تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

{ 40 } { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

أي : إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فاللّه غني عنكم ، لا تضرونه شيئا ، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله ، وسعوا في ذلك ، وحرصوا أشد الحرص ، فألجؤوه إلى أن يخرج .

{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي : هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه . { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي : لما هربا من مكة ، لجآ إلى غار ثور{[371]} في أسفل مكة ، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب .

فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة ، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما ، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال .

{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه ، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده .

{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : الثبات والطمأنينة ، والسكون المثبتة للفؤاد ، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا }

{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وهي الملائكة الكرام ، الذين جعلهم اللّه حرسا له ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي : الساقطة المخذولة ، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين ، في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذه ، حنقين عليه ، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك ، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم ، بل ولا أدركوا شيئا منه .

ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه ، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع ، فإن النصر على قسمين : نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا ، وقصدوا ، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم .

والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر ، فنصر اللّه إياه ، أن يرد عنه عدوه ، ويدافع عنه ، ولعل هذا النصر أنفع النصرين ، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع .

وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية ، هي العالية على كلمة غيره ، التي من جملتها قوله : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان ، بالحجج الواضحة ، والآيات الباهرة والسلطان الناصر .

{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب ، ولا يفوته هارب ، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر ، اقتضته الحكمة الإلهية .

وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة ، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة ، والصحبة الجميلة ، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة ، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، كافرا ، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها .

وفيها فضيلة السكينة ، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة ، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه ، وثقته بوعده الصادق ، وبحسب إيمانه وشجاعته .

وفيها : أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين ، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه ، فإنه مضعف للقلب ، موهن للعزيمة .


[371]:في أ: (إلى غار حراء)، وفي ب: عدلت إلى: (غار ثور) وهو الصحيح فيبدو -والله أعلم- أنه سبق قلم.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

38

ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء :

( إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة اللّه هي العليا ، واللّه عزيز حكيم )

ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - [ ص ] - وصاحبه :

( إذ هما في الغار ) .

والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - [ ص ] - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .

ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - [ ص ] - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :

( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) .

وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :

( وكلمة اللّه هي العليا ) . .

وقد قرئ ( وكلمة اللّه )بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه( عزيز )لا يذل أولياؤه( حكيم )يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .

ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

يقول تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ } أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ [ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ ] } {[13513]} أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه ، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول ، عليه السلام{[13514]} منهم أذى ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته ويقول : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، كما قال الإمام أحمد :

حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن في الغار : لو أن أحدهم{[13515]} نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . قال : فقال : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما " .

أخرجاه في الصحيحين{[13516]} ولهذا قال تعالى : { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : تأييده ونصره عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } أي : الملائكة ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا }

قال ابن عباس : يعني { كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الشرك و { كَلِمَةُ اللَّهِ } هي : لا إله إلا الله .

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " {[13517]} وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يُضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله .


[13513]:- زيادة من ك.
[13514]:- في ك : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[13515]:- في ت : "أحدا".
[13516]:- المسند (1/4) وصحيح البخاري برقم (3653) وصحيح مسلم برقم (2381).
[13517]:- صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40)

إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا }

استئناف بياني لقوله : { ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير } [ التوبة : 39 ] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مُضرّاً بالله ورسولِه ، يثير في نفس السامع سؤالاً عن حصول النصر بدون نصير ، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه ، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم ، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئاً .

والضمير المنصوب ب { تنصروه } عائِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأنّه واضح من المقام .

وجملة { فقد نصره الله } جواب للشرط ، جعلت جواباً له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدَّر لِكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف : فإنّ مضمون { فقد نصره الله } قد حصل في الماضي فلا يكون جواباً للشرط الموضوع للمستقبل ، فالتقدير : إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذٍ ينصره حين لا تنصرونه . وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله : { فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها } الآية .

ويتعلّق { إذ أخرجه } ب { نَصَره } أي زمنَ إخراج الكفارِ إيّاه ، أي من مكة ، والمراد خروجه مهاجراً . وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] ، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين ، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة ، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين ، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج ، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم ، وجعلوا لمن يظفر به جزاءً جَزلاً ، كما جاء في حديث سُراقة بن جُعْشُم .

كتب في المصاحف { إلاَّ } من قوله : { إلا تنصروه } بهمزة بعدها لام ألف ، على كيفية النطق بها مدغمةً ، والقياس أن تكتب ( إنْ لا ) بهمزة فنون فلام ألف لأنّهما حرفان : ( إنْ ) الشرطية و ( لا ) النافية ، ولكنَّ رسم المصحف سنّة متبعة ، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها ، ومثل ذلك كتب { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض } في سورة الأنفال ( 73 ) . وهم كتبوا قوله : { بل ران } في سورة المطففين ( 14 ) بلام بعد الباء وراء بعدها ، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها .

وقد أثار رسم { إلا تنصروه } بهذه الصورة في المصحف خشية تَوَهُّم مُتوهّم أنّ { إلاّ } هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في « مغني اللبيب » : « تنبيه ليس من أقسام ( إلاّ ) ، ( إلاّ ) التي في نحو { إلا تنصروه فقد نصره الله } وإنّما هذه كلمتان ( إن ) الشرطية و ( لا ) النافية ، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في « شرح التسهيل » من أقسام إلاّ ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على « المغني » ولا الشمني .

وقال الشيخ محمد الرصاع في كتاب « الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب » « وقد رأيت لبعض أهل العصر المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب أي « التسهيل » أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال » . وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على « المغني » « ليس ما في « شرح التسهيل » نصّاً في ذلك وهو يُوهمه فإنّه عَرَّف المستثنى بالمخرَج ب ( إلاّ ) وقال « واحترزتُ عن ( إلا ) بمعنى إنْ لم ومثَّل بالآية ، أي فلا إخراج فيها » . وقلت عبارة متن « التسهيل » « المستثنى هو المخرج تحقيقاً أو تقديراً من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها » ، ولم يعرّج شارحه المُرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على « تسهيله » ، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله : « إلاّ تكون استثناءً وتكون حرف جزاء أصلها « إنْ لا » نقله صاحب « لسان العرب » . وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه .

و { ثانيَ اثنين } حال من ضمير النصب في { أخرجه } ، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى { مِن } ، أي ثانياً مِن اثنين ، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر : بتواتر الخبر ، وإجماع المسلمين كلّهم . ولكون الثاني معلوماً للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره ، وأيضاً لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد .

و { إذْ } التي في قوله : { إذ هما في الغار } بدل من { إذ } التي في قوله : { إذ أخرجه } فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج ، باعتبار الخروج ، والكونُ في الغار .

والتعريف في الغار للعهد ، لغار يعلمه المخاطبون ، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة ، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها ، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال ، في طريق جبليّ .

والغار الثقب في التراب أو الصخر .

و { إذْ } المضافة إلى جملة { يقول } بدل من { إذ } المضافة إلى جملة { هما في الغار } بدل اشتمال .

والصاحب هو { ثاني اثنين } وهو أبو بكر الصديق . ومعنى الصاحب : المتّصف بالصحبة ، وهي المعية في غالب الأحوال ، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة ، كما تقدّم في قوله تعالى : { ولم تكن له صاحبة } في سورة الأنعام ( 101 ) . وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور ، فكان أبو بكر حزيناً إشفاقاً على النبي أن يشعر به المشركون ، فيصيبوه بمضرّة ، أو يرجعوه إلى مكة .

والمعية هنا : معية الإعانة والعناية ، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون : { قال لا تخافا إنني معكما } [ طه : 46 ] وقوله { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } [ الأنفال : 12 ] .

{ فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِىَ العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار ، وأنّها من النصر ، إذ هي نصر نفساني ، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصراً جثمانياً . وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله : { لا تحزن إن الله معنا } بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه ، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه ، فيكون تقدير الكلام : فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا ، وحِين كان في الغار ، وحين قال لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا . فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل { نصره } على الترتيب المتقدّم ، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع ، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به ، وأنّ نصره كان معجزةً خارقاً للعادة .

وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية ، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله : { فأنزل الله سكينته عليه } إلى أبي بكر ، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في { أيّده } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر ، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر ، مع أنّ المقام لذكر ثباتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه ، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعاً لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام ، وتلك الحيرة نشأت عن جعل { فأنزل الله } مفرّعاً على { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } وألجأهم إلى تأويل قوله : { وأيده بجنود لم تروها } إنّها جنود الملائكة يوم بدر ، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل ، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديماً وتأخيراً .

والسكينة : اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة ، مشتقّة من السكون ، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم } في سورة البقرة ( 248 ) .

والتأييد : التقوية والنصر ، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى { وأيدناه بروح القدس } في سورة البقرة ( 87 ) .

والجنود : جمع جند بمعنى الجيش ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلما فصل طالوت بالجنود } في سورة البقرة ( 249 ) ، وتقدّم آنفاً في هذه السورة .

ثم جوز أن تكون جملة { وأيده بجنود } معطوفة على جملة { فأنزل الله سكينته عليه } عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة ، لا سيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه ، ومدينة أنصاره ، فكان سهلاً عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة .

ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة { أخرجه والتقدير : وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة ، ويوم بدر ، ويوم الأحزاب ، ويوم حنين ، كما مر في قوله : { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها } [ التوبة : 26 ] .

( والكلمة ) أصلها اللفظة من الكلام ، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحوِ ذلك من كلّ ما يتحدّث به الناس ويخبر المرءُ به عن نفسه من شأنه ، قال تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] ( أي أبقى التبرىء من الأصنام والتوحيد لله شأنَ عقبه وشعارهم ) وقال { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } [ البقرة : 124 ] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده ، واختتانه ، وقال لمريم { إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] أي بأمر عجيب ، أو بولد عجيب ، وقال { وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً } [ الأنعام : 115 ] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم : لا تُفرقْ بين كلمة المسلمين ، أي بين أمرهم واتّفاقهم ، وجَمع الله كلمة المسلمين ، فكلمةُ الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر .

ومعنى السفلى الحقيرة لأنّ السُفل يكنّى به عن الحقارة ، وعكسه قوله : { وكلمة الله هي العليا } فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين ، وأشعر قوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } أنّ أمر المشركين كان بمظنّة القوة والشدّة لأنّهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء ، ولكنّهم لمّا شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علوّ إلى سفل .

وجملة { وكلمة الله هي العليا } مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنّه لمّا أخبر عن كلمة الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أنّ العَلاء انحصر في دين الله وشأنه . فضمير الفصل مفيد للقصر ، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفروا ، إذ ليس المقصود إفادةَ جعل كلمة اللَّهِ عُليا ، لما يُشعر به الجعل من إحداث الحالة ، بل إفادةَ أنّ العَلاء ثابت لها ومقصور عليها ، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى .

ومعنى جعلها كذلك : أنّه لمّا تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقرّ ثبوت كلمة الله .

وقرأ يعقوب ، وحده { وكلمةَ الله } بنصب ( كلمة ) عطفاً على { كلمة الذين كفروا السفلى } فتكون كلمة الله عُليا بجعل الله وتقديره .

وجملة { والله عزيز حكيم } تذييل لمضمون الجملتين : لأنّ العزيز لا يغلبه شيء ، والحكيم لا يفوته مقصد ، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضدّه السفلى .