تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

{ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ }

يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات الواجبة والمستحبة ، ومن التعريض لإتلافها في سبيل الله ، وفي أنفسهم من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس ، كالجهاد في سبيل الله ، والتعرض فيه للتعب والقتل والأسر والجراح ، وكالأمراض التي تصيبه في نفسه ، أو فيمن يحب .

{ ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، ومن الذين أشركوا أذى كثيرا } من الطعن فيكم ، وفي دينكم وكتابكم ورسولكم .

وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك ، عدة فوائد :

منها : أن حكمته تعالى تقتضي ذلك ، ليتميز المؤمن الصادق من غيره .

ومنها : أنه تعالى يقدر عليهم هذه الأمور ، لما يريده بهم من الخير ليعلي درجاتهم ، ويكفر من سيئاتهم ، وليزداد بذلك إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فإنه إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما }

ومنها : أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك ، والصبر عليه إذا وقع ؛ لأنهم قد استعدوا لوقوعه ، فيهون عليهم حمله ، وتخف عليهم مؤنته ، ويلجأون إلى الصبر والتقوى ، ولهذا قال : { وإن تصبروا وتتقوا } أي : إن تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم ، من الابتلاء والامتحان وعلى أذية الظالمين ، وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب إليه ، ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع لا يحل لكم فيه الاحتمال ، بل وظيفتكم فيه الانتقام من أعداء الله .

{ فإن ذلك من عزم الأمور } أي : من الأمور التي يعزم عليها ، وينافس فيها ، ولا يوفق لها إلا أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى : { وما يلقاها إلا الذين صبروا ، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

180

وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس . عندما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل . . عندئذ يحدث الله المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس . وقد استعدت نفوسهم للبلاء :

( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ، ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .

إنها سنة العقائد والدعوات . لا بد من بلاء ، ولا بد من أذى في الأموال والأنفس ، ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام .

إنه الطريق إلى الجنة . وقد حفت الجنة بالمكاره . بينما حفت النار بالشهوات .

ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره ، لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة ، وتنهض بتكاليفها . طريق التربية لهذه الجماعة ؛ وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال . وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف ؛ والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة .

ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا . فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها . فهم عليها مؤتمنون .

وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو ، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء ، وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال . فلا يفرطوا فيها بعد ذلك ، مهما تكن الأحوال .

وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة . فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة ، وتنميها وتجمعها وتوجهها . والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى لتتأصل جذورها وتتعمق ؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة . .

وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم ؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية . ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها . وحقيقة الجماعات والمجتمعات . وهم يرون كيف تصطرع مبادىء دعوتهم ، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس . ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس ، ومزالق الطريق ، ومسارب الضلال !

ثم . . لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير ، ولا بد فيها من سر ، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون . . فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها . . أفواجا . . في نهاية المطاف !

إنها سنة الدعوات . وما يصبر على ما فيها من مشقة ؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله ، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد . . ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء :

( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . .

وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام . وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال . من أهل الكتاب من حولها . ومن المشركين أعدائها . . ولكنها سارت في الطريق . لم تتخاذل ، ولم تتراجع ، ولم تنكص على أعقابها . . لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت . وأن توفية الأجور يوم القيامة . وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور . . على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف ؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو . . والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان . والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان . وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها ، تتوالى القرون والأجيال ؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال . . والقرآن هو القرآن . .

وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان ؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة ، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها . . ولكن القاعدة واحدة : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) !

ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين ؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك . أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها ، وأحيانا في أصحابها وقيادتها . وهذه الصور تتجدد مع الزمان . وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة ، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية ، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية . فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى ، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق ، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق . .

ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة ، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض ؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة ، ووسائل الدعاية الحديثة ، لتشويه أهدافها ، وتمزيق أوصالها . . يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة ، وطبيعة طريقها . وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق . ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك ؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى ، وحين تعوي حولها بالدعاية ، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة . . أنها سائرة في الطريق ، وأنها ترى معالم الطريق !

ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي . . تستبشر بهذا

كله ، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل . وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق . ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى ؛ وتمضي في طريقها الموعود ، إلى الأمل المنشود . . في صبر وفي تقوى . . وفي عزم أكيد . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

وقوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ]{[6304]} } [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن{[6305]} على قدر دينه ، إن{[6306]} كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم{[6307]} من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ }

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } قال : وكان رسول الله{[6308]} صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن{[6309]} الله فيهم .

هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ؛ أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار ، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قَبْل وقعة بَدْر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة ، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تُغَبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم{[6310]} ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ، وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبَي : أيها المَرْء ، إنه لا أحْسَنَ مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى{[6311]} يا رسول الله ، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك . فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون{[6312]} فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب{[6313]} - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح{[6314]} فوَالله الذي{[6315]} أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله{[6316]} بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة{[6317]} على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه{[6318]} بالعصابة ، فلما أبى{[6319]} الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فَعَل{[6320]} به ما رأيتَ ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ] {[6321]} } وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى أذنَ الله فيهم ، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدرًا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد تَوَجّه ، فبايعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام{[6322]} وأسلموا{[6323]} {[6324]} .

فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذَى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .


[6304]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "إلى آخر الآيتين".
[6305]:في جـ، ر، أ، و: "المرء".
[6306]:في أ، و: "فإن".
[6307]:في جـ، ر: "ينالهم".
[6308]:في أ: "النبي".
[6309]:في أ: "أذنه".
[6310]:في أ: "فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم".
[6311]:في أ: "بل".
[6312]:في و: "يتبارزون".
[6313]:في أ: "حبان".
[6314]:في جـ، ر، أ، و: "واصفح عنه".
[6315]:في جـ، ر، أ، و: "فوالذي".
[6316]:في و: "لقد خالفتهم".
[6317]:البحيرة المقصود بها: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[6318]:في أ: "فيعصبوه"، وفي و: "فيعصبونه".
[6319]:في ر، أ،: "أتى".
[6320]:في أ: "ثقل".
[6321]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[6322]:في جـ، أ، و: "على الإسلام فبايعوا".
[6323]:في ر: "فأسلموا".
[6324]:صحيح البخاري برقم (4566)، ورواه مسلم في صحيحه برقم (1798).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞لَتُبۡلَوُنَّ فِيٓ أَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُوٓاْ أَذٗى كَثِيرٗاۚ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ} (186)

استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحقّ وأنصار الرسل من البلوى ، وتنبيه لهم على أنّهم إن كانوا ممّن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحقّ ، وأكّد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء ، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة .

فأصل { لتبلونّ } لتبلوونّ فلمّا توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان : واو الرفع ونون التوكيد الشديدة ، فحذفت واو الرفع لأنّها ليست أصلاً في الكلمة فصار لتبْلَوُنّ . وكذلك القول في تصريف قوله تعالى : { ولتسمعنّ } وفي توكيده .

والابتلاء : الاختبار ، ويراد به هنا لازمه وهو المصيبة ، لأنّ في المصائب اختباراً لمقدار الثبات . والابتلاء في الأموال هو نفقات الجهاد ، وتلاشي أموالهم التي تركوها بمكّة . والابتلاء في الأنفس هو القتل والجراح . وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أُحُد وبعده .

والأذى هو الضرّ بالقول كقوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } [ آل عمران : 111 ] كما تقدّم آنفاً ، ولذلك وصفه هنا بالكثير ، أي الخارج عن الحدّ الذي تحتمله النفوس غالباً ، وكلّ ذلك ممّا يفضي إلى الفشل ، فأمَرَهم الله بالصبر على ذلك حتّى يحصل لهم النصر ، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثّه وتأييده ، فأمّا الصبر على الابتلاء في الأموال والأنفس فيشمل الجهاد ، وأمّا الصبر على الأذى ففي وقتى الحرب والسلم ، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفّار حتّى تكون منسوخة بآيات السيف ، لأنّ الظاهر أنّ الآية نزلت بعد وقعة أُحُد ، وهي بعد الأمر بالقتال . قاله القفّال .

وقوله : { فإن ذلك } الإشارة إلى ما تقدّم من الصبر والتقوى بتأويل : فإنّ المذكور .

و ( عزم الأمور ) من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العَزم ، ووصفَ الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأنّ أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة ، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول ، أي من الأمور المعزوم عليها . والعزم إمضاء الرأي وعدم التردّد بعد تبيين السداد . قال تعالى : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] والمراد هنا العزم في الخيرات ، قال تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ولم نجد له عزما } [ طه : 115 ] .

ووقع قوله : { فإن ذلك من عزم الأمور } دليلاً على جواب الشرط ، والتقدير : وإن تصبروا وتتّقوا تنالوا ثواب أهل العزم فإنّ ذلك من عزم الأمور .