تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ } من حيوان ناطق وغير ناطق ومن أشجار ونبات وجامد وحي وميت { إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } بلسان الحال ولسان المقال . { وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي : تسبيح باقي المخلوقات التي على غير لغتكم بل يحيط بها علام الغيوب .

{ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } حيث لم يعاجل بالعقوبة من قال فيه قولا تكاد السماوات والأرض تتفطر منه وتخر له الجبال ولكنه أمهلهم وأنعم عليهم وعافاهم ورزقهم ودعاهم إلى بابه ليتوبوا من هذا الذنب العظيم ليعطيهم الثواب الجزيل ويغفر لهم ذنبهم ، فلولا حلمه ومغفرته لسقطت السماوات على الأرض ولما ترك على ظهرها من دابة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

40

ثم يرسم السياق للكون كله بما فيه ومن فيه مشهدا فريدا ، تحت عرش الله ، يتوجه كله إلى الله ، يسبح له ويجد الوسيلة إليه :

( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، إنه كان حليما غفورا ) . .

وهو تعبير تنبض به كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتنتفض روحا حية تسبح الله . فإذا الكون كله حركة وحياة ، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة شجية رخية ، ترتفع في جلال إلى الخالق الواحد الكبير المتعال .

وإنه لمشهد كوني فريد ، حين يتصور القلب . كل حصاة وكل حجر . كل حبة وكل ورقة . كل زهرة وكل ثمرة . كل نبتة وكل شجرة . كل حشرة وكل زاحفة . كل حيوان وكل إنسان . كل دابة على الأرض وكل سابحة في الماء والهواء . . ومعها سكان السماء . . كلها تسبح الله وتتوجه إليه في علاه .

وإن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه ومما لا يراه ، وكلما همت يده أن تلمس شيئا ، وكلما همت رجله أن تطأ شيئا . . سمعه يسبح لله ، وينبض بالحياة .

( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) يسبح بطريقته ولغته ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) لا تفقهونه لأنكم محجوبون بصفاقة الطين ، ولأنكم لم تتسمعوا بقلوبكم ، ولم توجهوها إلى أسرار الوجود الخفية ، وإلى النواميس التي تنجذب إليها كل ذرة في هذا الكون الكبير ، وتتوجه بها إلى خالق النواميس ، ومدبر هذا الكون الكبير .

وحين تشف الروح وتصفو فتتسمع لكل متحرك أو ساكن وهو ينبض بالروح ، ويتوجه بالتسبيح ، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى ، وتدرك من أسرار هذا الوجود ما لا يدركه الغافلون ، الذين تحول صفاقة الطين بين قلوبهم وبين الحياة الخفية الساربة في ضمير هذا الوجود ، النابضة في كل متحرك وساكن ، وفي كل شيء في هذا الوجود .

( إنه كان حليما غفورا ) . . وذكر الحلم هنا والغفران بمناسبة ما يبدو من البشر من تقصير في ظل هذا الموكب الكوني المسبح بحمد الله ، بينما البشر في جحود وفيهم من يشرك بالله ، ومن ينسب له البنات ، ومن يغفل عن حمده وتسبيحه . والبشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد والمعرفة والتوحيد . ولولا حلم الله وغفرانه لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر . ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم ويزجرهم ( إنه كان حليما غفورا ) .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبۡعُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ وَإِن مِّن شَيۡءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمۡدِهِۦ وَلَٰكِن لَّا تَفۡقَهُونَ تَسۡبِيحَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ حَلِيمًا غَفُورٗا} (44)

وقوله تعالى : { تسبح له السماوات } الآية ، المعنى ينزهه عن هذه المقالة التي لكم ، والاشتراك الذي أنتم بسبيله ، { السماوات السبع والأرض } ، ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل العاقل ، وهو التسبيح ، وقوله { من فيهن } يريد الملائكة والإنس والجن ، ثم عم بعد ذلك الأشياء كلها ، في قوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } أي ينزه الله ويحمده ويمجده ، واختلف أهل العلم في التسبيح ، فقالت فرقة هو تجوز ، ومعناه إن كل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر ، ومن حجة هذا التأويل قوله تعالى : { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي }{[7583]} وقالت فرقة { من شيء } لفظ عموم ، ومعناه الخصوص في كل حي ونام ، وليس ذلك في الجمادات البحتة ، فمن هذا قول عكرمة : الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح ، وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام ، وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال قد كان يسبح مرة ، يريد أن الشجرة في زمان نموها واغتذائها تسبح ، فمذ صارت خواناً مدهوناً أو نحوه صارت جماداً ، وقالت فرقة : هذا التسبيح حقيقة ، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحاً لا يسمعه البشر ولا يفقهه ، ولو كان التسبيح ما قاله الآخرون من أنه أثر الصنعة لكان أمراً مفقوهاً ، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه .

قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يراد بقوله { لا تفقهون } الكفار والغفلة ، أي إنهم يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله تعالى في الأشياء وقال الحسن : بلغني أن معنى هذه الآية في التوراة ذكر فيه ألف شيء مما يسبح سبحت له السماوات ، سبحت له الأرض ، سبح كذا ، سبح كذا ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : «يسبح له » بالياء ، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي «تسبح » بالتاء ، والقراءتان حسنتان ، وقرأ عبد الله بن مسعود وطلحة والأعمش «سبحت له السماوات » ، وقوله { إنه كان حليماً غفوراً } فيه تنبيه على إملائه لهم وصفحه عنهم في الدنيا وإمهاله لهم مع شنيع هذه المقالة ، أي تقولون قولاً ينزهه عنه كل شيء من المخلوقات ، { إنه كان حليماً غفوراً } فلذلك أمهلكم .


[7583]:من الآية (18) من سورة (ص).