النجاة من آل فرعون ولم تجعل من فرعون مع أنه الآمر بتعذيب بني إسرائيل تعليقاً للفعل بمن هو من متعلقاته على طريقة الحقيقة العقلية وتنبيهاً على أن هؤلاء الوزعة والمكلفين ببني إسرائيل كانوا يتجاوزون الحد المأمور به في الإعنات على عادة المنفذين فإنهم أقل رحمة وأضيق نفوساً من ولاة الأمور كما قال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان :
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا *** لم يفعلوا مما أمرت فتيلاً{[123]}
جاء في التاريخ أن مبدأ استقرار بني إسرائيل بمصر كان سببه دخول يوسف عليه السلام في تربية العزيز طيفار كبير شرط فرعون ، وكانت مصر منقسمة إلى قسمين مصر العليا الجنوبية المعروفة اليوم بالصعيد لحكم فراعنة من القبط وقاعدتها طيوه ، ومصر السفلى وهي الشمالية وقاعدتها منفيس وهي القاعدة الكبرى التي هي مقر الفراعنة وهذه قد تغلب عليها العمالقة من الساميين أبناء عم ثمود وهم الذين يلقبون في التاريخ المصري بالرعاة الرحالين والهكصوص في سنة 3300 أو سنة 1900 قبل المسيح على خلاف ناشىء عن الاختلاف في مدة بقائهم بمصر الذي انتهى سنة 1700 ق م عند ظهور العائلة الثامنة عشرة ، فكان يوسف عند رئيس شرط فرعون العمليقي ، واسم فرعون يومئذ أبو فيس أو أبيبي وأهل القصص ومن تلقف كلامهم من المفسرين سموه ريّان بن الوليد وهذا من أوهامهم وكان ذلك في حدود سنة 1739 قبل ميلاد المسيح ، ثم كانت سكنى بني إسرائيل مصر بسبب تنقل يعقوب وأبنائه إلى مصر حين ظهر أمر يوسف وصار بيده حكم المملكة المصرية السفلى . وكانت معاشرة الإسرائيليين للمصريين حسنة زمناً طويلاً غير أن الإسرائيليين قد حافظوا على دينهم ولغتهم وعاداتهم فلم يعبدوا آلهة المصريين وسكنوا جميعاً بجهة يقال لها أرض ( جاسان ) ومكث الإسرائيليون على ذلك نحواً من أربعمائة سنة تغلب في خلالها ملوك المصريين على ملوك العمالقة وطردوهم من مصر حتى ظهرت في مصر العائلة التاسعة عشرة وملك ملوكها جميع البلاد المصرية ونبغ فيهم رعمسيس الثاني الملقب بالأكبر في حدود سنة 1311 قبل المسيح وكان محارباً باسلاً وثارت في وجهه الممالك التي أخضعها أبوه ومنهم الأمم الكائنة بأطراف جزيرة العرب ، فحدثت أسباب أو سوء ظنون أوجبت تنكر القبط على الإسرائيليين وكلفوهم أشق الأعمال وسخروهم في خدمة المزارع والمباني وصنع الآجر .
وتقول التوراة إنهم بنوا لفرعون مدينة مخازن ( فيثوم ) ومدينة ( رعمسيس ) ثم خشي فرعون أن يكون الإسرائيليون أعواناً لأعدائه عليه فأمر باستئصالهم وكأنه اطلع على مساعدة منهم لأبناء نسبهم من العمالقة والعرب فكان يأمر بقتل أبنائهم وسبي نسائهم وتسخير كبارهم ولا بد أن يكون ذلك لما رأى منهم من التنكر ، أو لأن القبط لما أفرطوا في استخدام العبرانيين علم فرعون أنه إن اختلطت جيوشه في حرب لا يسلم من ثورة الإسرائيليين فأمر باستئصالهم . وأما ما يحكيه القصاصون أن فرعون أخبره كاهن أن ذهاب ملكه يكون على يد فتى من إسرائيل فلا أحسبه صحيحاً إذ يبعد أن يروج مثل هذا على رئيس مملكة فيفنى به فريقاً من رعاياه ، اللهم إلا أن يكون الكهنة قد أغروا فرعون باليهود قصداً لتخليص المملكة من الغرباء أو تفرسوا من بني إسرائيل سوء النوايا فابتكروا ذلك الإنباء الكهنوتي لإقناع فرعون ، بوجوب الحذر من الإسرائيليين ولعل ذبح الأبناء كان من فعل المصريين استخفافاً باليهود ، فكانوا يقتلون اليهودي في الخصام القليل كما أنبأت بذلك آية { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } [ القصص : 15 ] والحاصل أن التاريخ يفيد على الإجمال أن عداوة عظيمة نشأت بين القبط واليهود آلت إلى أن استأصل القبط الإسرائيليين . ولقد أبدع القرآن في إجمالها إذ كانت تفاصيل إجمالها كثيرة لا يتعلق غرض التذكير ببيانها .
وجملة : { يسومونكم سوء العذاب } حال من { آل فرعون } يحصل بها بيان ما وقع الإنجاء منه وهو العذاب الشديد الذي كان الإسرائيليون يلاقونه من معاملة القبط لهم .
ومعنى { يسومونكم } يعاملونكم معاملة المحقوق بما عومل به يقال سامه خسفاً إذا أذله واحتقره فاستعمل سام في معنى أنال وأعطى ولذلك يعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر . وحقيقة سام عرض السوم أي الثمن .
وسوء العذاب أشده وأفظعه وهو عذاب التسخير والإرهاق وتسليط العقاب الشديد بتذبيح الأبناء وسبي النساء والمعنى يذبحون أبناء آبائكم ويستحيون نساء قومكم الأولين .
والمراد من الأبناء قيل أطفال اليهود وقيل : أريد به الرجال بدليل مقابلته بالنساء وهذا الوجه أظهر وأوفق بأحوال الأمم إذ المظنون أن المحق والاستئصال إنما يقصد به الكبار ، ولأنه على الوجه الأول تكون الآية سكتت عن الرجال إلا أن يقال : إنهم كانوا يذبحون الصغار قطعاً للنسل ويسبون الأمهات استعباداً لهن ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدريج . وإبقاء الرجال في مثل هاته الحالة أشد من قتلهم . أو لعل تقصيراً ظهر من نساء بني إسرائيل مرضعات الأطفال ومربيات الصغار وكان سببه شغلهن بشؤون أبنائهن فكان المستعبِدون لهم إذا غضبوا من ذلك قتلوا الطفل .
والاستحياء استفعال يدل على الطلب للحياة أي يبقونهن أحياء أو يطلبون حياتهن .
ووجه ذكره هنا في معرض التذكير بما نالهم من المصائب أن هذا الاستحياء للإناث كان المقصد منه خبيثاً وهو أن يعتدوا على أعراضهن ولا يَجدن بداً من الإجابة بحكم الأسر والاسترقاق فيكون قوله : { ويستحيون نساءكم } كناية عن استحياء خاص ولذلك أدخل في الإشارة في قوله : { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } ولو كان المراد من الاستحياء ظاهره لما كان وجه لعطفه على تلك المصيبة .
وقيل إن الاستحياء من الحياء وهو الفرج أي يفتشون النساء في أرحامهن ليعرفوا هل بهن حمل وهذا بعيد جداً وأحسن منه أن لو قال إنه كناية كما ذكرنا آنفاً . وقد حكت التوراة أن فرعون أوصى القوابل بقتل كل مولود ذكر .
وجملة : { يذبحون أبناءكم } إلخ بيان لجملة { يسومونكم سوء العذاب } فيكون المراد من سوء العذاب هنا خصوص التذبيح وما عطف عليه وهو { ويستحيون نساءكم } لما عرفت فكلاهما بيان لسوء العذاب فكان غير ذلك من العذاب لا يعتد به تجاه هذا . ولك أن تجعل الجملة في موضع بدل البعض تخصيصاً لأعظم أحوال سوء العذاب بالذكر وهذا هو الذي يطابق آية سورة إبراهيم ( 6 ) التي ذكر فيها { ويذبحون أبناءكم -بالعطف على- سوء العذاب } وليس قوله { ويستحيون } مستأنفاً لإتمام تفصيل صنيع فرعون بل هو من جملة البيان أو البدل للعذاب ويدل لذلك قوله تعالى في الآية الأخرى : { يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين } [ القصص : 4 ] فعقب الفعلين بقوله : { إنه كان من المفسدين } .
والبلاء الاختبار بالخير والشر قال تعالى : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] وهو مجاز مشهور حقيقته بلاء الثوب بفتح الباء مع المد وبكسرها مع القصر وهو تخلقه وترهله ولما كان الاختبار يوجب الضجر والتعب سمي بلاء كأنه يُخلق النفس ، ثم شاع في اختبار الشر لأنه أكثر إعناتاً للنفس ، وأشهر استعماله إذا أطلق أن يكون للشر فإذا أرادوا به الخير احتاجوا إلى قرينة أو تصريح كقول زهير :
جزى الله بالإحسانِ ما فعلا بكم *** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فيطلق غالباً على المصيبة التي تحل بالعبد لأن بها يختبر مقدار الصبر والأناة والمراد هنا المصيبة بدليل قوله { عظيم } . وقيل أراد به الإنجاء والبلاء بمعنى اختبار الشكر وهو بعيد هنا .
وتعلق الإنجاء بالمخاطبين لأن إنجاء سلفهم إنجاء لهم فإنه لو أبقى سلفهم هنالك للحق المخاطبين سوء العذاب وتذبيح الأبناء ، أو هو على حذف مضاف أي نجينا آباءكم ، أو هو تعبير عن الغائب بضمير الخطاب إما لنكتة استحضار حاله وإما لكون المخاطبين مثالهم وصورتهم فإن ما يثبت من الفضائل لآباء القبيلة يثبت لأعقابهم فالإتيان بضمير المخاطب على خلاف مقتضى الظاهر على حد ما يقال في قوله تعالى : { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] فالخطاب ليس بالتفات لأن اعتبار أحوال القبائل يعتبر للخلف ما ثبت منه للسلف .