تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)

{ 10 } { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ }

أي : يا من يريد العزة ، اطلبها ممن هي بيده ، فإن العزة بيد اللّه ، ولا تنال إلا بطاعته ، وقد ذكرها بقوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } من قراءة وتسبيح وتحميد وتهليل وكل كلام حسن طيب ، فيرفع إلى اللّه ويعرض عليه ويثني اللّه على صاحبه بين الملأ الأعلى { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ } من أعمال القلوب وأعمال الجوارح { يَرْفَعُهُ } اللّه تعالى إليه أيضا ، كالكلم الطيب .

وقيل : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فيكون رفع الكلم الطيب بحسب أعمال العبد الصالحة ، فهي التي ترفع كلمه الطيب ، فإذا لم يكن له عمل صالح ، لم يرفع له قول إلى اللّه تعالى ، فهذه الأعمال التي ترفع إلى اللّه تعالى ، ويرفع اللّه صاحبها ويعزه .

وأما السيئات فإنها بالعكس ، يريد صاحبها الرفعة بها ، ويمكر ويكيد ويعود ذلك عليه ، ولا يزداد إلا إهانة ونزولا ، ولهذا قال : { والعمل الصالح يرفعه وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } يهانون فيه غاية الإهانة . { وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي : يهلك ويضمحل ، ولا يفيدهم شيئا ، لأنه مكر بالباطل ، لأجل الباطل .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)

قوله تعالى : " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " التقدير عند الفراء : من كان يريد علم العزة . وكذا قال غيره من أهل العلم . أي من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها ؛ لأن العزة إذا كانت تؤدي إلى ذلة فإنما هي تعرض للذلة ، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل . " جميعا " منصوب على الحال . وقدر الزجاج معناه : من كان يريد بعبادته الله عز وجل العزة والعزة له سبحانه فإن الله عز وجل يعزه في الآخرة والدنيا . قلت : وهذا أحسن ، وروي مرفوعا على ما يأتي . " فلله العزة جميعا " ظاهر هذا إيئاس السامعين من عزته ، وتعريفهم أن ما وجب له من ذلك لا مطمع فيه لغيره ، فتكون الألف واللام للعهد عند العالمين به سبحانه وبما وجب له من ذلك ، وهو المفهوم من قوله الحق في سورة يونس : " ولا يحزنك قولهم إن العزة لله " {[13113]} [ يونس : 65 ] . ويحتمل أن يريد سبحانه أن ينبه ذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة ومن أين تستحق ، فتكون الألف واللام للاستغراق ، وهو المفهوم من آيات هذه السورة . فمن طلب العزة من الله وصدقه في طلبها بافتقار وذل ، وسكون وخضوع ، وجدها عنده إن شاء الله غير ممنوعة ولا محجوبة عنه . قال صلى الله عليه وسلم : ( من تواضع لله رفعه الله ) . ومن طلبها من غيره وكله إلى من طلبها عنده . وقد ذكر قوما طلبوا العزة عند من سواه فقال : " الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا " {[13114]} [ النساء : 139 ] . فأنبأك صريحا لا إشكال فيه أن العزة له يعز بها من يشاء ويذل من يشاء . وقال صلى الله عليه وسلم مفسرا لقوله " من كان يريد العزة فلله العزة جميعا " : ( من أراد عز الدارين فليطع العزيز . وهذا معنى قول الزجاج . ولقد أحسن من قال :

وإذا تذللت الرقاب تواضعا *** منا إليك فعزّها في ذلها

فمن كان يريد العزة لينال الفوز الأكبر ، ويدخل دار العزة ولله العزة فليقصد بالعزة الله سبحانه والاعتزاز به ، فإنه من اعتز بالعبد أذل الله ، ومن اعتز بالله أعزه الله .

قوله تعالى : " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فيه مسألتان :

الأولى- قوله تعالى : " إليه يصعد الكلم الطيب " وتم الكلام . ثم تبتدئ " والعمل الصالح يرفعه " على معنى : يرفعه الله ، أو يرفع صاحبه . ويجوز أن يكون المعنى : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فيكون الكلام متصلا على ما يأتي بيانه . والصعود هو الحركة إلى فوق ، وهو العروج أيضا . ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض ، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله ؛ لأن موضع الثواب فوق ، وموضع العذاب أسفل . وقال الزجاج : يقال ارتفع الأمر إلى القاضي أي علمه ، فهو بمعنى العلم . وخص الكلام والطب بالذكر لبيان الثواب عليه . وقوله " إليه " أي إلى الله يصعد . وقيل : يصعد إلى سمائه والمحل الذي لا يجري فيه لأحد غيره حكم . وقيل : أي يحمل الكتاب الذي كتب فيه طاعات العبد إلى السماء . و " الكلم الطيب " هو التوحيد الصادر عن عقيدة طيبة . وقيل : هو التحميد والتمجيد ، وذكر الله ونحوه . وأنشدوا :

لا ترض من رجل حلاوةَ قوله *** حتى يُزَيِّنَ ما يقول فَعالُ

فإذا وزنت فعاله بمقاله *** فتوازنا فإخاءُ ذاك جَمالُ

وقال ابن المقفع : قول بلا عمل ، كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . وفيه قيل :

لا يكون المقال إلا بفعلٍ *** كل قول بلا فعالٍ هباءُ

إن قولا بلا فعال جميل *** ونكاحا بلا ولي سواءُ

وقرأ الضحاك " يُصعد " بضم الياء{[13115]} . وقرأ . جمهور الناس " الكلم " جمع كلمة . وقرأ أبو عبد الرحمن " الكلام " .

قلت : فالكلام على هذا قد يطلق بمعنى الكلم وبالعكس ، وعليه يخرج قول أبي القاسم : أقسام الكلام ثلاثة ، فوضع الكلام موضع الكلم ، والله أعلم .

" والعمل الصالح يرفعه " قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : المعنى والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب . وفي الحديث ( لا يقبل الله قولا إلا بعمل ، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة ) . قال ابن عباس : فإذا ذكر العبد الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ، ارتفع قوله مع عمله وإذا قال ولم يؤد فرائضه رد قوله على عمله . قال ابن عطية : وهذا قول يرده معتقد أهل السنة ولا يصح عن ابن عباس . والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه ، وله حسناته وعليه سيئاته ، والله تعالى يتقبل من كل من أتقى الشرك . وأيضا فإن الكلام الطيب عمل صالح ، وإنما يستقيم قول من يقول : إن العمل هو الرافع للكلم ، بأن يتأول أنه يزيده في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه . كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك ، إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر الله تعالى كانت الأعمال أشرف ، فيكون قوله : " والعمل الصالح يرفعه " موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال . وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها ، كالتوحيد والتسبيح فمقبولة . قال ابن العربي : " إن كلام المرء بذكر الله إن لم يقترن به عمل صالح لم ينفع ؛ لأن من خالف قوله فعله فهو وبال عليه . وتحقيق هذا : أن العمل إذا وقع شرطا في قبول القول أو مرتبطا ، فإنه لا قبول له إلا به وإن لم يكن شرطا فيه فإن كلمه الطيب يكتب له ، وعمله السيئ يكتب عليه ، وتقع الموازنة بينهما ، ثم يحكم الله بالفوز والربح والخسران " .

قلت : ما قال ابن العربي تحقيق . والظاهر أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب . وقد جاء في الآثار ( أن العبد إذا قال : لا إله إلا الله بنية صادقة نظرت الملائكة إلى عمله ، فإن كان العمل موافقا لقوله صعدا جميعا ، وإن كان عمله مخالفا وقف قوله حتى يتوب من عمله ) . فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله . والكناية في " يرفعه " ترجع إلى الكلم الطيب . وهذا قول ابن عباس وشهر بن حوشب وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية والضحاك . وعلى أن " الكلم الطيب " هو التوحيد ، فهو الرافع للعمل الصالح ؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد . أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ؛ فالكناية تعود على العمل الصالح . وروي هذا القول عن شهر بن حوشب قال : " الكلم الطيب " القرآن " والعمل الصالح يرفعه " القرآن . وقيل : تعود على الله جل وعز ، أي أن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب ؛ لأن العمل تحقيق الكلم ، والعامل أكثر تعبا من القائل ، وهذا هو حقيقة الكلام ؛ لأن الله هو الرافع الخافض . والثاني والأول مجاز ، ولكنه سائغ جائز . قال النحاس : القول الأول أولاها وأصحها لعلو من قال به ، وأنه في العربية أولى ؛ لأن القراء على رفع العمل . ولو كان المعنى : والعمل الصالح يرفعه الله ، أو العمل الصالح يرفعه{[13116]} الكلم الطيب ، لكان الاختيار نصف العمل . ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا إلا شيئا روي عن عيسى ، بن عمر أنه قال : قرأه أناس " والعمل الصالح يرفعه الله " . وقيل : والعمل الصالح يرفع صاحبه ، وهو الذي أراد العزة وعلم أنها تطلب من الله تعالى . ذكره القشيري .

الثانية- ذكروا عند ابن عباس أن الكلب يقطع الصلاة ، فقرأ هذه الآية : " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " . وهذا استدلال بعموم على مذهب السلف في القول بالعموم ، ( وقد دخل في الصلاة بشروطها ، فلا يقطعها عليه شيء إلا بثبوت ما يوجب ذلك ، من مثل ما انعقدت به من قرآن أو سنة أو إجماع ، وقد تعلق من رأى ذلك بقوله عليه السلام : ( يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود ) فقلت : ما بال الكلب الأسود من الكلب الأبيض من الكلب الأحمر ؟ فقال : ( إن الأسود شيطان ) خرجه مسلم{[13117]} . وقد جاء ما يعارض هذا ، وهو ما خرجه البخاري عن ابن أخي ابن شهاب أنه سأل عمه عن الصلاة يقطعها شيء ؟ فقال : لا يقطعها شيء ، أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم فيصلي من الليل ، وإني لمعترضة بينه وبين القبلة على فراش أهله .

قوله تعالى : " والذين يمكرون السيئات " ذكر الطبري في ( كتاب آداب النفوس ) : حدثني يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا سفيان عن ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب الأشعري في قوله عز وجل : " والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور " قال : هم أصحاب الرياء ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة . وقال أبو العالية : هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة . وقال الكلبي : يعني الذين يعملون السيئات في السيئات في الدنيا مقاتل : يعني الشرك ، فتكون " السيئات " مفعولة . ويقال : بار يبور إذا هلك وبطل . وبارت السوق أي كسدت ، ومنه : نعوذ بالله من بوار الأيم{[13118]} . وقوله : " وكنتم قوما بورا " {[13119]} [ الفتح : 12 ] أي هلكى . والمكر : ما عمل على سبيل احتيال وخديعة . وقد مضى في " سبأ " {[13120]} .


[13113]:راجع ج 8 ص 359.
[13114]:راجع ج 5 ص 416 فما بعد.
[13115]:في روح المعاني:" وقال ابن عطية: وقرأ الضحاك يصعد" بضم الياء ولم يذكر مبنيا للفاعل ولا مبنيا للمفعول، ولا إعراب ما بعده".
[13116]:في الأصول: "يرفع".
[13117]:أورد المؤلف هذا الحديث بمعناه لا بلفظه.
[13118]:الأيم: التي لا زوج لها.
[13119]:راجع ج 16 ص 269 فما بعد.
[13120]:راجع ص 302 من هذا الجزء.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلۡعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيۡهِ يَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرۡفَعُهُۥۚ وَٱلَّذِينَ يَمۡكُرُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدٞۖ وَمَكۡرُ أُوْلَـٰٓئِكَ هُوَ يَبُورُ} (10)

ولما قرر بهذا كله ما أثبته سابقاً من عزته وحكمته وثبت أنه قادر على النشور فثبت أن له العزة في الآخرة كما شوهد ذلك في الدنيا ، وكانت منافسة الناس لا سيما الكفرة في العزة فوق منافستهم في الحكمة ، ومن نافس في الحكمة فإنما ينافس فيها لاكتساب العزة ، وكان الكفرة إنما عبدوا الأوثان ليعتزوا بها كما قال :

{ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّاً }[ مريم : 81 ] قال مستنتجاً من ذلك : { من كان } أي في وقت من الأوقات { يريد العزة } أي أن يكون محتاجاً إليه غيره وهو غني عن غيره غالباً غير مغلوب { فلله } أي وحده { العزة جميعاً } أي فليطلبها منه ولا يطلبها من غيره ، فإنه لا شيء لغيره فيها ، ومن طلب الشيء من غير صاحبه خاب ؛ قال ابن الجوزي : وقد روي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز فمن أراد عزة الدارين فليطع العزيز " .

ولما رغب في اقتناص العزة بعد أن أخبر أنه لا شيء فيها لغيره ، دل على اختصاصه بها بشمول علمه وقدرته ، وبين أنها إنما تنال بالحكمة فقال : { إليه } أي لا إلى غيره { يصعد الكلم الطيب } أي الجاري على قوانين الشرع عن نية حسنة وعقيدة صحيحة سواء كان سراً أو علناً لأنه عين الحكمة ، فيعز صاحبه ويثيبه .

ولما أعلى رتبة القول الحكيم ، بين أن الفعل أعلى منه لأنه المقصود بالذات ، والقول وسيلة إليه ، فقال دالاًّ على علوه بتغيير السياق : { والعمل الصالح يرفعه } هو سبحانه يتولى رفعه ولصاحبه عنده عز منيع ونعيم مقيم ، وعمله يفوز ، قال الرازي في اللوامع : العلم إنما يتم بالعمل كما قيل : العلم يهتف بالعمل ، فإن أجاب وإلا ارتحل - انتهى ، وقد قيل :

لا ترض من رجل حلاوة قوله *** حتى يصدق ما يقول فعال

فإذا وزنت مقاله بفعاله *** فتوازنا فإخاء ذاك جمال

ولما بين ما يحصل العزة من الحكمة ، بين ما يكسب الذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة فقال : { والذين يمكرون } أي يعملون على وجه الستر المكرات { السيئات } أي يسترون قصودهم بها ليوقعوها بغتة { لهم عذاب شديد } كما أرادوا بغيرهم ذلك ، ولا يصعد مكرهم إليه بنفسه ولا يرفعه هو ، لأنه ليس فيه أهلية ذلك لمنافاته الحكمة . ولما كان ما ذكر من مكرهم موجباً لتعرف حاله هل أفادهم شيئاً ؟ أخبر أنه أهلكه بعزته ودمره بحكمته فقال : { ومكر أولئك } أي البعداء من الفلاح { هو } أي وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ويجعل له العاقبة تحقيقاً لقوله تعالى :{ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }[ الأنفال : 30 ] كما أخرجكم أيها الأولياء من بيوتكم لأجل العير فأخرج الأعداء من بيوتهم فوضعهم في قليب بدر { يبور * } أي يكسد ويفسد ويهلك ، فدل ذلك على شمول علمه للخير والشر من القول والفعل الخفي والجلي وتمام قدرته ، وذلك معنى العزة ، والآية من الاحتباك : حذف ما لصاحب العمل الصالح ودل عليه بذكر ما لعامل السيىء ، وحذف وضعه المكر السيىء ودل عليه برفعه للعمل الصالح .