{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا }
هذه الحالة أفضل أحوال العبد ، أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله من الجهاد وغيره ، ويحرض غيره عليه ، وقد يعدم في العبد الأمران أو أحدهما فلهذا قال لرسوله : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } أي : ليس لك{[217]} قدرة على غير نفسك ، فلن تكلف بفعل غيرك . { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } على القتال ، وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط المؤمنين وقوة قلوبهم ، من تقويتهم والإخبار بضعف الأعداء وفشلهم ، وبما أُعد للمقاتلين من الثواب ، وما على المتخلفين من العقاب ، فهذا وأمثاله كله يدخل في التحريض على القتال .
{ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بقتالكم في سبيل الله ، وتحريض بعضكم بعضًا . { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا } أي : قوة وعزة { وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا } بالمذنب في نفسه ، وتنكيلا لغيره ، فلو شاء تعالى لانتصر من الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية .
ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد ، ويحصل الإيمان النافع ، إيمان الاختيار ، لا إيمان الاضطرار والقهر الذي لا يفيد شيئا .
وحين يصل السياق إلى هذا الحد من تقويم عيوب الصف ؛ التي تؤثر في موقفه في الجهاد وفي الحياة - ومنذ أول الدرس وهذا التقويم مطرد لهذه العيوب - عندئذ ينتهي إلى قمة التحضيض على القتال الذي جاء ذكره في ثنايا الدرس . قمة التكليف الشخصي ، الذي لا يقعد الفرد عنه تبطئة ولا تخذيل ، ولا خلل في الصف ، ولا وعورة في الطريق . حيث يوجه الخطاب إلى الرسول [ ص ] بأن يقاتل - ولو كان وحيدا - فإنه لا يحمل في الجهاد إلا تبعة شخصه [ ص ] وفي الوقت ذاته يحرض المؤمنين على القتال . . وكذلك يوحي إلى النفوس بالطمأنينة ورجاء النصر : فالله هو الذي يتولى المعركة . والله أشد بأسا وأشد تنكيلا :
( فقاتل في سبيل الله - لا تكلف إلا نفسك - وحرض المؤمنين . عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا . والله أشد بأسا وأشد تنكيلا ) . .
ومن خلال هذه الآية - بالإضافة إلى ما قبلها - تبرز لنا ملامح كثيرة في الجماعة المسلمة يومذاك . كما تبرز لنا ملامح كثيرة في النفس البشرية في كل حين :
" أ " يبرز لنا مدى الخلخلة في الصف المسلم ؛ وعمق آثار التبطئة والتعويق والتثبيط فيه ؛ حتى لتكون وسيلة الاستنهاض والاستجاشة ، هي تكليف النبي [ ص ] أن يقاتل في سبيل الله - ولو كان وحده - ليس عليه إلا نفسه ؛ مع تحريض المؤمنين . غير متوقف مضيه في الجهاد على استجابتهم أو عدم استجابتهم ! ولو أن عدم استجابتهم - جملة - أمر لا يكون . ولكن وضع المسألة هذا الوضع يدل على ضرورة إبراز هذا التكليف على هذا النحو ؛ واستجاشة النفوس له هذه الاستجاشة . فوق ما يحمله النص - طبعا - من حقيقة أساسية ثابتة في التصور الإسلامي . وهي أن كل فرد لا يكلف إلا نفسه . .
" ب " كما يبرز لنا مدى المخاوف والمتاعب في التعرض لقتال المشركين يومذاك . . حتى ليكون أقصى ما يعلق الله به رجاء المؤمنين : أن يتولى هو سبحانه كف بأس الذين كفروا ؛ فيكون المسلمون ستارا لقدرته في كف بأسهم عن المسلمين . . مع إبراز قوة الله - سبحانه - وأنه أشد بأسا وأشد تنكيلا . . وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوة بأس الذين كفروا يومذاك ؛ والمخاوف المبثوثة في الصف المسلم . . وربما كان هذا بين أحد والخندق . فهذه أحرج الأوقات التي مرت بها الجماعة المسلمة في المدينة ؛ بين المنافقين ، وكيد اليهود ، وتحفز المشركين ! وعدم اكتمال التصور الإسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين !
" ج " كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشرية ؛ وهي تدفع إلى التكاليف التي تشق عليها ، إلى شدة الارتباط بالله ؛ وشدة الطمأنينة إليه ؛ وشدة الاستعانة به ؛ وشدة الثقة بقدرته وقوته . . فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي حين يبلغ الخطر قمته . وهذه كلها حقائق يستخدمها المنهج الرباني ؛ والله هو الذي خلق هذه النفوس . وهو الذي يعلم كيف تربى وكيف تقوى وكيف تستجاش وكيف تستجيب . .
{ فقاتل في سبيل الله } أن تثبطوا وتركوك وحدك . { لا تكلف إلا نفسك } إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم ، فتقدم إلى الجهاد وإن لم يساعدك أحد فإن الله ناصرك لا الجنود . روي ( أنه عليه الصلاة والسلام دعا الناس في بدر الصغرى إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت . فخرج صلى الله عليه وسلم وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ) . وقرئ لا { تكلف } بالجزم ، و " لا نكلف " بالنون على بناء الفاعل أي لا نكلفك إلا فعل نفسك ، لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك لقوله : { وحرض المؤمنين } على القتال إذ ما عليك في شأنهم إلا التحريض { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } يعني قريشا ، وقد فعل بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا . { والله أشد بأسا } من قريش . { وأشد تنكيلا } تعذيبا منهم ، وهو تقريع وتهديد لمن لم يتبعه .
هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي عليه السلام وحده ، لكن لم نجد قط في خبر أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة مدة ما ، المعنى - والله أعلم - أنه خطاب للنبي عليه السلام في اللفظ ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه ، أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له { قاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك } ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد ولو وحده ، ومن ذلك قول النبي عليه السلام «والله لأقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي »{[4170]} وقول أبي بكر وقت الردة : «ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي » ، وخلط قوم في تعلق الفاء من قوله { فقاتل } بما فيه بعد{[4171]} ، والوجه أنها عاطفة جملة كلام على جملة ، وهي دالة على اطراح غير ما أمر به ، ثم خص النبي عليه السلام بالأمر بالتحريض أي الحث على المؤمنين في القيام بالفرض الواجب عليهم . و { عسى } إذا وردت من الله تعالى فقال عكرمة وغيره : إنها واجبة ، لأنها من البشر متوقعة مرجوة ففضل الله تعالى يوجب وجوبها ، وفي هذا وعد للمؤمنين بغلبتهم للكفرة ، ثم قوى بعد ذلك ، قلوبهم بأن عرفهم شدة بأس الله ، وأنه أقدر على الكفرة ، { وأشد تنكيلاً } لهم ، التنكيل : الأخذ بأنواع العذاب وترديده عليهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.