تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

ثم سلَّاهم بما حصل لهم من الهزيمة ، وبيَّن الحكم العظيمة المترتبة على ذلك ، فقال : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } فأنتم وإياهم قد تساويتم في القرح ، ولكنكم ترجون من الله ما لا يرجون كما قال تعالى : { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون }

ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، فيداول الله الأيام بين الناس ، يوم لهذه الطائفة ، ويوم للطائفة الأخرى ؛ لأن هذه الدار الدنيا منقضية فانية ، وهذا بخلاف الدار الآخرة ، فإنها خالصة للذين آمنوا .

{ وليعلم الله الذين آمنوا } : هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده بالهزيمة والابتلاء ، ليتبين المؤمن من المنافق ؛ لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده ، فإذا حصل في بعض الوقائع بعض أنواع الابتلاء ، تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في الإسلام ، في الضراء والسراء ، واليسر والعسر ، ممن ليس كذلك .

{ ويتخذ منكم شهداء } : وهذا أيضا من بعض الحكم ، لأن الشهادة عند الله من أرفع المنازل ، ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها ، فهذا من رحمته بعباده المؤمنين ، أن قيَّض لهم من الأسباب ما تكرهه النفوس ، لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم ، { والله لا يحب الظالمين } : الذين ظلموا أنفسهم ، وتقاعدوا عن القتال في سبيله ، وكأن في هذا تعريضا بذم المنافقين ، وأنهم مبغضون لله ، ولهذا ثبطهم عن القتال في سبيله .

{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

{ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } أي : إن كنتم قد أصابتكم جراحٌ وقُتل منكم طائفةٌ ، فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أي : نُديل عليكم الأعداء تارة ، وإن كانت العاقبة لكم لما لنا في ذلك من الحكم{[5774]} ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } قال ابن عباس : في مثل هذا لنَرَى ، أي : من يَصبر على مناجزة الأعداء { وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ } يعني : يُقْتَلُون في سبيله ، ويَبْذُلون مُهَجهم في مرضاته . { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } .


[5774]:في أ: "الحكمة".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شهداء وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ }

اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } كلاهما بفتح القاف ، بمعنى : إن يمسسكم القتل والجراح يا معشر أصحاب محمد ، فقد مسّ القوم من أعدائكم من المشركين قرح قتل وجراح مثله . وقرأ عامة قراء الكوفة : «إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ » .

وأولى القراءتين بالصواب ، قراءة من قرأ : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } بفتح القاف في الحرفين لإجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح ، فذلك يدلّ على أن القراءة هي الفتح . وكان بعض أهل العربية يزعم أن القَرْح والقُرْح لغتان بمعنى واحد ، والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا . ذكر من قال : إن القرح الجراح والقتل :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } قال : جراح وقتل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } قال : إن يقتلوا منكم يوم أُحد ، فقد قتلتم منهم يوم بدر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } . والقرح : الجراحة ، وذاكم يوم أُحد ، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة ، فأخبرهم الله عزّ وجلّ أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم ، وأن الذي أصابكم عقوبة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } قال : ذلك يوم أُحد ، فشا في المسلمين الجراح ، وفشا فيهم القتل ، فذلك قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } يقول : إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله ، يعزّي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهم على القتال .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } والقرح : هي الجراحات .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ } أي جراح ، { فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } : أي جراح مثلها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : نام المسلمون وبهم الكلوم يعني يوم أُحد قال عكرمة : وفيهم أنزلت : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلكَ الأيّامُ نُداوِلِهَا بينَ الناسِ } وفيهم أنزلت : { إنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنّهُمْ يأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لا يَرْجُونَ } .

وأما تأويل قوله : { إنْ يَمسَسْكُمْ قَرْحٌ } فإنه : إن يصبكم . كما :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { إن يمْسَسْكُم } : إن يصبكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَتِلكَ الأيّامُ نُدَاوِلهَا بَيْنَ النّاسِ } .

يعني تعالى ذكره ( بقوله ) : { وتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُها بَيْنَ النّاسِ } أيام بدر وأُحد ، ويعني بقوله : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } : نجعلها دولاً بين الناس مصرفة ، ويعني بالناس : المسلمين والمشركين . وذلك أن الله عزّ وجلّ أدال المسلمين من المشركين ببدر ، فقتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين ، وأدال المشركين من المسلمين بأُحد ، فقتلوا منهم سبعين سوى من جرحوا منهم ، يقال منه : أدال الله فلانا من فلان فهو يديله منه إدالة إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المدال منه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } قال : جعل الله الأيام دولاً ، أدال الكفار يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } : إنه والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون ، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ويعلم الصادق من الكاذب .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } فأظهر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر ، وأظهر عليهم عدوّهم يوم أُحد . وقد يدال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر ، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ويعلم الصادق من الكاذب ، وأما من ابتلي منهم من المسلمين يوم أُحد ، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } : يوما لكم ، ويوما عليكم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } قال : أدال المشركين على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } فإنه كان يوم أُحد بيوم بدر ، قتل المؤمنون يوم أُحد ، اتخذ الله منهم شهداء ، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين ، فجعل له الدولة عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : لما كان قتال أُحد ، وأصاب المسلمين ما أصاب ، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان ، فقال : يا محمد ، يا محمد ، ألا تخرج ، ألا تخرج ؟ الحرب سجال ، يوم لنا ، ويوم لكم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «أَجِيبُوهُ ! » فقالوا : لا سواء لا سواء ، قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار . فقال أبو سفيان : لنا عزّى ، ولا عزّى لكم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قُولُوا : اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكُمْ » . فقال أبو سفيان : اعل هبل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، «قُولُوا : اللّهُ أعلَى وأجَلّ » . فقال أبو سفيان : موعدكم وموعدنا بدر الصغرى . قال عكرمة : وفيهم أنزلت : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : حدثنا ابن المبارك . عن ابن جريج . عن ابن عباس ، في قوله : { وَتِلْكَ الأيامُ نُداوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ } : فإنه أدال على النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَتِلَكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَ بَيَنَ النّاسِ } : أي نصرفها للناس بالبلاء والتمحيص .

حدثني إبراهيم بن عبد الله ، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن عون ، عن محمد في قول الله : { وَتِلْكَ الأيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناسِ } قال : يعني الأمراء .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لا يُحبّ الظّالِمينَ } .

يعني بذلك تعالى ذكره : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء نداولها بين الناس . ولو لم يكن في الكلام واو لكان قوله : «ليعلم » متصلاً بما قبله ، وكان : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليعلم الله الذين آمنوا . ولكن لما دخلت الواو فيه آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها ، وأن بعدها خبرا مطلوبا للام التي في قوله : «وليعلم » ، متعلقة به .

فإن قال قائل : وكيف قيل : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا } معرفة ، وأنت لا تستجيز في الكلام : قد سألت فعلمت عبد الله ، وأنت تريد : علمت شخصه ، إلا أن تريد : علمت صفته وما هو ؟ قيل : إن ذلك إنما جاز مع الذين ، لأن في «الذين » تأويل «مَنْ » و«أيّ » ، وكذلك جائز مثله في الألف واللام ، كما قال تعالى ذكره : { فَلَيَعْلَمَنّ اللّهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنّ الكاذِبِينَ } لأن في الألف واللام من تأويل «أيّ » ، و«من » مثل الذي في «الذي » . ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على «أيّ » جاز ، كما يقال : سألت لأعلم عبد الله من عمرو ، ويراد بذلك : لأعرف هذا من هذا .

فتأويل الكلام : وليعلم الله الذين آمنوا منكم أيها القوم من الذين نافقوا منكم ، نداول بين الناس ، فاستغنى بقوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا منكم } عن ذكر قوله : { مِنَ الّذِينَ نافَقُوا } لدلالة الكلام عليه ، إذ كان في قوله : { الّذِينَ آمَنُوا } تأويل «أيّ » على ما وصفنا . فكأنه قيل : وليعلم الله أيكم المؤمن ، كما قال جل ثناؤه : { لنَعْلَمَ أيّ الحِزْبَيْنِ أحْصَى } غير أن الألف واللام والذي ومِن ، إذا وضعت مع العلم موضع أيّ نصبت بوقوع العلم عليه ، كما قيل : وليعلمنّ الكاذبين ، فأما «أيّ » فإنها ترفع .

وأما قوله : { وَيَتّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } فإنه يعني : وليعلم الله الذين آمنوا ، وليتخذ منكم شهداء : أي ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها . والشهداء جمع شهيد¹ كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } أي ليميز بين المؤمنين والمنافقين ، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } قال : فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم : ربنا أرنا يوما كيوم بدر ، نقاتل فيه المشركين ، ونُبْليكَ فيه خيرا ، ونلتمس فيه الشهادة ! فلقوا المشركين يوم أُحد ، فاتخذ منهم شهداء .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } فكرّم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوّهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } قال : قال ابن عباس : كانوا يسألون الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أُحد ، فاتخذ منهم شهداء .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَليَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ } كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوما كيوم بدر ، يبلون فيه خيرا ، ويرزقون فيه الشهادة ، ويرزقون الجنة والحياة والرزق . فلقي المسلمون يوم أُحد فاتخذ الله منهم شهداء ، وهم الذين ذكرهم الله عزّ وجلّ ، فقال : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقتَلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتٌ } . . . الاَية .

وأما قوله : { وَاللّهُ لا يُحِبّ الظالِمِينَ } فإنه يعني به : الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَاللّهُ لا يُحِبّ الظّالِمِينَ } : أي المنافقين الذي يظهرون بألسنتهم الطاعة ، وقلوبهم مصرّة على المعصية .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِن يَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحٞ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحٞ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَآءَۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (140)

{ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله } : قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف ، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف . وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها ، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله ، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا ، فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون . وقيل كلا المسينّ كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم . { وتلك الأيام نداولها بين الناس } نصرفها بينهم تدليل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله :

فيوما علينا ويوما لنا *** ويوم نساء ويوم نسر

والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه ، والأيام تحتمل الوصف والخبر ، و{ نداولها } يحتمل الخبر والحال ، والمراد بها : أوقات النصر والغلبة . { وليعلم الله الذين آمنوا } : عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت ، { وليعلم الله } إيذانا بأن العلة فيه غير واحدة ، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم ، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره : وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك ، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان . وقيل معناه ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا . { ويتخذ منكم شهداء } : ويكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد ، أو يتخذ منكم شهودا معدلين بما صودف منهم من الثبات والصبر على الشدائد . { والله لا يحب الظالمين } : الذين يضمرون خلاف ما يظهرون ، أو الكافرين وهو اعتراض ، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين .