{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالمن والأذى ففيه أن المن والأذى يبطل الصدقة ، ويستدل بهذا على أن الأعمال السيئة تبطل الأعمال الحسنة ، كما قال تعالى : { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } فكما أن الحسنات يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات ، وفي هذه الآية مع قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } حث على تكميل الأعمال وحفظها من كل ما يفسدها لئلا يضيع العمل سدى ، وقوله : { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } أي : أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله في ابتداء الأمر ، فإن المنة والأذى مبطلان لأعمالكم ، فتصير أعمالكم بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ولا يريد به الله والدار الآخرة ، فهذا لا شك أن عمله من أصله مردود ، لأن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا في الحقيقة عمل للناس لا لله ، فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور ، فمثله المطابق لحاله { كمثل صفوان } وهو الحجر الأملس الشديد { عليه تراب فأصابه وابل } أي : مطر غزير { فتركه صلدا } أي : ليس عليه شيء من التراب ، فكذلك حال هذا المرائي ، قلبه غليظ قاس بمنزلة الصفوان ، وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان ، إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات ، فإذا انكشفت حقيقة حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب ، وأن قلبه غير صالح لنبات الزرع وزكائه عليه ، بل الرياء الذي فيه والإرادات الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله ، فلهذا { لا يقدرون على شيء } من أعمالهم التي اكتسبوها ، لأنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها لمخلوق مثلهم ، لا يملك لهم ضررا ولا نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم عبادته ، فصرف الله قلوبهم عن الهداية ، فلهذا قال : { والله لا يهدي القوم الكافرين }
وعندما يصل التأثر الوجداني غايته . . بعد استعراض مشهد الحياة النامية الواهبة مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، دون أن يتبعوا ما أنفقوا منا ولا أذى ، وبعد التلويح بأن الله غني عن ذلك النوع المؤذي من الصدقة ، وأنه وهو الواهب الرازق لا يعجل بالغضب والأذى . . عندما يصل التأثر الوجداني غايته بهذا وذاك ، يتوجه بالخطاب إلى الذين آمنوا ألا يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى . ويرسم لهم مشهدا عجيبا - أو مشهدين عجيبين يتسقان مع المشهد الأول . مشهد الزرع والنماء . ويصوران طبيعة الإنفاق الخالص لله ، والإنفاق المشوب بالمن والأذى . على طريقة التصوير الفني في القرآن ، التي تعرض المعنى صورة ، والأثر حركة ، والحالة مشهدا شاخصا للخيال :
( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ، كالذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ فمثله كمثل صفوان عليه تراب ، فأصابه وابل ، فتركه صلدا ؛ لا يقدرون على شيء مما كسبوا ، والله لا يهدي القوم الكافرين . ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة . أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ؛ فإن لم يصبها وابل فطل ، والله بما تعملون بصير ) . .
مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلا ووضعا وثمرة . وفي كل منظر جزئيات ، يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض ؛ ويتسق كذلك مع ما يمثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها .
نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد :
( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) . .
فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته . ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء .
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله ( صفوان عليه تراب )حجر لا خصب فيه ولا ليونة ، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين ، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان . .
( فأصابه وابل فتركه صلدا ) . .
وذهب المطر الغزير بالتراب القليل ! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته ، ولم ينبت زرعه ، ولم يثمر ثمرة . . كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس ، فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة !
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } لا تحبطوا أجرها بكل واحد منهما . { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } كإبطال المنافق الذي يرائي بإنفاقه ولا يريد به رضا الله تعالى ولا ثواب الآخرة ، أو مماثلين الذي ينفق رئاء الناس ، والكاف في محل النصب على المصدر أو الحال ، و{ رئاء } نصب على المفعول له أو الحال بمعنى مرائيا أو المصدر أي إنفاق { رئاء } . { فمثله } أي فمثل المرائي في إنفاقه . { كمثل صفوان } كمثل حجر أملس . { عليه تراب فأصابه وابل } مطر عظيم القطر . { فتركه صلدا } أملس نقيا من التراب . { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا ، والضمير للذي ينفق باعتبار المعنى لأن المراد به الجنس ، أو الجمع كما في قوله :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد
{ والله لا يهدي القوم الكافرين } إلى الخير والرشاد ، وفيه تعريض بأن الرئاء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمن أن يتجنب عنها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.