وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام ، قافلة كبيرة ، . فلما سمعوا برجوعها من الشام ، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، . فخرج معه ثلاثمائة ، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا ، يعتقبون عليها ، ويحملون عليها متاعهم ، . فسمعت بخبرهم قريش ، فخرجوا لمنع عيرهم ، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال ، يبلغ عددهم قريبا من الألف .
فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين ، إما أن يظفروا بالعير ، أو بالنفير ، . فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين ، ولأنها غير ذات شوكة ، . ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا .
أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم ، . وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي : يستأصل أهل الباطل ، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم .
وقوله تعالى : { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } الآية ، في هذه الآية قصص حسن أنا اختصره إذ هو مستوعب في كتاب سيرَة رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن هشام ، واختصاره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه وقيل أوحي إليه أن أبا سفيان بن حرب قد أقبل من الشام بالعير التي فيها تجارة قريش وأموالها ، قال لأصحابه إن عير قريش قد عنت لكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها ، قال فانبعث من معه من خف ، وثقل قوم وكرهوا الخروج وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر ولا ينتظر من غاب ظهره{[5223]} ، فسار في ثلاثمائة وثلاثة عشر من أصحابه بين مهاجري وأنصاري ، وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً فلم يكثر استعدادهم ، وكان أبو سفيان في خلال ذلك يستقصي ويحذر ، فلما بلغه خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة يستفز أهلها ، ففعل ضمضم ، فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهم ، أوحى الله إليه وحياً غير متلو يعده إحدى الطائفتين ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك ، فسروا وودوا أن تكون لهم العير التي لا قتال معها ، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ طريق الساحل وأبعد ، وفات ، ولم يبق إلا لقاء أهل مكة ، وأشار بعض الكفار على بعض بالانصراف وقالوا عيرنا قد نجت فلننصرف ، فحرش{[5224]} أبو جهل ولج حتى كان أمر الوقعة ، وقال بعض المؤمنين : نحن لم نخرج لقتال ولم نستعد له ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهو بواد يسمى ذفران ، وقال أشيروا علي أيها الناس ، فقام أبو بكر فتكلم فأحسن وحرض على لقاء العدو ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فقام عمر بمثل ذلك ، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة فتكلم المقداد الكندي فقال : لا نقول لك يا رسول الله اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول إنا معكما مقاتلون .
والله لو أردت بنا برك الغماد . ( قال القاضي أبو محمد : وهي مدينة بالحبشة ) لقاتلنا معك من دونها ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ، ودعا له بخير ، ثم قال أشيروا علي أيها الناس فكلمه سعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة .
قال القاضي أبو محمد : ويمكن أنهما جميعاً تكلما في ذلك اليوم ، فقال : يا رسول الله كأنك تريدنا معشر الأنصار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أجل ، فقال إنا آمنا بك واتبعناك فامض لأمر الله ، فوالله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ، فالتقوا وكانت وقعة بدر ، وقرأ مسلمة بن محارب{[5225]} «وإذ يعدْكم » بجزم الدال ، قال أبو الفتح ذلك لتوالي الحركات ، وقرأ ابن محيصن «وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين » بوصل الألف من { إحدى } وصلة الهاء بالحاء ، و { الشوكة } عبارة عن السلاح والحدة ، ومنه قول الأعور : [ الرجز ]إن العرفج قد أدبى***{[5226]} وقرأ أبو عمرو فيما حكى أبو حاتم { الشوكة تكون } بإدغام التاء في التاء ، ومعنى الآية وتودون العير وتأبون قتال الكفار ، وقوله { ويريد الله } الآية ، المعنى ويريد الله أن يظهر الإسلام ويعلي دعوة الشرع ، وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنهم «بكلمته » على الإفراد الذي يراد به الجمع ، والمعنى في قوله { بكلماته } إما أن يريد بأوامره وأمره للملائكة والنصر لجميع ما يظهر الإسلام أن يكون ، وإما أن يريد بكلماته التي سبقت في الأزل والمعنى قريب ، و «الدابر » الذي يدبر القوم أي يأتي في آخرهم ، فإذا قطع فقد أتى على آخرهم بشرط أن يبدأ الإهلاك من أولهم ، وهي عبارة في كل من أتى الهلاك عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين} العير أو هزيمة المشركين وعسكرهم، {أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة} يعنى العير، {تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} يقول: يحقق الإسلام بما أنزل إليك، {ويقطع دابر الكافرين} يعني أصل الكافرين ببدر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: واذكروا أيها القوم "إذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ "يعني: إحدى الفرقتين، فرقة أبي سفيان بن حرب والعير، وفرقة المشركين الذين نفروا من مكة لمنع عيرهم. وقوله: "أنّها لَكُمْ" يقول: إن ما معهم غنيمة لكم. "وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوْكَة تَكُونُ لَكُمْ" يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة، يقول: ليس لها حدّ ولا فيها قتال أن تكون لكم، يقول: تودّون أن تكون لكم العير التي ليس فيها قتال لكم دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم الذين في لقائهم القتال والحرب...
"ويُرِيدُ اللّهُ أنْ يُحِقّ الحَقّ بكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ"
يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحقّ الإسلام ويعليه بكلماته، يقول: بأمره إياكم أيها المؤمنون بقتال الكفار، وأنتم تريدون الغنيمة والمال.
وقوله: "وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافِرِينَ" يقول: يريد أن يجبّ أصل الجاحدين توحيد الله. وقد بيّنا فيما مضى معنى دابر، وأنه المتأخر، وأن معنى قطعه الإتيان على الجميع منهم... هذا خير لكم من العير... أي الوقعة التي أوقع بصناديد قريش وقادتهم يوم بدر.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي غير ذات الحرب وهي العير لأن نفوسهم في لقائها أسكن، وهم إلى ما فيها من الأموال أحوج. وفي الشوكة التي كُني بها عن الحرب وجهان: أحدهما:
أنها الشدة فكُني بها عن الحرب لما فيها من الشدة، وهذا قول قطرب.
والثاني: أنها السلاح، وكُني بها عن الحرب لما فيها من السلاح، من قولهم رجل شاكٍ في السلاح، قاله ابن قتيبة. {وَيُريدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} فيه قولان:
أحدهما: إظهار الحق بإعزاز الدين في وقته على ما تقدم من وعده.
والثاني: أن الحق في أمره لكم أن تجاهدوا عدوكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن يُحِقَّ الحَقَّ} أن يثبته ويعليه {بكلماته} بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر: الآخر... وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} أي وتحبون وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير تكون لكم لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا. والشوكة الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح، ثم أطلقوها تجوزا على كل حديد من السلاح، فقالوا: شائك السلاح وشاكي السلاح. وإنما عبر عنها بهذا التعبير للتعريض بكراهتهم للقتال، وطمعهم في المال. {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يحق الحق الذي أراده بكلماته المنزلة على رسوله أي وعده لكم إحدى الطائفتين مبهمة وبيانها له معينة مع ضمان النصر له {ويقطع دابر الكافرين} المعاندين له من مشركي مكة وأعوانهم باستئصال شأفتهم ومحق قوتهم، فإن دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم، ولن يصل إليه الهلاك إلا بهلاك من قبله من الجيش، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة، وما تخلل ذلك من نيلهم من المؤمنين في أحد وحنين فإنما كان تربية على ذنوب لهم اقترفوها كما قال تعالى في الأولى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165] إلى أن قال: {وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} [آل عمران: 141] وقال في الثانية: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} إلى قوله {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [التوبة: 26] الخ
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وقوله: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته}... والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم. فهذا تلطف من الله بهم. والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات. فهذا كقوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} [البقرة: 185] أي يسَّر بكم. ومعنى {يُحق الحق}: يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال: حق الشيء، إذا ثبت قال تعالى: {أفمن حَق عليه كلمة العذاب} [الزمر: 19]. والمراد بالحق. هنا: دين الحق وهو الإسلام، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله: {حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ} [الزخرف: 29] الآية. وإحقاقه باستيصال معانديه، فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً، وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل. والله يعلم وأنتم لا تعلمون...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}...
في هذا التعبير إشارة إلى معنى من معاني العتب، وتنبيه إلى أن الواجب هو طلب القوة، لمن كان المشركون يستضعفونهم، فيبدل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن استضعافهم قوة، وتمكينا في الأرض؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}. عبر الله تعالى بقوله يودون في جانبهم، وعبر بقوله {يريد الله} دون (يود) للإشارة إلى أن ذلك من جانب الله إرادة، وإرادة الله نافذة وهي المصلحة وهي الخير، وكان التعبير في جانبهم بقوله: {وتودون} للإشارة إلى انه مجرد ود، ولم يصر إرادة، وكيف يريدون ما لم يرد اله تعالى، وكيف وهم المؤمنون حقا وصدقا، وإرادة الله إعلاء لهم، وميلهم ميل إلى ما هو أدنى.
...الوعد من القادر القوي، الذي لا تقف عراقيل أمام إنفاذ ما يريد، هو وعد حق ويجب أن يتلقوا هذا الوعد على أنه حق...
والشوكة هي شيء محدد من طرف تحديدا ينفذ بسهولة من غيره، وأنت تجد الشوكة مدببة رفيعة من الطرف ثم يزداد عرضها من أسفلها ليتناسب الغِلْظُ مع القاعدة لتنفذ باتساع. وذات الشوكة أي الفئة القوية التي تنفذ إلى الغرض المرادَ، ولا يتأبى عليها غرض، ولذلك يقال "شاكي السلاح". فإن كنتم تتمنون وتريدون عدم ملاقاة جيش الكفار في معركة فالمولى عز وجل يقول لكم {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين}. أي أن الله تعالى يريد أن ينصر الإسلام بقوة ضئيلة ضعيفة بغير عتاد على جيش قوي فيعرفون أن ربنا مؤيدهم، وبذلك يحق الحق بكلماته أي بوعده. وهناك الكلمة من الله التي قال فيها: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} (من الآية 137 من سورة الأعراف). هكذا كان وعد الله الذي تحقق، {ويقطع دابر الكافرين}، والدابر والدُّبرُ هي الخلف، وتقول: "قطعت دابره "أي لم أجعل له خلفا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
درسٌ قرآنيّ في كيفية الاستعداد للقتال: وهكذا نعرف من خلال ذلك، أن الاستعداد للقتال لم يكن منسجماً مع الحالة النفسية الكارهة للقتال، المحبّة للسلامة. وتلك هي نقطة الضعف الكامنة في الداخل، التي كانت تستيقظ في بعض الحالات، لتثير فيهم نوعاً من التردُّد والاهتزاز الذي لا يلبث إلاّ قليلاً، ثم يفعل الإيمان فعله، ليثبِّت المؤمنين ويقودهم إلى المسيرة الظافرة في طريق الجهاد والشهادة. وهكذا يثير القرآن في آياته الأجواء الذاتية في داخل المسلمين وخارجهم، فيحدّثنا عن نقاط الضعف، في حديث توعيةٍ وتنبيهٍ وتحذير، من أجل مراقبة ذلك كلّه في أنفسنا، لنواجه حالات الاهتزاز الداخلي والخارجي بالمزيد من عوامل التركيز والتثبيت، فإن الإنسان الذي لا يكتشف نقاط ضعفه، لا يستطيع تنمية عناصر قوته، لأن الهروب من وعي المشكلة لا يهزمها، بل يعقّدها ويشلُّ فيها إمكانية الحلّ... وهذا هو السبيل الذي يريد الإسلام للمسلم أن يسير فيه: أن يواجه الواقع كما هو، فيعترف بسلبياته وإيجابياته. ثم يعالج السلبيات من مواقع الإيجابيات، لينتهي إلى النصر والفلاح من موقع المواجهة القوية، بكل ما تستلزمه من آلام وتضحيات، لأن ذلك هو الوسيلة الفعلية لإحقاق الحق وتحويله إلى قوةٍ متحركة في الواقع. إرادة الله تعالى إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} ويثبّته بوحيه وسننه في الكون، ليكون هو المهيمن على حركة الحياة، وتكون قيادته الرسولية هي الحاكمة لها في كلّ خطوط السير. {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} ويستأصلهم باستئصال قوّتهم العسكرية والسياسية، ويهدم عنادهم وكبرياءهم، ويهزم كل مواقع التحدي التي يواجهون بها المسلمين. ولا بدّ للوصول إلى هذا الهدف، من معارك ضارية يقف فيها المسلمون في خط المواجهة للكافرين المعتدين، لأن القوة لا بد من أن تجابه بالقوة، كما أن عملية النصر ليست دعاءً يدعو به الداعون في مواقف الخشوع في الصلاة، وليست تمنياتٍ يحلم بها الحالمون في ما يعيشونه من أحلام اليقظة والمنام، بل هي موقف صمودٍ وصبرٍ وهجومٍ ودفاعٍ ومواقف للتحدّي المضاد الذي يرد التحديات ويواجهها بتحدّياتٍ مماثلة، فإذا عاش الإنسان حالة الضعف قليلاً في تلك المواقع، كان الدعاء سبيل قوّة روحية يستمدها من ارتباطه بالله، وكان النصر حلماً روحياً يتحرك في خط الواقع وحركته، في تطلّعٍ خاشع نحو الغيب القادم من لطف الله ورحمته.