تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

{ 89 } { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }

لما ذكر فيما تقدم أنه يبعث { فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا } ، ذكر ذلك أيضا هنا ، وخص منهم هذا الرسول الكريم فقال : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ } ، أي : على أمتك تشهد عليهم بالخير والشر ، وهذا من كمال عدل الله تعالى ، أن كل رسول يشهد على أمته ؛ لأنه أعظم اطلاعا من غيره على أعمال أمته ، وأعدل وأشفق من أن يشهد عليهم إلا بما يستحقون . وهذا كقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } . وقال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ } . وقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ، في أصول الدين وفروعه ، وفي أحكام الدارين وكل ما يحتاج إليه العباد ، فهو مبين فيه أتم تبيين بألفاظ واضحة ومعان جلية ، حتى إنه تعالى يثني فيه الأمور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت ، وإعادتها في كل ساعة ، ويعيدها ويبديها بألفاظ مختلفة وأدلة متنوعة لتستقر في القلوب فتثمر من الخير والبر بحسب ثبوتها في القلب ، وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح معاني كثيرة يكون اللفظ لها كالقاعدة والأساس ، واعتبر هذا بالآية التي بعد هذه الآية وما فيها من أنواع الأوامر والنواهي التي لا تحصى ، فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء صار حجة الله على العباد كلهم . فانقطعت به حجة الظالمين وانتفع به المسلمون ، فصار هدى لهم يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم ، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة . فالهدى ما نالوه به من علم نافع وعمل صالح .

والرحمة ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والآخرة ، كصلاح القلب وبره وطمأنينته ، وتمام العقل الذي لا يتم إلا بتربيته على معانيه التي هي أجل المعاني وأعلاها ، والأعمال الكريمة والأخلاق الفاضلة ، والرزق الواسع والنصر على الأعداء بالقول والفعل ، ونيل رضا الله تعالى وكرامته العظيمة التي لا يعلم ما فيها من النعيم المقيم إلا الرب الرحيم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

77

ثم يخصص السياق موقفا خاصا للرسول [ ص ] مع قومه :

( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) . .

وفي ظل المشهد المعروض للمشركين ، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم ، ويستسلمون لله متبرئين من دعوى عبادهم الضالين ، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة شهيد . فتجيء هذه اللمسة في وقتها وفوتها : ( وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) . . ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول ( تبيانا لكل شيء )فلا حجة بعده لمحتج ، ولا عذر معه لمعتذر . ( وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) . . فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب ، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون . .

وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق ، تتناسق مع جوه وتؤديه .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ }{[16639]} ، يعني : أمته . أي : اذكر ذلك اليوم وهوله ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم ، والمقام الرفيع . وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود ، حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة : " النساء " ، فلما وصل إلى قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [ النساء : 41 ] . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبك " . قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : فالتفت ، فإذا عيناه تذرفان{[16640]} .

وقوله : { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ، قال ابن مسعود : [ و ]{[16641]} ، قد بين لنا في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء .

وقال مجاهد : كل حلال وحرام .

وقول ابن مسعود : أعم وأشمل ؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق ، وعلم ما سيأتي ، وحكم كل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون{[16642]} في أمر دنياهم ودينهم ، ومعاشهم ومعادهم .

{ وَهُدًى } ، أي : للقلوب ، { وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .

وقال الأوزاعي : { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ، أي : بالسنة .

ووجه اقتران قوله : { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } مع قوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ } ، أن المراد - والله أعلم - : إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك عن ذلك يوم القيامة ، { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] ، { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93 ] ، { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [ القصص : 85 ] ، أي : إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ، ومعيدك يوم القيامة ، وسائلك عن أداء ما فرض عليك . هذا أحد الأقوال ، وهو مُتَّجه حسن .


[16639]:في ت: "يبعث".
[16640]:تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية: 41 من سورة النساء.
[16641]:زيادة من ف.
[16642]:في ف: "محتاجون إليه".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ} (89)

وقوله تعالى : { ويوم نبعث } الآية ، هذه الآية في ضمنها وعيد ، والمعنى واذكر يوم نبعث في كل أمة شهيداً عليها ، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها ، وإيمانها وهداها ، ويجوز أن يبعث الله شهيداً من الصالحين مع الرسل ، وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه ، فإن أطاعك وإلا كنت شهيداً عليه يوم القيامة ، { من أنفسهم } ، بحسب أن بعثة الرسل كذلك في الدنيا ، وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير ، وفهم الأغراض والإشارات ، يتمكن له إفهامهم ، والرد على معانديهم ، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة ، فلذلك لم يبعث الله قط نبياً إلا من الأمة المبعوث إليهم ، وقوله : { هؤلاء } ، إشارة إلى هذه الأمة . و { الكتاب }ن القرآن ، وقوله : { تبياناً } ، اسم وليس بالمصدر ، وهو كالنقصان ، والمصادر في مثل هذا ، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار{[7399]} ، ونصب { تبياناً } على الحال{[7400]} .

وقوله : { لكل شيء } ، أي : مما يحتاج في الشرع ، ولا بد منه في الملة ، كالحلال والحرام ، والدعاء إلى الله ، والتخويف من عذابه ، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين ، وقال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء قد بين لنا في القرآن ، ثم تلا هذه الآية .


[7399]:ومثل (تبيان) في كسر الأول (تلقاء).
[7400]:ويجوز أن تنصب على أنها مفعول لأجله.