فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك ، ونصرهم عليهم { فهزموهم بإذن الله وقتل داود } عليه السلام ، وكان مع جنود طالوت ، { جالوت } أي : باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره { وآتاه الله } أي : آتى الله داود { الملك والحكمة } أي : منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة ، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم ، ولهذا قال { وعلمه مما يشاء } من العلوم الشرعية والعلوم السياسية ، فجمع الله له الملك والنبوة ، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم ، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض ، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله ، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي : لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى ، وإظهار دينه { ولكن الله ذو فضل على العالمين } حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها ، وأسباب لا يعلمونها .
قال الله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } ذكروا في الإسرائيليات : أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله ، وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ويشاطره نعمته ويشركه{[4254]} في أمره فوفى له ثم آل{[4255]} الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } الذي كان بيد طالوت { والحكمة } أي : النبوة بعد شمويل { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } أي : مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ } أي : لولاه يدفع عن قوم بآخرين ، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا كما قال : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } الآية [ الحج : 40 ] .
وقال ابن جرير ، رحمه الله : حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " . ثم قرأ ابن عمر : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ }{[4256]} وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد [ هذا ]{[4257]} هو أبو زكريا العطار الحمصي وهو ضعيف جدًّا .
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ، ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم " {[4258]} .
وهذا أيضًا غريب ضعيف لما تقدم أيضا . وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا زيد بن الحباب ، حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن{[4259]} ثوبان – رفع الحديث - قال : " لا يزال فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله " {[4260]} .
وقال ابن مردويه أيضًا : وحدثنا محمد بن أحمد{[4261]} حدثنا محمد بن جرير بن يزيد ، حدثنا أبو معاذ نهار بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر البزار ، عن عنبسة الخواص ، عن قتادة عن أبي قِلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض ، وبهم تمطرون وبهم تنصرون " قال قتادة : إني لأرجو أن يكون الحسن منهم{[4262]} .
وقوله : { وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } أي : مَنٌّ عليهم ورحمة بهم ، يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت. وفي هذا الكلام متروك ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه.
وذلك أن معنى الكلام: ولما برزوا لجالوت وجنوده، قالوا:"ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" فاستجاب لهم ربهم، فأفرغ عليهم صبره، وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله. ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله: "فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّهِ "على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به.
"فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّهِ": قتلوهم بقضاء الله وقدره. وَقَتَل دَاوُدُ جالُوتَ، وداود هذا هو داود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
"وآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ": وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه ممّا يشاء. والهاء في قوله: "وآتاهُ اللّهُ" عائدة على داود والملك السلطان، والحكمة: النبوّة. "وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ": يعني علمه صنعة الدروع، والتقدير في السرد، كما قال الله تعالى ذكره: "وعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأسِكُمْ".
"وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَىَ الْعَالَمِينَ": ولولا أن الله يدفع ببعض الناس، وهم أهل الطاعة له والإيمان به، بعضا وهم أهل المعصية لله، والشرك به، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له وقد أعطاهم ما سألوا ربهم ابتداء من بعثة ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوت وجنوده، "لفسدت الأرض": يعني لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض، ولكن الله ذو منّ على خلقه، وتطوّل عليهم بدفعه بالبرّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر.
وهذه الآية إعلام من الله تعالى ذكره أهل النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخلفين عن مشاهده والجهاد معه للشك الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم والمشركين وأهل الكفر منهم، وأنه إنما يدفع عنهم معاجلتهم العقوبة، على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله، الذين هم أهل البصائر، والجدّ في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعده على جهاد أعدائه، وأعداء رسوله من النصر في العاجلة، والفوز بجناته في الآخرة.
وأما القراء فإنها اختلفت في قراءة قوله: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ". فقرأته جماعة من القراء: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ" على وجه المصدر من قول القائل: دفع الله عن خلقه، فهو يدفع دفعا. واحتجت لاختيارها ذلك بأن الله تعالى ذكره، هو المتفرّد بالدفع عن خلقه، ولا أحد يدافعه فيغالبه. وقرأت ذلك جماعة أخرى من القراء: «وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللّهِ النّاسَ» على وجه المصدر من قول القائل: دافع الله عن خلقه، فهو يدافع مدافعة ودفاعا. واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرا من خلقه يعادون أهل دين الله، وولايته والمؤمنين به، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم لله مدافعون بباطلهم، ومغالبون بجهلهم، والله مدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به.
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القراء وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالة معنى الاَخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء، فمدافعه عنه دافع، ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه مدافع ولا شكّ أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده، محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولة مغالبة الله ودفاعه، عما قد تضمن لهم من النصرة، وذلك هو معنى مدافعة الله عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فتبين إذا أن سواء قراءة من قرأ: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض" وقراءة من قرأ: "وَلَوْلا دِفاعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ" في التأويل والمعنى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت}... قيل: {بإذن الله} بنصر الله [وهو أقرب، والله أعلم]...
{وآتاه الله الملك والحكمة} فالملك يحتمل علم الحرب وسياسة القتل؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله: {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 30] ويحتمل الملك بما عقد له من الخلافة كقوله: {يا داوود إنا جعلناك خلفية في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}
[ص: 26]. {وآتاه الله الملك والحكمة} الأمرين [ما كان] من قرب زمانه على ما عليه ابتداء [الآية] أن الملك يكون غير نبي، فجمعنا له، فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة...
[و] اختلف في قوله: {لفسدت الأرض}؛ قيل: لو لم يدفع بعضهم لقتل بعضهم بعضا وأهل فريق فريقا، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض، وقال آخرون... أراد بفساد أهلها لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام وأهلها؛ فإذا غلبوا فسد أهلها. وقال... إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع؛ ففيه فساد الأرض، والله اعلم.
وقوله: {ولكن الله ذو فضل على العالمين} يدفع ذلك كله عن المسلمين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الهزم: الدفع، تقول: هزم القوم في الحرب يهزمهم هزما: إذا دفعهم بالقتال هربا منه، وانهزموا انهزاما...
{وآتاه الله الملك والحكمة} قيل في معناه قولان: أحدهما... أنه اختصه من علم السمع بحكمة لم يؤتها غيره.
{وعلمه مما يشاء} معناه أنه علمه أمور الدين وما يشاء من أمور الدنيا، منها صنعة الدرع وعمل السرد، ذكره الزجاج، والطبري.
فان قيل: ما الفائدة في قوله: {وعلمه مما يشاء} إذا كنا لا ندري ما الذي شاء من ذلك؟ قيل هو تعالى وإن لم يشرح لنا ما علمه فقد بين لنا أنه خصه من العلم بعد علم الدين بما لم يؤته غيره، لان غيره من المؤمنين إنما نعلم ما دله الله عليه من أمر دينه ودنياه، وكان داود مساويا لهم في ذلك إن لم يكن أكثرهم علما فيه، لأنه كان مؤمنا مثلهم، وكان معهم في أمورهم، فلما بين لنا {آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} بعد قتل جالوت، علمنا أنه كان خصه بما ذكره من الملك والحكمة، وخصه منه بما لم يخص به أحدا سواه.
اللغة: وأصل الدفع: الصرف عن الشيء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هيب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة في الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدي داود...
{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ}. فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داودُ جالوتَ، وداود بالإضافة إلى جالوت في الضخامة والجسامة كان بحيث لا تُتَوهَم غلبته إياه
{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ}. لو تظاهر الخلْق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرَّهم عن قوم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعبث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض...
اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به، فقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم} إشارة إلى المدفوع، وقوله: {ببعض} إشارة إلى المدفوع به، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا، ويحتمل أن يكون مجموعهما.
أما القسم الأول: وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر، أو إلى الفسق، أو إليهما، فلنذكر هذه الاحتمالات.
الاحتمال الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}.
والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} ويدخل في هذا الباب: الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} وفي موضع آخر: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} الاحتمال الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض.
واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم، وتقريره: أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة، والمصالح حاصلة. فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم رتب على ذلك النتيجة حثاً على الاقتداء بهم لنيل ما نالوا فقال عاطفاً على ما تقديره: فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم: {فهزموهم} مما منه الهزيمة وهو فرار من شأنه الثبات -قاله الحرالي، وقال: ولم يكن فهزمهم الله، كما لهذه الأمة في {ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17]...
{بإذن الله} أي الذي له الأمر كله. ثم بين ما خص به المتولي لعظم الأمر بتعريض نفسه للتلف في ذات الله سبحانه وتعالى من الخلال الشريفة الموجبة لكمال الحياة الموصلة إلى البقاء السرمدي فقال: {وقتل داود} وكان في جيش طالوت {جالوت} قال الحرالي: مناظرة قوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] {وكان فضل الله عليك عظيماً}...
{وآتاه الله} بجلاله وعظمته {الملك} قال الحرالي: كان داود عليه الصلاة والسلام عندهم من سبط الملك فاجتمعت له المزيتان من استحقاق البيت وظهور الآية على يديه بقتل جالوت، قال تعالى: {والحكمة} تخليصاً للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود... فكان داود عليه الصلاة والسلام أول من جمع له بين الملك والنبوة. {وعلمه} أي زيادة مما يحتاجان إليه {مما يشاء} من صنعة الدروع وكلام الطير وغير ذلك.
ولما بين سبحانه وتعالى هذه الواقعة على طولها هذا البيان الذي يعجز عنه الإنس والجان، بين حكمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ما هو أعم من ذلك من تسليط بعض الناس على بعض بسبب أنه جبل البشر على خلائق موجبة للتجبر وطلب التفرد بالعلو المفضي إلى الاختلاف فقال- بانياً له على ما تقديره: فدفع الله بذلك عن بني إسرائيل ما كان ابتلاهم به -: {ولولا دفع الله} المحيط بالحكمة والقدرة بقوته وقدرته
{الناس} وقرئ: دفاع. قال الحرالي: فعال من اثنين وما يقع من أحدهما دفع وهو رد الشيء بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته، وهو أبلغ من الأول إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يفعل في ذلك فعل المبالغ.
ولما أثبت سبحانه وتعالى أن الفعل له خلقاً وإيجاداً بيّن أنه لعباده كسباً ومباشرة فقال: {بعضهم ببعض} فتارة ينصر قويهم على ضعيفهم كما هو مقتضى القياس، وتارة ينصر ضعيفهم -كما فعل في قصة طالوت- على قويهم حتى لا يزال ما أقام بينهم من سبب الحفظ بهيبة بعضهم لبعض قائماً {لفسدت الأرض} بأكل القوي الضعيف حتى لا يبقى أحد {ولكن الله} تعالى بعظمته وجلاله وعزته وكماله يكف بعض الناس ببعض ويولي بعض الظالمين بعضاً وقد يؤيد الدين بالرجل الفاجر على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل يكون سبباً لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام إلى الحد الذي حده ثم يزيل الشحناء على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ليتم العلم بكمال قدرته واختياره وذلك من فضله على عباده وهو {ذو فضل} عظيم جداً {على العالمين} أي كلهم أولاً بالإيجاد وثانياً بالدفاع فهو يكف من ظلم الظلمة إما بعضهم ببعض أو بالصالحين وقليل ما هم ويسبغ عليهم غير ذلك من أثواب نعمه ظاهرة وباطنة...
ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل ثم عقبها بآية الكرسي التي هي العلم الأعظم من دلائل التوحيد فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قوله تعالى "يا أيها الناس اعبدوا ربكم "[البقرة: 21] إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوة المفتتح بها قصص بني إسرائيل فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جرياً على الأسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بين تعالى حكمة الإذن بالقتال الذي قررته الآيات فقال: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} قرأ نافع "دفاع الله "والباقون "دفع الله" أي لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها. لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض وبغوا على الصالحين وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين وإحسانه إلى الناس أجمعين، أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض، بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم {فهزموهم بإذن الله وقتل داود} عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، {جالوت} أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره {وآتاه الله} أي: آتى الله داود {الملك والحكمة} أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال {وعلمه مما يشاء} من العلوم الشرعية والعلوم السياسية... وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه
{ولكن الله ذو فضل على العالمين} حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: {فهزموهم بإذن الله}.. ويؤكد النص هذه الحقيقة: {بإذن الله}.. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما. وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة؛ يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه.. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله. اختاره الله لدوره. وهذه منة من الله وفضل. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ. ثم يكرمه الله -بعد كرامة الاختيار- بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد. استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص. ويبرز السياق دور داود: (وقتل داود جالوت).. وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل. وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود: {وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}.. وكان داود ملكا نبيا، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى.. أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى.. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات.. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولكن الله ذو فضل على العالمين} وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار. وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات.. ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف.. لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة. تعرف الحق الذي بينه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحا. وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض. وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه... وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه. وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة. ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر. ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فهزموهم بإذن الله} الفاء هنا للسببية، أي أنه بسبب قوة عزائمهم، وحسن صبرهم واتجاههم إلى ربهم ضارعين أن يلهمهم الصبر عند اللقاء، والثبات عند الزحف، والنصر في النهاية لأنه المالك لكل شيء، بسبب كل هذا هزموهم بإذن الله، أي بتوفيقه سبحانه وإرادته وهدايته، وإمداده سبحانه بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها...
و قد ذكر سبحانه العناصر التي ترشح للسلطان وحكم الناس، فكانت قوة الجسم، والحكمة والعلم، ولذا قال سبحانه بعد ذكره قتله لجالوت: {و آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم، فالحكمة تقتضي صفتين ذاتيتين في الشخص: عقلا مدركا نافذا بصيرا يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم، فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل، وأحكام الفكر السليم، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية، وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم.
و لقد ذكر سبحانه أنه علم داود مما يشاء أي علمه علما كثيرا واسعا مما شاء أن يعلمه. فقوله تعالى: {مما يشاء} يشير إلى سعة العلم، وإنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته. فعلمه سبحانه سياسة الملك، وأحوال الناس، ومنازع النفوس، وأحوال البلدان وما تنتجه من خيرات، وغير ذلك، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه، والتجارب التي ساقها الله إليه، والذخيرة التي بين يديها من أحوال الحاكمين السابقين، والهداة المرشدين، وما أوتيه من علم التوراة، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين، وفي كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح. تلك هي عناصر الحكم الصالح، لابد أن يكون الحاكم قويا في جسمه، بحيث لا يخذل جسمه إرادته، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال.
ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف، وفي هذه الحال قد يستغنى عن ذلك العنصر إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معا، فالاعتبار الأول لقوة النفس، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها.
و العنصر الثاني هو الحكمة: وهي كما رأيت جعل العمل يسير مع العقل فلا تتحكم الأهواء والشهوات، وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه، فليختبر كل حاكم نفسه، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل، وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق.
و العنصر الثالث: الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحوالهم، فإن الحكم عمل للمصلحة، وليس سيطرة وتحكما، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته، وغلبت عليه شهوته، ثم غلبت عليه شقوته...
إن فرق ما بين الحكم الصالح وغير الصالح دقيق في معناه، وإن كان الأثر كبيرا في مبناه، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم، فمن تحكم في الرعية ولو باسم مصلحتها، فقد سلك سبيل الفساد؛ لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة، ولو لبس لبوس المصلحة. والسيطرة تسلط، والتسلط في ذاته فساد يؤدي لا محالة إلى فساد، ويؤدي إلى موت الإرادات في الجماعة، وفي ذلك إضعاف لقوتها. و أما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها، فهو يؤدي إلى الصلاح لا محالة، وإن تعثر في أخطاء أحيانا؛ لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم...
[ثم] ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: {ولكن الله ذو فضل على العالمين}. و قد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:
أولها: أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته، وإنعامه على خلقه، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه، وذلك لأنه خلق الناس، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون، وعليهم وبال أمرهم، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله، وقد دل على ذلك الاستدراك بقوله تعالى: {ولكن الله ذو فضل} ووصف ذلك بأنه فضل من رب العالمين خالق الناس أجمعين.
الأمر الثاني: فضل الله سبحانه وتعالى الكثير، ووصفه سبحانه بأنه ذو فضل، وقد دل على كثرة الفضل التنكير في قوله تعالى: {ذو فضل} أي ذو فضل كثير، لا يدرك الناس قدره، ولا يعرف كنهه، ولا يحد بمقدار حتى يعرف ويعين بالتعريف.
الأمر الثالث: أن النعمة التي أنعم الله بها على خلقه من دفع الفساد ينعم بها المؤمنون والمشركون، والأشرار والأبرار؛ لأن الفساد إذا عم لا يسلم منه أحد، والخير إذا تحقق عم الجميع، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى: {على العالمين} فلم يقل على المؤمنين أو المتقين، بل عم الخير على الناس أجمعين للإشارة إلى ذلك المعنى الجليل.
هذه قصة بني إسرائيل الذين غلبوا على أمرهم ثم بدلوا من الذلة عزة، وهي قصة تكشف عن سنن الاجتماع والحروب، وأمثل طرق الحكم. فمن سنن الله في الجماعات التي أشارت إليها الآيات أن الجماعة إن غلبت على أمرها، وسامها الغالب الخسف والهوان تحفزت قوى آحاد منها للحياة، فطلبوها عزيزة كريمة، فإذا طالبوا اتجهوا إلى قيادة تجمع أمرهم، وتنظم شئونهم، ثم ساروا تحت لواء تلك القيادة، وقد تصارعت عوامل الضعف مع دوافع العزة، فإن كان الصبر كان معه النصر، وإن ضاقوا بأمرهم كان الخذلان، وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة.
و من سنن الله في الحروب التي استبانت من القصة أن النصر يكون عند اتحاد العزائم وتلاقي القلوب، وأخذ الأهبة، والصبر الثبات، وأن النصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بالعزيمة الماضية والثبات والصبر، والمعونة من الله العلي القدير، وأن الحق في ذاته قوة إن آمن به صاحبه، وأراده عزيزا كريما غير ذليل. و لقد سن سبحانه في هذا القصص الطريق لاختيار الحكام، فبين أن الحاكم لا يختار لنسب رفيع، ولا يختار لمال وفير، ولكن يختار لقدرته على القيام بأعباء الحكم من قوة في نفسه، وقدرة على الاستيلاء على أهوائه وشهواته، وعلم غزير بشئون الاجتماع وأحوال الناس، ومن تجارب هادية إلى الحق في الأمور، وإخلاص ينير الطريق والبصائر، وليس الحكم عطاء يعطى، ولكنه ابتلاء وأعباء. و إن الحاكم الذي تجتمع القلوب حوله هو حكم الجماعة، والحاكم مظهرها، وإن قتل الحاكم أو مات أقامت الجماعة مثله، أو خيرا منه، أما الحاكم المتسلط المتجبر فإنه جامع للناس على رغباته، فإن قتل أو مات تفرق الجمع وولى الأدبار. وهذه إشارات إلى العبر في ذلك القصص الحكيم...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وتختم الآيات الكريمة هذه القصة بتقرير مبدأ أساسي للحياة أقامته الحكمة الإلهية لضمان التعايش السلمي بين البشر، وفرض التعاون بينهم على عمارة الأرض وصلاحها، وهذا المبدأ هو مبدأ حفظ التوازن بين القوى المتصارعة، وبث الخوف والحذر في الجبهات المتنافسة، حتى يحسب بعضها الحساب للبعض الآخر، فيصدهم ذلك عن الطغيان والعدوان، ويتمكن الإنسان من تحقيق رسالته في الأرض، التي هي رسالة الإصلاح والعمران...
إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به. ويجيء الحق بكلمة {هزموهم} وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجما. والمحارب يجب أن يكون مهاجما كاراً دائما، فحين يلجأ إلى أن يفر، هنا نتوقف لنتبين أمره، هل هذا الفرار تحرفا لقتال وانعطافا وميلا إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة، لكن إذا كان الفرار لغير كر ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة.
وقول الله: {فهزموهم بإذن الله} يدل على أن جنود جالوت لم يُقتلوا كلهم، ولكن الذين قتلوا هم أئمة الكفر فيهم، بدليل قوله بعد ذلك: {وقتل داود جالوت}. وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب، فطارده داود وقتله.
ولأول مرة يظهر لنا اسم {داود} في هذه القصة الطويلة، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد 10 أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير 11} (سورة سبأ)... إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت... قائد المشركين، وشاءت حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين. كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه، كل ذلك نتيجة قتل جالوت. وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلّمه الله صناعة الدروع، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع. وجعل الله له الحديد ليّناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى: {وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} (من الآية 80 سورة الأنبياء). وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه...
{وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الوجود، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس. وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة في الكون لفسد... فالذي يعمر الكون هو أن توجد فيه قوى متكافئة؛ قوة تقابلها قوة أخرى. ولذلك نجد العالم دائما محروسا بالقوتين العظميين، ولو كانت قوة واحدة لعم الضلال. ولو تأملنا التاريخ منذ القدم لوجدنا هذه الثنائية في القوى تحفظ الاستقرار في العالم...
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، نعم تفسد الأرض فيما جعل الله للإنسان يداً فيه، أما الشيء الذي لم يجعل الله للإنسان يداً فيه فستظل النواميس كما هي لا يؤثر فيها أحد، فلا أحد يؤثر في الشمس أو القمر أو الهواء أو المطر، إنما الفساد جاء فيما للإنسان فيه يد. انظر إلى الكون، إنك تجد المسائل التي لا دخل للإنسان فيها مستقيمة على أحسن ما يكون، وإنما يأتي الفساد من النواحي التي تدخّل فيها الإنسان بغير منهج الله. ولو أن الإنسان دخل فيها بمنهج الله لاستقامت الأمور كما استقامت النواميس العليا تماما.
[ف] في سورة الرحمن قوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان 7}. ومادام الحق قد رفع السماء ووضع الميزان، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام محكم تماما، الشمس تطلع من الشرق وتغرب في الغرب، والقمر والنجوم تسير في منتهى الدقة والإبداع، لأنه لا دخل لأحد من البشر فيه. فإن أردتم أن تصلح حياتكم، وأن تستقيم أموركم كما استقامت هندسة السماء والأرض فخذوا الميزان من السماء في أعمالكم، واتبعوا القول الحق: {والسماء رفعها ووضع الميزان 7 ألا تطغوا في الميزان 8 وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان 9} (سورة الرحمن). ومادمتم قد رأيتم أن الأمور الموجودة التي تسير بنظام لا تتحكمون فيه تعمل باستقامة وترون أن الفساد قد جاء من ناحية الأمور التي دخلتم فيها، فلماذا لا نتبع منهج الله في الأمور التي لنا دخل فيها...
إن السماء لا تقع على الأرض لأنها محكومة بنظام محكم تماما. والأرض لا تدور بعيدا عن فلكها؛ لأن خالقها قد قدّر لها النظام المحكم تماما. ولهذا يقول الحق سبحانه عن نظام الكواكب في الكون: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون 40} (سورة يس)...
ومادام الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ومنحه الاختيار، وبعض الناس اختار مذهباً، والبعض الآخر اختار مذهبا مضادا، وكل من المذهبين خارج عن منهج الله، فالحق سبحانه وتعالى يترك الفئتين للتقاتل والتناحر. ولأنه سبحانه ذو رحمة على العالمين، يبقى عناصر الخير في الوجود، لعل أحداً يرى ويتنبه ويتلفت ويذهب ليأخذها. فعندما تطغى جماعة يأتي لهم الحق بجماعة يردّونهم، حتى تبقى عناصر الخير في الوجود لعل إنساناً يأتي ليأخذ عنصراً منها يحرك به حياته، وصاحب الخير إنما يأتي من فضل الله على العالمين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين}. فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تفشي الفساد وسريانه في المجتمع البشري قاطبة. وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والاختيار وأنّ الإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والاندثار بسبب طغيان الطّواغيت، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده. وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد...)...