{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي : أنت الملك المالك لجميع الممالك ، فصفة الملك المطلق لك ، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك ، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها ، فقال : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد ، وقد فعل ولله الحمد ، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى ، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله ، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء ، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر ، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح ، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم ، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع ، قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور ، وقال تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء ، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم ، ثم قال تعالى : { وتعز من تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار . ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4924]} } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم{[4925]} عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] {[4926]} } الآية [ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
[ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[4927]} } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " إسحاق بن أحمد " من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك . ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك{[4928]} .
{ قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
أما تأويل قوله { قُلِ اللّهُمّ } فإنه قل يا محمد : يا الله .
واختلف أهل العربية في نصب ميم { اللّهُمّ } وهو منادى ، وحكم المنادى المفرد غير المضاف الرفع ، وفي دخول الميم فيه ، وهو في الأصل «الله » بغير ميم . فقال بعضهم : إنما زيدت فيه الميمان لأنه لا ينادى ب«يا » كما ينادى الأسماء التي لا ألف فيها ، وذلك أن الأسماء التي لا ألف ولا لام فيها تنادى ب«يا » ، كقول القائل : يا زيد ويا عمرو ، قال : فجعلت الميم فيه خلفا من «يا » ، كما قالوا : فم ودم وهم وزُرْقُم وسُتْهُم ، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف ، ثم يبدل مكانه ميم ، قال : فكذلك حذفت من اللهم «يا » التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا ، وجعلت الميم خلفا منها في آخر الاسم . وأنكر ذلك من قولهم آخرون ، وقالوا : قد سمعنا العرب تنادي : اللهمّ ب«يا » ، كما تناديه ، ولا ميم فيه . قالوا : فلو كان الذي قال هذا القول مصيبا في دعواه لم تدخل العرب «يا » ، وقد جاءوا بالخلف منها . وأنشدوا في ذلك سماعا من العرب :
وَما عَلَيْكِ أنْ تَقُولي كُلّما *** صَلّيْتِ أوْ كَبّرْتِ يا اللّهُمّ
*** ارْدُدْ إلينا شَيْخَنَا مُسَلّما ***
ويروى : «سبحت أو كبرت » . قالوا : ولم نر العرب زادت مثل هذه الميم إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل فم ودم وهم قالوا : ونحن نرى أنها كلمة ضمّ إليها «أمّ » بمعنى «يا الله أمّنا بخير » ، فكثرت في الكلام فاختلطت به . قالوا : فالضمة التي في الهاء من همزة «أم » لما تركت انتقلت إلى ما قبلها . قالوا : ونرى أن قول العرب هلمّ إلينا مثلها ، إنما كان هلمّ «هل » ضمّ إليها «أمّ » فتركت على نصبها . قالوا : ومن العرب من يقول إذا طرح الميم : يا ألله اغفر لي » ، و«يا الله اغفر لي » ، بهمز الألف من الله مرّة ، ووصلها أخرى ، فمن حذفها أجراها على أصلها لأنها ألف ولام ، مثل الألف واللام اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين . ومن همزها توهم أنها من الحرف ، إذ كانت لا تسقط منه . وأنشدوا في همز الألف منها :
مُبارَكٌ هُوَ وَمَنْ سَمّاهُ *** على اسمكَ اللّهُمّ يا أللّهُ
قالوا : وقد كثرت اللهمّ في الكلام حتى خففت ميمها في بعض اللغات ، وأنشدوا :
كحَلْفَةٍ مِنْ أبي رِياحٍ *** يَسْمَعُها اللّهُمُ الكُبارُ
«يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ » .
«يَسْمَعُها اللّهُ والكُبارُ » .
القول في تأويل قوله تعالى : { مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } .
يعني بذلك : يا مالك الملك ، يا من له ملك الدنيا والاَخرة خالصا دون غيره . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : { قُلِ اللّهُمّ مالكَ المُلْكِ } أي ربّ العباد الملك لا يقضي فيهم غيرك .
وأما قوله : { تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } فإنه يعني : تعطي الملك من تشاء فتملّكه وتسلطه على من تشاء . وقوله : { وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } أن تنزعه منه ، فترك ذكر «أن تنزعه منه » اكتفاء بدلالة قوله : { وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } عليه ، كما يقال : خذ ما شئت ، وكن فيما شئت ، يراد : خذ ما شئت أن تأخذه ، وكن فيما شئت أن تكون فيه ، وكما قال جل ثناؤه : { فِي أيّ صُورَةٍ ما شاءَ ركّبَكَ } يعني : في أيّ صورة شاء أن يركبك فيها ركبك . وقيل : إن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لمسألته ربه أن يجعل ملك فارس والروم لأمته . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة¹ وذكر لنا أن نبيّ صلى الله عليه وسلم سأل ربه جلّ ثناؤه أن يجعل له ملك فارس والروم في أمته ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { قُلِ اللّهُمّ مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } . . . إلى : { إنّكَ على كلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا ولله أعلم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عزّ وجلّ أن يجعل ملك فارس والروم في أمته ، ثم ذكر مثله .
وروي عن مجاهد أنه كان يقول : معنى الملك في هذا الموضع النبوّة . ذكر الرواية عنه بذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ } قال : النبوّة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتُعِزّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يعني جلّ ثناؤه : وتعزّ من تشاء بإعطائه الملك والسلطان وبسط القدرة له ، وتذلّ من تشاء بسلبك ملكه وتسليط عدوّ عليه . { بِيَدِكَ الخَيْرُ } أي كلّ ذلك بيدك وإليك ، لا يقدر على ذلك أحد¹ لأنك على كل شيء قدير ، دون سائر خلقك ، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك ، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربّا . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله : { تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ } . . . الاَية ، أي إن ذلك بيدك لا إلى غيرك ، { إنّكَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك .
{ قل اللهم } الميم عوض عن يا ولذلك لا يجتمعان ، وهو من خصائص هذا الاسم كدخول يا عليه مع لام التعريف وقطع همزته وتاء القسم . وقيل أصله يا الله أمنا بخير ، فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته . { مالك الملك } يتصرف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية . { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } تعطي منه ما تشاء من تشاء وتسترد ، فالملك الأول عام والآخران بعضان منه . وقيل : المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما بالنصر والإدبار والتوفيق والخذلان . { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض ، إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا ، أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه إذ روي ( أنه عليه السلام لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها . وبرق منها برق أضاء منه ما بين لابتيها لكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر وكبر معه المسلمون وقال " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء " وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا " . فقال المنافقون : ( ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ) فنزلت . فنبه على أن الشر أيضا بيده بقول { إنك على كل شيء قدير } .