تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

{ 113 - 114 } { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ }

يعني : ما يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به { أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ْ } أي : لمن كفر به ، وعبد معه غيره { وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ْ } فإن الاستغفار لهم في هذه الحال غلط غير مفيد ، فلا يليق بالنبي والمؤمنين ، لأنهم إذا ماتوا على الشرك ، أو علم أنهم يموتون عليه ، فقد حقت عليهم كلمة العذاب ، ووجب عليهم الخلود في النار ، ولم تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، ولا استغفار المستغفرين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

111

والمؤمنون الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، أمة وحدهم ، العقيدة في اللّه بينهم هي وشيجة الارتباط والتجمع الوحيدة . وهذه السورة التي تقرر العلاقات الأخيرة بين الجماعة المسلمة ومن عداها ، تحسم في شأن العلاقات التي لا تقوم على هذه الوشيجة . وبخاصة بعد ذلك التخلخل الذي أنشأه التوسع الأفقي الشديد في المجتمع المسلم عقب فتح مكة ، ودخول أفواج كثيرة في الإسلام لم يتم انطباعها بطابعه ؛ وما تزال علاقات القربى عميقة الجذور في حياتها . والآيات التالية تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا تلك البيعة وبين من لم يدخلوا معهم فيها - ولو كانوا أولي قربى - بعد ما اختلفت الوجهتان واختلفت العاقبتان في الدنيا والآخرة :

( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - ولو كانوا أولي قربى - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه ، إن إبراهيم لأواه حليم . وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، إن اللّه بكل شيء عليم . إن اللّه له ملك السماوات والأرض ، يحيي ويميت ، وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير )

والظاهر أن بعض المسلمين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين ويطلبون إلى رسول اللّه - [ ص ] - أن يستغفر لهم ؛ فنزلت الآيات تقرر أن في هذا الاستغفار بقية من تعلق بقرابات الدم ، في غير صلة باللّه ، لذلك ما كان للنبي والذين آمنوا أن يفعلوه . . ما كان لهم قطعاً وليس من شأنهم أصلاً . . أما كيف يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، فالأرجح أن يكون ذلك بموتهم على الشرك ، وانقطاع الرجاء من أن تكون لهم هداية إلى الإيمان .

إن العقيدة هي العروة الكبرى التي تلتقي فيها سائر الأواصر البشرية والعلاقات الإنسانية . فإذا انبتَّت وشيجة العقيدة انبتَّت الأواصر الأخرى من جذورها ، فلا لقاء بعد ذلك في نسب ، ولا لقاء بعد ذلك في صهر . ولا لقاء بعد ذلك في قوم . ولا لقاء بعد ذلك في أرض . . إما إيمان باللّه فالوشيجة الكبرى موصولة ، والوشائج الأخرى كلها تنبع منها وتلتقي بها . أو لا إيمان فلا صلة إذن يمكن أن تقوم بين إنسان وإنسان :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

{ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } روي : أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة : " قل كلمة أحتاج لك بها عند الله " فأبى فقال عليه الصلاة والسلام : " لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه " فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال : " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين " . { ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } بأن ماتوا على الكفر ، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم فإنه طلب توفيقهم للإيمان وبه دفع النقيض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه الكفار فقال : { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن يَسۡتَغۡفِرُواْ لِلۡمُشۡرِكِينَ وَلَوۡ كَانُوٓاْ أُوْلِي قُرۡبَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَحِيمِ} (113)

وقوله تعالى { ما كان للنبي } الآية ، يقتضي التأنيب ومنع الاستغفار للمشركين مع اليأس عن إيمانهم إما بموافاتهم على الكفر وموتهم ، ومنه قول عمر بن الخطاب في العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً ، وإما بنص من الله تعالى على أحد كأبي لهب وغيره فيمتنع الاستغفار له وهو حي ، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية فقال الجمهور ومداره على ابن المسيب وعمرة بن دينار ، نزلت في شأن أبي طالب ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليه حين احتضر ووعظه وقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله تعالى ، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أمية ، فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملك عبد المطلب ، فقال أبو طالب : يا محمد والله لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب ، ومات على ذلك ، إذ لم يسمع منه النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله للعباس ، فنزلت :

{ إنك لا تهدي من أحببت }{[5934]} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستغفار لأبي طالب{[5935]} ، وروي أن المؤمنين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك دخلوا في التأنيب والنهي .

والآية على هذا ناسخة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ أفعاله في حكم الشرع المستقر وقال فضيل بن عطية وغيره : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة أتى قبر أمه فوقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار لها ، فلم يؤذن له فأخبر أصحابه أنه أذن له في زيارة قبرها ، ومنع أن يستغفر لها ، فما رئي باكياً أكثر من يومئذ ، ونزلت الآية في ذلك{[5936]} وقالت فرقة : إنما نزلت بسبب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين : والله لأزيدن على السبعين{[5937]} ، وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : إنما نزلت بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه فنزلت الآية في ذلك{[5938]} ، وعلى كل حال ففي ورود النهي عن الاستغفار للمشركين موضع اعتراض بقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه ، فنزل رفع ذلك الاعتراض في الآية التي بعدها ، وقوله { من بعد ما تبين } يريد من بعد الموت على الكفر فحينئذ تبين أنهم أصحاب الجحيم أي سكانها وعمرتها ، والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ومن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنه رحم الله رجلاً استغفر لأبي هريرة ولأمه ، قيل له ولأبيه قال : لا ، إن أبي مات كافراً ، وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار ها هنا يراد به الصلاة .


[5934]:- من الآية (56) من سورة (القصص).
[5935]:- أخرجه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن سعيد ابن المسيب. (الدر المنثور).
[5936]:-روى ابن جرير عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب، ثم قام مستعبرا، فقلنا: يا رسول الله إنا رأينا ما صنعت، قال: (إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي)، فما رؤي باكيا أكثر من يومئذ، وروى مثله ابن حاتم عن ابن مسعود، وكذلك روى الطبراني عن عكرمة عن ابن عباس مثله في حديث طويل جاء فيه أنه صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة تبوك اعتمر، فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم فذهب فنزل على قبر أمه***وفي آخر الحديث: (دعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربع، فرفع عنهم اثنتين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين، دعوت ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وألا يلبسهم شيعا وألا يُذيق بعضهم بأس بعض، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبي أن يرفع عنهم القتل والهرج". (الدر المنثور، وتفسير ابن كثير).
[5937]:- سبق الاستشهاد بهذا الحديث عند تفسير قوله تبارك وتعالى في الآية (80) من هذه السورة: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم}.
[5938]:- أخرج مثله ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن محمد بن كعب. (الدر المنثور).