ثم وصف تعالى شدة يوم القيامة وهوله ليحذره العباد ويستعد له العباد فقال : { وَتَرَى } أيها الرائي لذلك اليوم { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } على ركبها خوفا وذعرا وانتظارا لحكم الملك الرحمن .
{ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : إلى شريعة نبيهم الذي جاءهم من عند الله ، وهل قاموا بها فيحصل لهم الثواب والنجاة ؟ أم ضيعوها فيحصل لهم الخسران ؟ فأمة موسى يدعون إلى شريعة موسى وأمة عيسى كذلك وأمة محمد كذلك ، وهكذا غيرهم كل أمة تدعى إلى شرعها الذي كلفت به ، هذا أحد الاحتمالات في الآية وهو معنى صحيح في نفسه غير مشكوك فيه ، ويحتمل أن المراد بقوله : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } أي : إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشر وأن كل أحد يجازى بما عمله بنفسه كقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا }
ثم قال : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : على ركبها من الشدة والعظمة ، ويقال : إن هذا [ يكون ]{[26351]} إذا جيء بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل ، ويقول : نفسي ، نفسي ، نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، وحتى أن عيسى ليقول : لا أسألك اليوم إلا نفسي ، لا أسألك [ اليوم ] {[26352]} مريم التي ولدتني .
قال مجاهد ، وكعب الأحبار ، والحسن البصري : { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي : على الركب . وقال عِكْرِمة : { جاثية } متميزة على ناحيتها ، {[26353]} وليس على الركب . والأول أولى .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن عبد الله بن باباه{[26354]} ، أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] {[26355]} قال : " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم " {[26356]} .
وقال إسماعيل بن رافع المديني{[26357]} ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، مرفوعا في حديث الصورة{[26358]} : فيتميز الناس وتجثو الأمم ، وهي التي يقول الله : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } {[26359]} .
وهذا فيه جمع بين القولين : ولا منافاة ، والله أعلم .
وقوله : { كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } يعني : كتاب أعمالها ، كقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [ الزمر : 69 ] ؛ ولهذا قال : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : تجازون بأعمالكم خيرها وشرها ، كقوله تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ . بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 13 - 15 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثية : يقول : مجتمعة مستوفزة على ركبها من هول ذلك اليوم . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال على الركب مستوفِزِين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد ، في قوله : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال : هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَتَرَى كُلّ أمّةٍ جاثِيَةً يقول : على الركب عند الحساب .
وقوله : كُلّ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها يقول : كل أهل ملة ودين تُدعى إلى كتابها الذي أملت على حفظتها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلُ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها ، يعلمون أنه ستدعى أُمة قبل أُمة ، وقوم قبل قوم ، ورجل قبل رجل . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُمَثّلُ لِكُلّ أُمّةٍ يَوْمَ القِيامَةِ ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ ، أوْ وَثَنٍ أوْ خَشَبَةٍ ، أوْ دَابّةٍ ، ثُمّ يُقالُ : مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَتَكُونُ ، أوْ تُجْعَلُ تِلْكَ الأوْثانُ قادَةً إلى النّارِ حتى تَقْذِفَهُمْ فِيها ، فَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عَليهِ وَسلّمَ وأهْلُ الكِتاب ، فَيَقُولُ للْيَهُودِ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَعُزَيْرا إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَيُقالُ لَهَا : أمّا عُزَيْرٌ فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشّمالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا ، ثُمّ يُدْعَى بالنّصَارَى ، فَيُقالُ لَهُمْ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَالمَسِيحَ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَيُقالُ : أمّا عِيسَى فلَيسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشمّالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا ، وَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ ، فَيُقالُ لَهُمْ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ ، وإنّمَا فارَقْنا هَؤُلاءِ فِي الدّنيْا مَخافَةَ يَوْمِنا هَذَا ، فَيُؤْذَنُ للْمُؤْمِنِينَ فِي السّجُودِ ، فَيَسْجُدُ المُؤْمِنُونَ ، وَبينَ كُلّ مُؤْمِنٍ مُنافِقٌ ، فَيْقْسُو ظَهْرُ المُنافِقِ عَنِ السّجُودِ ، وَيجْعَلُ اللّهُ سُجُودَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ تَوْبِيخا وَصَغارا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن عطاء بن يزيدالليثي ، عن أبي هريرة ، قال : «قَالَ الناسُ : يا رسُولَ اللّهِ هَلْ نَرَى ربّنَا يومَ القيامَةِ ؟ قال : «هَلْ تُضَامّونَ فِي الشّمْسِ لَيْسَ دُونَها سَحَابٌ ، قالُوا : لاَ يَا رسُولَ اللّهِ ، قال : «هَلْ تُضَارّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ » قالوا : لا يا رسُول الله ، قَالَ : فإنّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلكَ . يَجْمَعُ اللّهُ النّاسَ فَيَقُولُ : مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَيَتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ القَمَرَ القَمَرَ ، وَمَنْ كانَ يَعْبُدُ الشّمْسَ الشّمْسَ ، وَيَتْبَع مَنْ كانَ يَعْبُدُ الطّوَاغِيتَ الطّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمّةُ فِيها مُنافِقُوها ، فيَأتِيهِمْ رَبّهُمْ فِي صورَةٍ ، وَيُضْرَبُ جِسْرٌ على جَهَنّمَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَأكُونُ أوّلَ مَنْ يُجِيزَ ، وَدَعْوَةُ الرّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللّهُمّ سَلّمْ ، اللّهُمّ سَلّمْ وَبها كَلالِيبُ كَشَوْكِ السّعْدانِ هَلْ رَأيْتُمْ شَوْكَ السّعْدانِ ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : فإنّها مِثْلُ شَوْكِ السّعْدانِ غَيرَ أنّهُ لا يَعْلَمُ أحَدٌ قَدْرَ عِظَمِها إلاّ اللّهُ ويُخْطَفُ النّاسُ بأعمالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ المُوبَقُ بعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ ثُمّ يَنْجُو ، ثُمّ ذَكَرَ الحدِيثَ بِطُولِه » .
وقوله : اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . يقول تعالى ذكره : كلّ أُمة تُدعى إلى كتابها ، يقال لها : اليوم تجزون : أي تثابون وتعطون أجور ما كنتم في الدنيا من جزاء الأعمال تعملون بالإحسان الإحسانَ ، وبالإساءة جزاءها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.