ولا بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهرًا وباطنًا في الحضرة والمغيب . فأما مَنْ يظهر في الحضرة والطاعة والالتزام فإذا خلا بنفسه أو أبناء جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها ، فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة ولا مفيدة ، وقد أشبه من قال الله فيهم : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } أي : يظهرون الطاعة إذا كانوا عندك . { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وخلوا في حالة لا يطلع فيها عليهم . { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : بيتوا ودبروا غير طاعتك ولا ثَمَّ إلا المعصية .
وفي قوله : { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } دليل على أن الأمر الذي استقروا عليه غير الطاعة ؛ لأن التبييت تدبير الأمر ليلا على وجه يستقر عليه الرأي ، ثم توعدهم على ما فعلوا فقال : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ، ففيه وعيد لهم .
ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالإعراض وعدم التعنيف ، فإنهم لا يضرونه شيئا إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه ، وإقامة شرعه . ولهذا قال : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا }
وقوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه . فقال تعالى : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين ، الذين هم موكلون بالعباد . يعلمون ما يفعلون . والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك . كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ]{[7926]} } [ النور : 47 ] .
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : اصفح عنهم واحلم عليهم{[7927]} ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تَخَفْ منهم أيضا { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي : كفى به{[7928]} وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه .
{ وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيّتَ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَىَ بِاللّهِ وَكِيلاً } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه بقوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ } يعني : الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال ، خشوا الناس كخشية الله وأشدّ خشية ، يقولون لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : أمرك طاعة ، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ! { فَإذَا بَرزُوا مِنْ عِنْدِكَ } يقول : فإذا خرجوا من عندك يا محمد { بيّتَ طائفةٌ منهمْ غيرَ الذِي تقولُ } يعني بذلك جلّ ثناؤه : غيّر جماعة منهم ليلاً الذي تقول لهم . وكلّ عَمل عُمل ليلاً فقد بُيّت ، ومن ذلك بَيّتَ العدوّ وهو الوقوع بهم ليلاً ، ومنه قول عبيدة ابن همام :
أتَوْنِي فَلَمْ أرْضَ ما بَيّتُوا ***وكانُوا أتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ
لاِنْكِحَ أيّمَهُمْ مُنْذِرا ***وَهلْ يُنْكِحُ العَبْدَ حُرّ لِحُرّ
يعني بقوله : «فلم أرض ما بيتوا ليلاً » : أي ما أبرموه ليلاً وعزموا عليه . ومنه قول النمر بن تولب العكليّ :
هَبّتْ لِتَعْذُلَنِي بلَيْلٍ اسْمَعِ ! ***سَفَها تُبَيّتُكِ المَلامةُ فاهْجَعي !
يقول الله جلّ ثناؤه : { وَاللّه يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ } يعني بذلك جلّ ثناؤه : والله يكتب ما يغيرون من قولك ليلاً في كتب أعمالهم التي تكتبها حفظته .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : يغيرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : غيّر أولئك ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ } قال : هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا : طاعة ، فإذا خرجوا من عنده غيّرت طائفة منهم ما يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم . { وَاللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيّتُونَ } يقول : ما يقولون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } قال : يغيّرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله ليأمنوا على دمائهم وأموالهم ، فإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده¹ فعابهم الله ، فقال : { بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } يقول : يغيّرون ما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { بَيّتَ طائِفَةٌ مِنْهُم غيرَ الّذِي تَقُولُ } : هم أهل النفاق .
وأما رفع «طاعة » فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول ، وهو : أمرك طاعة ، أو منا طاعة . وأما قوله : { بَيّتَ طائِفَةٌ } فإن التاء من بيّت تحركها بالفتح عامة قراء المدينة والعراق وسائر القراء ، لأنها لام فعل . وكان بعض قراء العراق يسكنها ثم يدغمها في الطاء لمقاربتها في المخرج .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك ، ترك الإدغام ، لأنها أعني التاء والطاء من حرفين مختلفين¹ وإذا كان كذلك كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب ، واللغة الأخرى جائزة أعني الإدغام في ذلك محكية .
القول في تأويل قوله تعالى : { فأعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ على اللّهِ وكَفَى باللّهِ وَكِيلاً } .
يقول جلّ ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : فأعرض يا محمد عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم : أمرك طاعة ، فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به وغيّروه إلى ما نهيتهم عنه ، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة ، وارض لهم بي منتقما منهم ، وتوكل أنت يا محمد على الله . يقول : أي وحسبك بالله وكيلاً : أي فيما يأمرك ، ووليّا لها ، ودافعا عنك وناصرا .
{ ويقولون } إذا أمرتهم بأمر . { طاعة } أي أمرنا أو منا طاعة ، وأصلها النصب على المصدر ورفعها للدلالة على الثبات . { فإذا برزوا من عندك } خرجوا . { بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي زورت خلاف ما قلت لها ، أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة ، والتبييت إما من البيتوتة لأن الأمور تدبر بالليل ، أو من بيت الشعر ، أو البيت المبني لأنه يسوي ويدبر . وقرأ أبو عمرو وحمزة { بيت طائفة } بالإدغام لقربهما في المخرج . { والله يكتب ما يبيتون } يثبته في صحائفهم للمجازاة ، أو في جملة ما يوحى إليك لتطلع على أسرارهم . { فأعرض عنهم } قلل المبالاة بهم أو تجاف عنهم . { وتوكل على الله } في الأمور كلها سيما في شأنهم . { وكفى بالله وكيلا } يكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم .
بَيَّن أنّهم لضعف نفوسهم لا يُعرضون جهراً بل يظهرون الطاعة ، فإذا أمرهم الرسول أو نهاهم يقولون له { طاعة } أي : أمْرُنا طاعةٌ ، وهي كلمة يدُلّون بها على الامتثال ، وربما يقال : سَمْعٌ وطاعة ، وهو مصدر مرفوع على أنّه خبر لمبتدإ محذوف ، أي أمرنا أو شأننا طاعة ، كما في قوله : { فصبرٌ جميل } [ يوسف : 18 ] . وليس هو نائباً عن المفعول المطلق ألآتي بدَلاً من الفعل الذي يُعَدل عن نصبه إلى الرفع للدلالة على الثبات مثل « قال سلام » ، إذ ليس المقصود هنا إحداثَ الطاعة وإنّما المقصود أنّنا سنُطيع ولا يكون منّا عصيان .
ومعنى { برزوا } خرجوا ، وأصل معنى البروز الظهور ، وشاع إطلاقه على الخروج مجازاً مرسلاً .
و { بيَّتَ } هنا بمعنى قدّر أمراً في السرّ وأضمره ، لأنّ أصل البيات هو فعل شيء في الليل ، والعرب تستعير ذلك إلى معنى الإسرار ، لأنّ الليل أكتم للسرّ ، ولذلك يقولون : هذا أمر قْضي بليل ، أي لم يطّلع عليه أحد ، وقال الحارث بن حلّزة :
أجمعوا أمرهم بليل فلمّا *** أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال أبو سفيان : هذا أمر قضى بليل . وقال تعالى : { لنُبيِّتَنَّه وأهله } [ النمل : 49 ] أي : لنقتلنّهم ليلاً . وقال : { وهو معهم إذ يّبيتون ما لا يَرضى من القول } [ النساء : 108 ] . وتاء المضارعة في { غير الذي تقول } للمؤنث الغائب ، وهو الطائفة ويجوز أن يراد خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي غير الذي تقول لهم أنت ، فيجيبون عنه بقولهم : طاعة . ومعنى { والله يكتب ما يبيّتون } التهديد بإعلامهم أنّه لن يفلتهم من عقابه ، فلا يغرنّهم تأخّر العذاب مدّة . وقد دلّ بصيغة المضارع في قوله : { يكتب } على تجدّد ذلك ، وأنّه لا يضاع منه شيء .
وقوله : { فأعرض عنهم } أمر بعدم الاكتراث بهم ، وأنّهم لا يُخشى خلافهم ، وأنّه يتوكلّ على الله { وكفى بالله وكيلاً } أي مُتوكَّلاً عليه ، ولا يَتوكّل على طاعة هؤلاء ولا يحزنه خلافهم .
وقرأ الجمهور { بيَّتَ طَائفة } بإظهار تاء ( بيَّتَ ) من طاء ( طائفة ) . وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف بإدغام التاء في الطاء تخفيفاً لقرب مخرجيهما .