تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }

يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة ، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله ، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس ، كالجهاد في سبيل الله ، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح ، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه ، أو فيمن يحب .

{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من الطعن فيكم ، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم .

وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك ، عدة فوائد :

منها : أن حكمته تعالى تقتضي ذلك ، ليتميز المؤمن الصادق من غيره .

ومنها : أنه تعالى يقدر عليهم هذه الأمور ، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم ، ويكفر من سيئاتهم ، وليزداد بذلك إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }

ومنها : أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك ، والصبر عليه إذا وقع ؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه ، فيهون عليهم حمله ، وتخف عليهم مؤنته ، ويلجأون إلى الصبر والتقوى ، ولهذا قال : { وإن تصبروا وتتقوا } أي : إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم ، من الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين ، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب إليه ، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال ، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله .

{ فإن ذلك من عزم الأمور } أي : من الأمور التي يعزم عليها ، وينافس فيها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى : { وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

وقوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ]{[6304]} } [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن{[6305]} على قدر دينه ، إن{[6306]} كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم{[6307]} من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } قال : وكان رسول الله{[6308]} صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن{[6309]} الله فيهم .

هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ؛ أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار ، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قَبْل وقعة بَدْر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة ، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تُغَبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم{[6310]} ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبَي : أيها المَرْء ، إنه لا أحْسَنَ مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى{[6311]} يا رسول الله ، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك . فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون{[6312]} فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب{[6313]} - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح{[6314]} فوَالله الذي{[6315]} أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله{[6316]} بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة{[6317]} على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه{[6318]} بالعصابة ، فلما أبى{[6319]} الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فَعَل{[6320]} به ما رأيتَ ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ] {[6321]} } وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى أذنَ الله فيهم ، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدرًا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد تَوَجّه ، فبايعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام{[6322]} وأسلموا{[6323]} {[6324]} .

فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذَى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .


[6304]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآيتين".
[6305]:في جـ، ر، أ، و: "المرء".
[6306]:في أ، و: "فإن".
[6307]:في جـ، ر: "ينالهم".
[6308]:في أ: "النبي".
[6309]:في أ: "أذنه".
[6310]:في أ: "فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم".
[6311]:في أ: "بل".
[6312]:في و: "يتبارزون".
[6313]:في أ: "حبان".
[6314]:في جـ، ر، أ، و: "واصفح عنه".
[6315]:في جـ، ر، أ، و: "فوالذي".
[6316]:في و: "لقد خالفتهم".
[6317]:البحيرة المقصود بها: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[6318]:في أ: "فيعصبوه"، وفي و: "فيعصبونه".
[6319]:في ر، أ،: "أتى".
[6320]:في أ: "ثقل".
[6321]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[6322]:في جـ، أ، و: "على الإسلام فبايعوا".
[6323]:في ر: "فأسلموا".
[6324]:صحيح البخاري برقم (4566)، ورواه مسلم في صحيحه برقم (1798).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لَتُبْلَوُنّ فِيَ أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوَاْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمُورِ } .

يعني بذلك تعالى ذكره : { لُتبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ } لتختبرن بالمصائب في أموالكم وأنفسكم ، يعني : وبهلاك الأقرباء والعشائر من أهل نصرتكم وملتكم ، { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : من اليهود وقولهم { إنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنحْنُ أغْنِياءُ } وقولهم { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ } وما أشبه ذلك من افترائهم على الله . { وَمِنَ الّذِين أشْرَكُوا } يعني النصارى ، { أذًى كَثِيرا } والأذى من اليهود ما ذكرنا ، ومن النصارى قولهم : المسيح ابن الله ، وما أشبه ذلك من كفرهم بالله . { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا } يقول : وإن تصبروا لأمر الله الذي أمركم به فيهم وفي غيرهم من طاعته وتتقوا ، يقول : وتتقوا الله فيما أمركم ونهاكم ، فتعملوا في ذلك بطاعته . { فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : فإن ذلك الصبر والتقوى مما عزم الله عليه وأمركم به . وقيل إن ذلك كله نزل في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع . كالذي :

حدثنا به القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة في قوله : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثيرا } قال : نزلت هذه الاَية في النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أبي بكر رضوان الله عليه ، وفي فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع ، قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رحمه الله إلى فنحاص يستمدّه ، وكتب إليه بكتاب ، وقال لأبي بكر : «لا تَفْتَاتَنّ عليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجِعَ » فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف ، فأعطاه الكتاب ، فلما قرأه قال : قد احتاج ربكم أن نمده ! فهمّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ، ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا تَفْتاتَنّ عَليّ بِشَيْءٍ حتى تَرْجعَ » فكف¹ ونزلت : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرّ لَهُمْ } وما بين الاَيتين إلى قوله : { لَتُبْلَوْنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } نزلت هذه الاَيات في بني قينقاع ، إلى قوله : { فإنْ كَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } . قال ابن جريج : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال : { لَتُبْلَوُنّ فِي أمْوَالِكُمْ وأنْفُسِكُمْ } قال : أعلم الله المؤمنين أنه سيبتليهم فينظر كيف صبرهم على دينهم ، ثم قال : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُؤتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : اليهود والنصارى ، { وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : عزير ابن الله ، ومن النصارى : المسيح ابن الله ، فكان المسلمون ينصبون لهم الحرب ، ويسمعون إشراكهم ، فقال الله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فإنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } يقول : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به .

وقال آخرون : بل نزلت في كعب بن الأشرف ، وذلك أنه كان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشبب بنساء المسلمين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري في قوله : { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا أذًى كَثِيرا } قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعره ، ويهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إليه خمسة نفر من الأنصار فيهم محمد بن مسلمة ، ورجل يقال له أبو عبس . فأتوه وهو في مجلس قومه بالعوالي¹ فلما رآهم ذعر منهم ، فأنكر شأنهم ، وقالوا : جئناك لحاجة ، قال : فليدن إليّ بعضكم ، فليحدثني بحاجته ! فجاءه رجل منهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا عندنا لنستنفق بها ، فقال : والله لئن فعلتم لقد جهدتم منذ نزل بكم هذا الرجل ! فواعدوه أن يأتوه عشاء حين هدأ عنهم الناس . فأتوه ، فنادوه ، فقالت امرأته : ما طرقك هؤلاء ساعتهم هذه لشيء مما تحب ! قال : إنهم حدثوني بحديثهم وشأنهم . قال معمر : فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه أشرف عليهم فكلمهم ، فقال : أترهنوني أبناءكم ؟ وأرادوا أن يبيعهم تمرا ، قال : فقالوا إنا نستحيي أن تعير أبناؤنا فيقال هذا رهينة وَسْق ، وهذا رهينة وسقين ! فقال : أترهنوني نسائكم ؟ قالوا : أنت أجمل الناس ، ولا نأمنك ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ؟ ولكنا نرهنك سلاحنا ، فقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم . فقال : ائتوني بسلاحكم ، واحتملوا ما شئتم ! قالوا : فانزل إلينا نأخذ عليك ، وتأخذ علينا . فذهب ينزل ، فتعلقت به امرأته وقالت : أرسل إلى أمثالهم من قومك يكونوا معك . قال : لو وجدني هؤلاء نائما ما أيقظوني . قالت : فكلمهم من فوق البيت ، فأبى عليها ، فنزل إليهم يفوح ريحه ، قالوا : ما هذه الريح يا فلان ؟ قال : هذا عطر أم فلان ! امرأته . فدنا إليه بعضهم يشم رائحته ، ثم اعتنقه ، ثم قال : اقتلوا عدو الله ! فطعنه أبو عبس في خاصرته ، وعلاه محمد بن مسلمة بالسيف ، فقتلوه ، ثم رجعوا . فأصبحت اليهود مذعورين ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قتل سيدنا غيلة ! فذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه ، وما كان يحض عليهم ، ويحرض في قتالهم ، ويؤذيهم ، ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم صلحا ، فقال : فكان ذلك الكتاب مع عليّ رضوان الله عليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

{ لتبلون } أي والله لتختبرن . { في أموالكم } بتكليف الإنفاق وما يصيبها من الآفات . { وأنفسكم } بالجهاد والقتل والأسر والجراح ، وما يرد عليها من المخاوف والأمراض والمتاعب . { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم ، والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين . أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ، ويستعدوا للقائها حتى لا يرهقهم نزولها . { وإن تصبروا } على ذلك . { وتتقوا } مخالفة أمر الله . { فإن ذلك } يعني الصبر والتقوى . { من عزم الأمور } من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله عليه أي أمر به وبالغ فيه . والعزم في الأصل ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

هذا الخطاب للنبي عليه السلام وأمته ، والمعنى : لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء ، وبالإنفاق في سبيل الله ، وفي سائر تكاليف الشرع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض ، وفقد الأحبة بالموت ، واختلف المفسرون في سبب قوله تعالى : { ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } فقال عكرمة وغيره : السبب في ذلك قول فنحاص : إن الله فقير ونحن إغنياء ، وقوله : يد الله مغلولة إلى غير ذلك ، وقال الزهري وغيره : نزلت هذه الآية بسبب كعب بن الأشرف ، فإنه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ويشبب بنساء المسلمين ، حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله القتلة المشهورة في السيرة{[3761]} ، و«الأذى » : اسم جامع في معنى الضرر وهو هنا يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سبهم وأقوالهم في جهة الله تعالى وأنبيائه ، وندب الله تعالى عباده إلى الصبر والتقوى ، وأخبر أنه من عزم الأمور ، أي من أشدها وأحسنها ، و «العزم » : إمضاء الأمر المروي المنقح ، وليس ركوب الأمر دون روية عزماً إلا على مقطع المشيحين من فتاك العرب كما قال{[3762]} :

إذا هَمَّ ألقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عزْمَهُ . . . وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْحَوَادِثِ جَانِبَا

وقال النقاش : العزم والحزم بمعنى واحد : الحاء مبدلة من العين .

قال القاضي : وهذا خطأ ، والحزم : جودة النظر في الأمور وتنقيحه والحذر من الخطأ فيه ، و «العزم » : قصد الإمضاء ، والله تعالى يقول : { وشاورهم في الأمر ، فإذا عزمت }{[3763]} فالمشاورة وما كان في معناها هو الحزم ، والعرب تقول : قد أحزم و لو أعزم{[3764]} .


[3761]:- أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم- عن الزهري، كما أخرجه ابن المنذر من طريق الزهري- عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك (فتح القدير للشوكاني1/375) ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمان بن كعب بن مالك. (لباب النقول في أسباب النزول: 17، وابن جرير في تفسيره، وسيرة ابن هشام 3/ 54).
[3762]:- قال ابن الأثير: المشيح: الحذر والجاد في الأمر، وقيل: المقبل إليك المانع لما وراء ظهره، فيجوز أن يكون أشاح أحد هذه المعاني 2/ 366.
[3763]:- من الآية (159) من سورة الشورى.
[3764]:- هذا مثل، معناه: إن عزمت الرأي فأمضيته فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمي (الميادني 2/34).