تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل الله ويستعينون بها على إطفاء نور الله ، بأنها تبطل وتضمحل ، كمن زرع زرعا يرجو نتيجته ويؤمل إدراك ريعه ، فبينما هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر ، أي : برد شديد محرق ، فأهلكت زرعه ، ولم يحصل له إلا التعب والعناء وزيادة الأسف ، فكذلك هؤلاء الكفار الذين قال الله فيهم : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } { وما ظلمهم الله } بإبطال أعمالهم { ولكن } كانوا { أنفسهم يظلمون } حيث كفروا بآيات الله وكذبوا رسوله وحرصوا على إطفاء نور الله ، هذه الأمور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت بأموالهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

93

إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة ! تحرق هذا الحرث بما فيها من صر . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف ، فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب !

إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب ! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .

( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) .

فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر ، فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا . له هدف مرسوم ، وله دافع مفهوم ، وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة ، والرغبة الغامضة ، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .

هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار ، فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم . إنما هو ظلمهم لأنفسهم ، بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .

وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان ؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

{ مثل ما ينفقون } ما ينفق الكفرة قربة ، أو مفاخرة وسمعة ، أو المنافقون رياء أو خوفا . { في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر } برد شديد والشائع إطلاقه للريح الباردة كالصرر فهو في الأصل مصدر نعت به أو نعت وصف به البرد للمبالغة كقولك برد بارد . { أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي { فأهلكته } عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد ، والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة ، وهو من التشبيه المركب ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه للريح دون الحرث ، ويجوز أن يقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث . { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } أي ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم لما لم ينفقوها بحيث يعتد بها ، أو ما ظلم أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة . وقرئ { ولكن } أي ولكن أنفسهم يظلمونها ، ولا يجوز أن يقدر ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في ضرورة الشعر كقوله :

وما كنت ممن يدخل *** العشق قلبه ولكن من يبصر جفونك يعشق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

استئناف بياني لأن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم . . . } الخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى .

ضَرَبَ لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلاً ، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرُها ، المخيِّبِ آخِرُها ، حين يحبطها الكفر ، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته ، تشبيه المعقول بالمحسوس . ولمَّا كان التَّشبيه تمثيلياً لم يُتَوخ فيه مُوالاةُ ما شبّه به إنفاقهم لأداةِ التَّمثيل ، فقيل : كمثل ريح ، ولم يُقل : كمثل حَرْث قوم .

والكلام على الريح تقدّم عند قوله تعالى { إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في سورة [ البقرة : 164 ] .

( والصّر : البرْد الشّديد المميت لكلّ زرع أو ورق يهبّ عليه فيتركه كالمحترق ، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصرّ على الرّيح الشّديد البرْد وإنَّما الصرّ اسم البرد . وأمّا الصرصر فهو الرسح الشديدة وقد تكون باردة . ومعنى الآية غني عن التأويل ، وجوز في > أن يكون الصرّ هنا اسماً للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر . وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الاطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب .

وفي قوله { فيها صرّ } إفادة شدّة برد هذه الريح ، حتَّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها ، وهي تحمله إلى الحرث .

والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول : أي محروثَ قوم أي أرضاً محروثة والمراد أصابت زرعَ حرث . وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى { والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] في أول السورة .

وقوله { ظلموا أنفسهم } إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعاً وتشويهاً وليس جُزءاً من الهيئة المشبّه بها . وقد يذكر البلغاء مع المُشَبَّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير :

شُجَّت بذي شبم من ماء مَحْنيَة *** صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمول

تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفرطهُ *** من صَوْب سَارِيَةٍ بيــض يعاليل

فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه .

والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة ، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة ، وجيء بقوله { مثل ما ينفقون } غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله { لن تغني عنهم أموالهم } .

وقوله { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا . والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك ، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطاً في قبول الأعمال ، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم ، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه .