{ 5-8 } { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة ، الذين ابتعث فيهم النبي الأمي ، وما خصهم الله به من المزايا والمناقب ، التي لا يلحقهم فيها أحد وهم الأمة الأمية الذين فاقوا الأولين والآخرين ، حتى أهل الكتاب ، الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والأحبار المتقدمون ، ذكر أن الذين حملهم الله التوراة من اليهود وكذا النصارى ، وأمرهم أن يتعلموها ، ويعملوا بما فيها{[1095]} ، وانهم لم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به ، أنهم لا فضيلة لهم ، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا من كتب العلم ، فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره ؟ وهل يلحق به فضيلة بسبب ذلك ؟ أم حظه منها حملها فقط ؟ فهذا مثل علماء اليهود{[1096]} الذين لم يعملوا بما في التوراة ، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والبشارة به ، والإيمان بما جاء به من القرآن ، فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إلا الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه ؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم .
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يرشدهم إلى مصالحهم ، ما دام الظلم لهم وصفًا ، والعناد لهم نعتًا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
"مثل الذين حملوا التوراة" يعني اليهود تحملوا العمل بما في التوراة فقرؤوها {ثم لم يحملوها} يقول: لم يعملوا بما فيها {كمثل الحمار يحمل أسفارا} يقول: كمثل الحمار يحمل كتابا لا يدري ما فيه، كذلك اليهود حين لم يعملوا بما في التوراة، فضرب الله تعالى لهم مثلا، فقال: {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله} يعني القرآن {والله لا يهدي} إلى دينه من الضلالة {القوم الظالمين} في علمه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى، فحملوا العمل بها" ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها "يقول: ثم لم يعملوا بما فيها، وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به، "كَمَثَلِ الْحِمارِ يحمِلُ أسْفارا" يقول: كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبا من كتب العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا فيها علم، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها...
وقوله: "بِئْسَ مثلُ القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ" يقول: بئس هذا المثل، مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله، يعني بأدلته وحججه.
"واللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ" يقول تعالى ذكره: والله لا يوفّق القوم الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بآيات ربهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... فيه أيضا زجر للمسلمين أن يستخفوا كتاب الله وألا يعملوا بما فيه، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما مثلهم بالحمار لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يدري بما فيها، ولا يحس بها، كمثل من يحفظ الكتاب ولا يعمل به، وعلى هذا من تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عن ذلك إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به. وإن من حفظه وهو طالب لمعناه وقد تقدم حفظه فليس من أهل هذا المثل... ثم قال (والله لا يهدي القوم الظالمين) يعني الذين يظلمون نفوسهم بارتكاب المعاصي لا يحكم بهدايتهم، ولا يرشدهم إلى طريق الجنة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(مثل الذين حملوا التوراة) أي: حملوا القيام بها (واستعمالها)، وهو من الحمالة وليس من الحمل أي: ضمنوا القيام بها والعمل بما فيها. وقوله: (ثم لم يحملوها) أي: ضيعوها ولم يعملوا بما فيها
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
شبه اليهود -في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به- بالحمار حمل أسفاراً، أي كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل {بِئْسَ} مثلاً {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآيات الله} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم...
البحث الأول: ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات؟
نقول: لوجوه؛ (منها) أنه تعالى خلق {الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} والزينة في الخيل أكثر وأظهر؛ بالنسبة إلى الركوب، وحمل الشيء عليه، وفي البغال دون، وفي الحمار دون البغال، فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال، وغيرهما من الحيوانات،
(ومنها) أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، وذلك في الحمار أظهر،
(ومنها) أن في الحمار من الذل والحقارة ما لا يكون في الغير، والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولى،
(ومنها) أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم، لكونه ذلولا، سلس القياد، لين الانقياد، يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة. وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره.
(ومنها) أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام، وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى.
.... الثالث: قال تعالى: {بئس مثل القوم} كيف وصف المثل بهذا الوصف؟
نقول: الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم، فكأنه قال: بئس القوم قوما مثلهم هكذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مثل الذين} ولما كان العلم ولا سيما الرباني يجب أن يفرح به ويرغب فيه من أيّ موصل كان، بنى للمجهول قوله وصيانة لاسمه الشريف عن أن يذكر عند العصيان: {حملوا التوراة} أي كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع...
. {ثم لم يحملوها} بأن حفظوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها...
{كمثل} أي مثّل مَثَل {الحمار} الذي هو أبله الحيوان، فهو مثل في الغباوة، حال كونه {يحمل أسفاراً} أي كتباً من العلم كاشفة للأمور تنفع الألباء، جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه...
{بئس مثل القوم} أي الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدونه فلم يؤتوا من عجز يعذرون به {الذين كذبوا} أي عمدوا على علم عناداً منهم وكفراً {بآيات الله} أي دلالات الملك الأعظم على رسله ولا سيما محمد صلى الله عليه وسلم وجميع ما يرضيه مثلهم فإن مثلهم قد تكفل بتعريف أنهم قد اجتمعوا مع الحمار في وصف هو الروح الباطني، وهو الضرر الصرف الذي لا نفع فيه بوجه بأنفع الأشياء، وهو ما دل على الله فضمن سعادة الدارين... {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال لا يهديهم -هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {لا يهدي القوم} أي لا يخلق الهداية في قلوب الأقوياء الذين تعمدوا الزيغ: {الظالمين} أي الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل:
(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله! والله لا يهدي القوم الظالمين)..
فبنوا إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة.. (ثم لم يحملوها).. فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم -وكما هي في حقيقتها- لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها. فهو ليس صاحبها. وليس شريكا في الغاية منها!
وهي صورة زرية بائسة، ومثل سيئ شائن، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين)..
ومثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها. والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين. وبخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب، وهم لا ينهضون بما فيها.. أولئك كلهم، كالحمار يحمل أسفارا. وهم كثيرون كثيرون! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس. إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوماً أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كافٍ في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين...
ومعنى {حملوا}: عُهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا...
وثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عُهد إليهم أعجب من تحملهم إياه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ضرب كتاب الله المثل للمسلمين بما وقع لبني إسرائيل، حيث أنزل الله التوراة على نبيهم موسى عليه السلام، وبدلا من أن يحافظوا عليها، ويعملوا بمقتضاها، ويتفادوا تحريفها، ضيعوا أمانتها، ولم يحملوها على الوجه المطلوب، بل حرفوها وأولوها طبقا للهوى المتبع والرأي المرغوب، وكتاب الله بذكره للتوراة وما أصابها من الإهمال، وإشارته إلى العوامل التي قضت على كثير من أحكامها بالإبطال، يريد أن يحذر المسلمين من الوقوع في نفس الغلط وارتكاب نفس الهفوة، بالنسبة للقرآن الكريم، ويريد أن يحضهم على التمسك بكتاب الله وشريعته قولا وفعلا، وعلى حمل أمانته باستمرار، وحفظه والمحافظة عليه جيلا بعد جيل، وذلك قوله تعالى: {مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بيس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}...