{ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل اللهم مالك الملك } أي : أنت الملك المالك لجميع الممالك ، فصفة الملك المطلق لك ، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك ، ثم فصل بعض التصاريف التي انفرد الباري تعالى بها ، فقال : { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } وفيه الإشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الأكاسرة والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد ، وقد فعل ولله الحمد ، فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى ، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله ، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء ، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر ، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح ، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم ، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع ، قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور ، وقال تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين } فأخبر أن ائتلاف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على الأعداء ، وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم ، ثم قال تعالى : { وتعز من تشاء } بطاعتك { وتذل من تشاء } بمعصيتك { إنك على كل شيء قدير } لا يمتنع عليك أمر من الأمور بل الأشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك .
بعدئذ يلقن رسول الله [ ص ] وكل مؤمن ، أن يتجه إلى الله ، مقررا حقيقة الألوهية الواحدة ، وحقيقة القوامة الواحدة ، في حياة البشر ، وفي تدبير الكون . فهذه وتلك كلتاهما مظهر للألوهية وللحاكمية التي لا شريك لله فيها ولا شبيه :
( قل : اللهم مالك الملك : تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء . بيدك الخير . إنك على كل شيء قدير . تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل . وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي . وترزق من تشاء بغير حساب )
نداء خاشع . . في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء . وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال . وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس . وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة : حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس ؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله ؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس ؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف !
( قل : اللهم مالك الملك . تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء . وتعز من تشاء وتذل من تشاء ) . .
إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة . . إله واحد فهو المالك الواحد . . هو ( مالك الملك ) بلا شريك . . ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه . يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء . فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه . إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته ؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا . وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا . أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل . .
وكذلك هو يعز من يشاء ويذل من يشاء بلا معقب على حكمه ، وبلا مجير عليه ، وبلا راد لقضائه ، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله . . وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله .
وفي قوامة الله هذه الخير كل الخير . فهو يتولاها سبحانه بالقسط والعدل . يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل . ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل . فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات ؛ وهي المشيئة المطلقة والقدرة المطلقة على تحقيق هذا الخير في كل حال : ( بيدك الخير ) . . ( إنك على كل شيء قدير ) . .
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، معظما لربك ومتوكلا عليه ، وشاكرًا له ومفوضًا إليه : { اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } أي : لك الملك كله { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ } أي : أنت المعطي ، وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن .
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل ، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق ، في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان ، والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ، ما تعاقب الليل والنهار . ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]{[4924]} } أي : أنت المتصرف في خلقك ، الفعال لما تريد ، كما رد تبارك وتعالى على من يتحكم{[4925]} عليه في أمره ، حيث قال : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
قال الله تعالى ردًا عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ] {[4926]} } الآية [ الزخرف : 32 ] أي : نحن نتصرف في خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة والحجة في ذلك ، وهكذا نعطي النبوة لمن نريد ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
[ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا ]{[4927]} } [ الإسراء : 21 ] وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " إسحاق بن أحمد " من تاريخه عن المأمون الخليفة : أنه رأى في قَصْرٍ ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية ، فعرب له ، فإذا هو : باسم الله ما اختلف الليل والنهار ، ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن مَلِك قد زال سلطانه إلى ملك . ومُلْكُ ذي العرش دائم أبدًا ليس بِفَانٍ ولا بمشترك{[4928]} .
{ قل اللهم } الميم عوض عن يا ولذلك لا يجتمعان ، وهو من خصائص هذا الاسم كدخول يا عليه مع لام التعريف وقطع همزته وتاء القسم . وقيل أصله يا الله أمنا بخير ، فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته . { مالك الملك } يتصرف فيما يمكن التصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية . { تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } تعطي منه ما تشاء من تشاء وتسترد ، فالملك الأول عام والآخران بعضان منه . وقيل : المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى قوم { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } في الدنيا أو في الآخرة ، أو فيهما بالنصر والإدبار والتوفيق والخذلان . { بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } ذكر الخير وحده لأنه المقضي بالذات ، والشر مقضي بالعرض ، إذ لا يوجد شر جزئي ما لم يتضمن خيرا كليا ، أو لمراعاة الأدب في الخطاب ، أو لأن الكلام وقع فيه إذ روي ( أنه عليه السلام لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره ، فجاء عليه الصلاة والسلام فأخذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها . وبرق منها برق أضاء منه ما بين لابتيها لكأن بها مصباحا في جوف بيت مظلم ، فكبر وكبر معه المسلمون وقال " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب الثالثة فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء " وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا " . فقال المنافقون : ( ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق ) فنزلت . فنبه على أن الشر أيضا بيده بقول { إنك على كل شيء قدير } .
قال بعض العلماء : إن هذه الآية دافعة لباطل نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها ، وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي عليه السلام سأل ربه أن يجعل في أمته ملك فارس والروم فنزلت الآية في ذلك{[3061]} . وقال مجاهد : { الملك } في هذه الآية النبوة ، والصحيح أنه { مالك الملك } كله مطلقاً في جميع أنواعه ، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة وروي أن الآية نزلت بسبب أن النبى عليه السلام بشّر أمته بفتح ملك فارس وغيره{[3062]} فقالت اليهود والمنافقون : هيهات وكذبوا ذلك ، واختلف النحويون في تركيب لفظة { اللهم } بعد إجماعهم على أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وأنها منادى ، ودليل ذلك أنها لا تأتي مستعملة في معنى خبر ، فمذهب الخليل وسيبويه والبصريين ، أن الأصل «يالله » فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو- يا- جعلوا بدل حرف النداء هذه الميم المشددة ، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد ، وذهب حرفان فعوض بحرفين ، ومذهب الفراء والكوفيين ، أن أصل { اللهم } يا لله أم : أي أم بخير وأن ضمة الهاء ضمة الهمزة التي كانت في أم نقلت ، ورد الزجاج على هذا القول وقال : محال أن يترك الضم الذي هو دليل على نداء المفرد وأن تجعل في اسم الله ضمة أم ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غلو من الزجاج ، وقال أيضاً : إن هذا الهمز الذي يطرح في الكلام فشأنه أن يؤتى به أحياناً قالوا : «ويلمه » في ويل أمه والأكثر إثبات الهمزة ، وما سمع قط «يالله أم » في هذا اللفظ ، وقال أيضاً : ولا تقول العرب «ياللهم » ، وقال الكوفيون : إنه قد يدخل حرف النداء على { اللهم } وأنشدوا على ذلك : [ الرجز ]
وما عليك أن تقولي كلما . . . سبحت أو هللت ياللهم ما
اردُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّما{[3063]} . . .
قالوا : فلو كانت الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعا ، قال الزجاج ، وهذا شاذ لا يعرف قائله ولا يترك له ما في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب ، قال الكوفيون : وإنما تزاد الميم مخففة في «فم وابنم » ونحوه فأما ميم مشددة فلا تزاد ، قال البصريون : لما ذهب حرفان عوض بحرفين{[3064]} ، ومالك نصب على النداء ، نص سيبويه ذلك في قوله تعالى : { قل اللهم فاطر السماوات والأرض } [ الزمر : 46 ] {[3065]}وقال : إن { اللهم } لا يوصف لأنه قد ضمت إليه الميم ، قال الزجاج : ومالك عندي صفة لاسم الله تعالى وكذلك { فاطر السموات } قال أبو علي : وهو مذهب أبي العباس ، وما قال سيبويه أصوب وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد { اللهم } لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت والأصوات لا توصف نحو ، غاق وما أشبهه ، وكأن حكم الاسم المفرد أن لا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه أن لا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت نحو ، «حيهل » فلم يوصف ، قال النضر بن شميل{[3066]} : من قال { اللهم } فقد دعا الله بجميع أسمائه كلها ، وقال الحسن : { اللهم } مجمع الدعاء .
وخص الله تعالى : { الخير } بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى { بيدك الخير } فأجزل حظي منه ، وقيل المراد { بيدك الخير } والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر ، كما قال { تقيكم الحر }{[3067]} قال النقاش : { بيدك الخير } أي النصر والغنيمة فحذف لدلالة أحدهما .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{قُلِ اللّهُمّ}: قل يا محمد: يا الله.
{مالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ}: يا مالك الملك، يا من له ملك الدنيا والاَخرة خالصا دون غيره. {تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ}: تعطي الملك من تشاء فتملّكه وتسلطه على من تشاء. {وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمّنْ تَشاءُ} أن تنزعه منه. وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابا لمسألته ربه أن يجعل ملك فارس والروم لأمته. وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى الملك في هذا الموضع: النبوّة. {وَتُعِزّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: وتعزّ من تشاء بإعطائه الملك والسلطان وبسط القدرة له، وتذلّ من تشاء بسلبك ملكه وتسليط عدوّ عليه. {بِيَدِكَ الخَيْرُ}: كلّ ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد¹، لأنك على كل شيء قدير، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأميين من العرب إلها وربا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربّا. {إنّكَ على كل شَيْءٍ قَدِيرٌ}: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وقدرتك.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: تعز من تشاء بالطاعة، وتذل من تشاء بالمعصية. والثاني: تعز من تشاء بالنصر، وتذل من تشاء بالقهر. والثالث: تعز من تشاء بالغنى، وتذل من تشاء بالفقر. {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} أي أنت قادر عليه، وإنما خَصَّ الخير بالذكر وإن كان قادراً على الخير والشر، لأنه المرغوب في فعله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
" اللهم "معناها يا الله والميم في آخرها بدل عن حرف النداء وهو يا. فهذا تعليم الحق كيفية الثناء على الحق، أي صِفْني بما أسْتَحِقُّه من جلال القَدْر فَقُلْ: يا مالكَ المُلْكِ لا شريكَ لكَ ولا مُعينَ، ولا ظهير ولا قرين، ولا مُقاسِمَ لكَ في الذات، ولا مُسَاهِمَ في المُلْك، ولا مُعَارِضَ في الإبداع. {تُؤْتِى المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}...
وتعز من تشاء بأن تهديه ليشهدك ويوحدك، وتذل من تشاء بأن يجحدك ويفقدك. وتعزُّ من تشاء بيُمْنِ إقبالك، وتذل من تشاء بوحشة إعراضك. وتعزُّ من تشاء بأن تؤنسه بك، وتذل من تشاء بأن توحشه عنك. وتعز من تشاء بأن تشغله بك، وتذل من تشاء بأن تشغله عنك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مالك الملك}: أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرّف الملاك فيما يملكون. {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاءُ}: تعطي من تشاء النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك من الملك. {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاءُ} النصيب الذي أعطيته منه. فالملك الأوّل عام شامل، والملكان الآخران خاصان بعضان من الكل...
فإن قلت: كيف قال: {بِيَدِكَ الخير} فذكر الخير دون الشر؟ قلت: لأنّ الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك، ولأن كل أفعال الله تعالى من نافع وضارّ صادر عن الحكمة والمصلحة، فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال بعض العلماء: إن هذه الآية دافعة لباطل نصارى نجران في قولهم: إن عيسى هو الله وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى عليه السلام ليس في شيء منها،...
والصحيح أنه {مالك الملك} كله مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرف ملك يؤتيه سعادة الآخرة...
وخص الله تعالى: {الخير} بالذكر وهو تعالى بيده كل شيء، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة فكأن المعنى {بيدك الخير} فأجزل حظي منه، وقيل المراد {بيدك الخير} والشر فحذف لدلالة أحدهما على الآخر،...
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلما نبيه كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب {قل اللهم مالك الملك}... {الملك}: هو القدرة، والمالك هو القادر، فقوله {مالك الملك} معناه القادر على القدرة، والمعنى إن قدرة الخلق على كل ما يقدرون عليه ليست إلا بإقدار الله تعالى، فهو الذي يقدر كل قادر على مقدوره، ويملك كل مالك مملوكه... قوله: {تؤتى الملك من تشاء} محمول على جميع أنواع الملك فيدخل فيه ملك النبوة، وملك العلم، وملك العقل، والصحة والأخلاق الحسنة، وملك النفاذ والقدرة وملك المحبة، وملك الأموال، وذلك لأن اللفظ عام فالتخصيص من غير دليل لا يجوز. {وتعز من تشاء وتذل من تشاء} فاعلم أن العزة قد تكون في الدين، وقد تكون في الدنيا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة؛ لأن الله حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي المكي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يُعْطهَا نبيًا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل، في العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق، في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان، والشرائع، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، ما تعاقب الليل والنهار...
"تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "أي: أنت المتصرف في خلقك، الفعال لما تريد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطباً لإلهك مسمعاً لهم ومعرضاً عنهم ومنبهاً لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء. قال الحرالي: لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وجعل القائل لما كانت المجاورة معه، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم، وما كان لإصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه، فإذا قالوا قولاً يقصدونه به قال الله عز وجل: قل لهم، ولكون القرآن متلواً ثبتت فيه كلمة قل... {اللهم مالك الملك} أي لا يملك شيئاً منه غيرك...
قال الحرالي: فأقنعه صلى الله عليه وسلم ملك ربه، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله، فلذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه، لأنه كان نبياً عبداً، لا نبياً ملكاً، فأسلم الملك لله، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش،... {تؤتي الملك من تشآء} في الإيتاء إشعار بأنه تنويل من الله من غير قوة وغلبة، ولا مطاولة فيه، وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع،... لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة بغيره. فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل، وهو به من أتباع ملوك الدنيا، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين... جلس عمر رضي الله تعالى عنه يوماً وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال: أخبروني أخليفة أنا أم ملك؟ فقال له سلمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن جبيت درهماً من هذا المال فوضعته في غير حقه فأنت ملك، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة، فقال كعب: رحمك الله تعالى! ما ظننت أن أحداً يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه -انتهى...
وفي تقديم الإيتاء على النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب {وتنزع} قال الحرالي: من النزع، وهو الأخذ بشدة وبطش- انتهى. {الملك ممن تشآء} وفيه إشارة إلى أن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب،... قال الحرالي: وفي كلمة النزع بما ينبئ عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم،... فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار، لا يجدون وحشة، ولا يحصرون في محل، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا، استتروا أو اشتهروا،... والذل مقابل ذلك العزة، فإذا كان ذلك العز عزاً دينياً ربانياً عوضاً عن سلب الملك كان هذا الذل -والله تعالى أعلم- ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم، فاستعملتهم في شهواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم، وينالهم من ذل تضييع الدين، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين -انتهى...
ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله: {بيدك} أي وحدك {الخير} ولم يذكر الشر تعليماً لعباده الأدب في خطابه، وترغيباً لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لان العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال، وتنبيهاً على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر، لأنهما ضدان، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر- والله سبحانه وتعالى أعلم. ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللاً: {إنك على كل شيء قدير}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
روي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل فارس والروم في أمته فنزل قوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}. وقال الأستاذ الإمام ما معناها: إن الكلام متصل بما قبله صح ما قيل في سبب النزول أم لم يصح. والكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع من خوطبوا بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما أنكر أمثالهم على الأنبياء قبله. وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل وقد عهد في غير موضع من القرآن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في مقام بيان عناد المنكرين ومكابرة الجاحدين وتذكيره بقدرته تعالى على نصره وإعلاء كلمة دينه. فهذه الآية من هذا القبيل. كأنه يقول له: إذا تولى هؤلاء الجاحدون عن بيانك، ولم ينظروا في برهانك. وظل المشركون منهم على جهلهم، وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء، وهذا يناسب ما تقدم في الرد على نصارى نجران من أمره بالالتجاء إليه سبحانه بقوله {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله} [آل عمران: 20].
قال: وعلى هذا التفسير يصح أن يكون الملك بمعنى النبوة أو لازمها ولا شك أن النبوة ملك كبير لأن سلطانها على الأجساد والأرواح، وعلى الظاهر والباطن قال تعالى: {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} [النساء: 54] فإن لم يكن هذا الملك عين النبوة فهو لازمها ونزع الملك على هذا القول عبارة عن نزعه من الأمة التي كان يبعث فيها الأنبياء، كأمة إسرائيل فقد نزعت منها النبوة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يفسر النزع هنا بالحرمان فإنه تعالى يعطي النبوة من يشاء ويحرم منها من يشاء. فإن قيل إن النزع إنما يكون لشيء قد وجد صح أن يجاب عنه بأن هذا على حد قوله تعالى حكاية عن لسان الرسل {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها} [الأعراف: 89] فإنهم لم يكونوا في ملتهم، إذ يستحيل الكفر على الأنبياء. هذا سياقه وقد تبع فيه الإمام الرازي إلا أنه زاد عليه كلمة "أو لازمها "والتمثيل غير ظاهر على المعنى الثاني والآية حكاية عن شعيب عليه السلام وهي جواب عن قول قومه {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88] فهم قد طلبوا منه وممن آمن معه أن يعودوا في ملتهم وكان أولئك المؤمنون في ملتهم. ففي جوابه عليه السلام تغليب للأكثر وهو متعين. ومثل الرازي أيضا بقوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة: 257] وفيه ما فيه.
أقول: والظاهر المتبادر أن المراد بالملك السلطة والتصرف في الأمور والله سبحانه وتعالى صاحب السلطان الأعلى والتصرف المطلق في تدبير الأمر وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات فهو يؤتي الملك في بعض البلاد من يشاء من عباده إما بالتبع بما يختصهم به من النبوة كما وقع لآل إبراهيم، وإما بسيرهم على سننه الحكيمة الموصلة إلى ذلك لأسبابه الاجتماعية كتكوين العصبيات كما وقع لكثير من الناس، وينزعه ممن يشاء من الأفراد ومن الأسر والعشائر والفصائل والشعوب بتنكبهم سننه الحافظة للملك، كالعدل وحسن السياسة وإعداد المستطاع من القوة كما نزعه من بني إسرائيل ومن غيرها بالظلم والفساد ذلك أننا لا نعرف ما قضت به مشيئته عز وجل إلا من الواقع لأنه لا يقع في الوجود إلا ما يشاء. وقد نظرنا في ما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة كما قال في هذه السورة: {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} [آل عمران: 137] وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء بمثل قوله تعالى من سورة إبراهيم: {وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم} [إبراهيم: 13] وقد فصلنا هذا المعنى في سورة البقرة أفضل تفصيل فليراجع الآية 247 من يشاء.
وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق {قل للذين كفروا ستغلبون} فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين. وقد قال أبو سفيان للعباس يوم رأى جيش المسلمين زاحفا إلى مكة: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما: فقال العباس رضي الله عنه: كلا إنها النبوة. وكان أبو سفيان يعني أن الأمر كله تأسيس ملك وما كان الملك مقصودا، ولكنه جاء معناه والمراد منه تابعا أصلا والفرق عظيم والغرض من النبوة غير الغرض من الملك ولذلك لم يسم الصحابة من جعلوه رئيس ملكهم ومرجح سياستهم ملكا بل سموه خليفة.
{وتعز من تشاء وتذل من تشاء} العز والذل معروفان ومن آثار الأول حماية الحقيقة ونفاذ الكلمة ومن أسبابه كثرة الأعوان وملك القلوب بالجاه والعلم النافع للناس وسعة الرزق مع التوفيق للإحسان، ومن آثار الثاني الضعف عن الحماية، والرضى بالضيم والمهانة، كذا قال الأستاذ الإمام. وقد يكون الضعف سببا وعلة للذل لا أثرا معلولا وهو الغالب، ولا تلازم بين العز والملك فقد يكون الملك ذليلا إذا ضعف استقلاله بسوء السياسة وفساد التدبير حتى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد. وكم من ذليل في مظهر عزيز، وكم من أمير أو ملك يغر الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين فمثله كمثل ملوك ملاهي التمثيل (التياترات) والتشبيه للأستاذ الإمام.
هذا ولا عز أعلى من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا تبع المجتمعون سنة الله تعالى فأعدوا لكل أمر عدته. وقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يعتزون بكثرتهم على النبي والمؤمنين {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8] فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان ويفقهوا معنى كون العزة لله ورسوله وللمؤمنين ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد: 24].
{بيدك الخير} قال الأستاذ الإمام: قدر المفسر (الجلال) هنا كلمة (والشر) هربا من المعتزلة لتصادم المذاهب فيها وحسبنا قوله: {إنك على كل شيء قدير} أي إثبات أن كل شيء بيده لا يعجزه شيء والبلاغة قاضية بذكر الخير فقط سواء كان السبب في نزول الآية خاصا، وهو ما كان في واقعة الخندق من بشارته صلى الله عليه وسلم أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا، أو عاما وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المنكرين، فإنه ما أغرى أولئك المجاحدين بإنكار النبوة والاستهانة بدعوة الحق إلا فقر الداعي وضعف من اتبعه من المسلمين وقلتهم. فأمره الله تعالى أن يلجأ هو ومن اتبعه إلى مالك الملك والمتصرف المطلق التصرف في الإعزاز والإذلال وذكرهم في هذا المقام بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يؤتي نبيه والمؤمنين من السيادة والسلطان ما دعاهم وأن يعزهم ويعطيهم من الخير ما لا يخطر ببال الذين يستضعفونهم {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} [القصص: 5] على هذا الأصل أمر الله نبيه بأن يدعوه والمؤمنون تبع له بهذه الكلمات ويلجؤوا إليه بهذه الرغبة فكان المناسب ذكر الخير الذي وعدوا به فقط وأنه بيده وحده.
وأقول: إنه لا يسند إلى يده تعالى أو يديه إلا النعم الجليلة والمخلوقات الشريفة فلا يقال: إن الشر بيد الله تعالى، على أن جميع ما خلقه الله تعالى ودبره وهو خير في نفسه والشر أمر عارض من الأمور الإضافية. فلا توجد حقيقة هي شر في ذاتها وإنما يطلق لفظ الشر على ما يأتي غير ملائم للأحياء ذات الإدراك ولا منطبق على مصالحهم ومنافعهم. وسبب ذلك في الغالب سوء عملهم الاختياري ومن غير الغالب أن تقوض الريح لهم بناء أو يجرف السيل لهم رزقا وكل من الريح والسيل من أعظم الخيرات في ذاتهما. ومن الخير والنعم ما قدرته السنن الإلهية وأخبر به الوحي من ترتيب العقاب على العمل السيئ. فإن ذلك أعظم مرب للناس وعون لهم على الارتقاء في الدنيا والسعادة في الآخرة. ومن تدبر سورة الرحمن فقه ما نقول. وللإمام ابن القيم كلام في هذه المسألة لا بأس بإيراده هنا. قال في كتاب (شرح منازل السائرين)، ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصه:
إن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه وهو من هذه الجهة شر وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة، خير وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي الحركة، والشر كله ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا. فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه فإنه سبحانه لا يخلق شرا محضا من جميع الوجود والاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده، بل الواقع منحصر في ذلك فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه وبكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما. هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله. فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا.
فإن قلت: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة. قلت هو من هذه الجهة ليس بشر والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله، وإعداده خير وهو إليه أيضا. فإذا لم يحدث فيه إعدادا ولا إمدادا حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل، وإنما إليه ضده. فإن قلت فهلا أمده إذ أوجده؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجده ويمده وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته. فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قلت: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فالجواب: هذا سؤال فاسد يظن مورده ان تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها. وليس في خلق كل نوع منها تفاوت فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت. والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق وإلا فليس في الخلق من تفاوت.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل اللهم مالك الملك} أي: أنت الملك المالك لجميع الممالك، فصفة الملك المطلق لك، والمملكة كلها علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك،...
فحصول الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى، ولا ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته من الأسباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب زواله، فإنها كلها بمشيئة الله لا يوجد سبب يستقل بشيء، بل الأسباب كلها تابعة للقضاء والقدر، ومن الأسباب التي جعلها الله سببا لحصول الملك الإيمان والعمل الصالح، التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم، وإعدادهم الآلات التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع،... قال الله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} الآية فأخبر أن الإيمان والعمل الصالح سبب للاستخلاف المذكور...
وأنت إذا استقرأت الدول الإسلامية وجدت السبب الأعظم في زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم الأعداء وجعل بأسهم بينهم،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قل: اللهم مالك الملك: تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وتعز من تشاء وتذل من تشاء. بيدك الخير. إنك على كل شيء قدير. تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل. وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي. وترزق من تشاء بغير حساب) نداء خاشع.. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء. وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال. وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس. وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة القوامة على الكون والناس؛ وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفا من شأن الكون الكبير الذي يصرفه الله؛ وأن الدينونة لله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس؛ وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف!... (قل: اللهم مالك الملك. تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء. وتعز من تشاء وتذل من تشاء).. إنها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة.. إله واحد فهو المالك الواحد.. هو (مالك الملك) بلا شريك.. ثم هو من جانبه يملك من يشاء ما يشاء من ملكه. يملكه إياه تمليك العارية يستردها صاحبها ممن يشاء عندما يشاء. فليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه. إنما هي ملكية معارة له خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته؛ فإذا تصرف المستعير فيها تصرفا مخالفا لشرط المالك وقع هذا التصرف باطلا. وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا. أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملك صاحب الملك الأصيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي المقصود منه التعريض بأهل الكتاب بأنّ إعراضهم إنّما هو حسد على زوال النبوءة منهم، وانقراض الملك منهم، بتهديدهم وبإقامة الحجة عليهم في أنّه لا عجب أن تنتقل النبوءة من بني إسرائيل إلى العرب، مع الإيماء إلى أنّ الشريعة الإسلامية شريعة مقارنة للسلطان والمُلك...
والمُلك بضم الميم وسكون اللام نوع من المِلك بكسر الميم فالملك بالكسر جنسٌ والمُلك بالضم نوعٌ منه وهو أعلى أنواعه، ومعناه التصرّف في جماعة عظيمة، أو أمة عديدة تصرُّف التدبير للشؤون، وإقامةِ الحقوق، ورعاية المصالح، ودفع العدوان عنها، وتوجيهها إلى ما فيه خيرها، بالرغبة والرهبة. وانظر قوله تعالى: {قالوا أنّى يكون له المُلك علينا} في سورة البقرة (247)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
بين سبحانه وتعالى اعتزاز المشركين بقوتهم الدنيوية وغلبهم وسلطانهم،وذكر انهم في غرورهم كفرعون ذي الأوتاد،واعتزازه بقهره لشعبه،وطغيانه في ملكه... إذ يقول: {و نادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه النهار تجري من تحتي أفلا تبصرون} [الزخرف 51]...
{قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء} الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم،ولكل قارئ للقرآن الكريم مؤمن بالله مذعن للحق،أن يضرع إلى الله تعالى ناطقا بهذه الحقيقة؛ فإنها الحق في هذا الوجود،ولا يعرف مؤمن سواها؛ والمعنى في هذا الدعاء الكريم الضراعة على الله تعالى ونداؤه بأنه مالك السلطان المطلق في هذا الوجود،فليس فقط صاحب السلطان،بل إنه يملك ذوات السلطان،يؤتيه ويعطيه من يشاء،وينزعه ممن يشاء؛ أي يسلبه ممن يشاء ممن يكون السلطان في يده...
وقوله: {مالك الملك} نداء آخر وضراعة على تقدير أداة النداء،أي يا مالك الملك،فكان في النص دعاءين:دعاء للذات العلية بلفظ الجلالة،وقد اشتمل على كل معاني العبودية،والتنزيه والتقديس،والخضوع التام، والتسليم لله سبحانه وتعالى بكل معاني الألوهية؛ والدعاء الثاني لمالك الملك،وفيه كل معاني الإحساس بالربوبية،والضعف امام جبروت الله سبحانه وتعالى وملكوته...
قال سبحانه وتعالى: {تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء}. وهنا أمران لا بد من الإشارة إليهما:
أولهما:التعبير عن إزالة الملك بقوله تعالى: {وتنزع الملك ممن تشاء} فالتعبير بالنزع مع تكرار كلمة ملك،فيه إشارة على انه يأخذه منه بعد ان استقر فيه وثبت له وظن انه لا مزيل لسلطانه، فيأتيه الله من حيث لا يحتسب،ويأخذ ملكه اخذ عزيز مقتدر ثم إن في النزع إشارة على ان من يؤتى سلطانا يطغى فيه ويبغى ولا يسير بسنة الحق والعدل لا يتركه طائعا،بل لابد ان يمكن الله منه من ينزعه من يده،وقد يأخذه منه من كان يأتمنه، ومن مأمنه يؤتى الحذر. وفي كثير من الحيان يكون السبب في زواله هو من كان السبب في طغيانه...
الأمر الثاني الذي تجب الإشارة إليه:ان الله سبحانه وتعالى بمقتضى حكمته وما سن من نظم في هذا الوجود،وما تسير عليه أعماله في خلقه،لا يعطي الملك غلا من يستحقه، ويأخذ بالأسباب العادلة في طلبه،ويقصد به رفعة قومه،ولا ينزعه إلا ممن يسئ ويطغى،ويفهم ان الملك متعة تشتهى وليس تبعات تؤدى،فينزعه منه غيره،وكذلك سنة الله تعالى في الحكم بين الناس:... وكلمة "الملك "ليس المراد منها ما تعارفه الناس من الحكم بمقتضى الوراثة في أسرة،إنما المراد بالملك السلطان في هذه الأرض،سواء أكان سلطانا بالغلب،أم كان سلطانا بالاختيار والانتخاب،أم كان سلطانا بالوراثة،وسواء أكان محدودا بجزء من الدولة،ام ناحية من نواحيها،أم كان عاما شاملا لكل أجزائها تجتمع في يد صاحبه كل السلطات فيها،فكل هذا ملك لأنه سلطان.وقد ذكر سبحانه بعد ذكر الملك يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء العزة... {وتعز من تشاء} العزة ليست مرادفة للسلطان... فلا عزة غلا مع الإيمان بالله وحده،والاعتماد عليه وحده؛ ولذلك لا يكون المنافقون مهما يؤتوا من مال ونسب وسلطان إلا أذلاء...
ولما قال المنافقون في شأن المؤمنين: {ليخرجن العز منها الأذل} [المنافقون 8].نفى سبحانه وتعالى عنهم العزة فقال سبحانه: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن العز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون 8].وكيف يكون المنافق عزيزا وهو الذي جعل نفسه وفكره ولسانه ملكا لغيره؟فهو قد سلب كل شيء حتى قلبه ولسانه...
ومشيئة الله تعالى في العزة والذلة تسير على مقتضى حكمته، فهو لا يعطي العزة إلا لمن خلص قلبه من كل أدران الهوى والشهوة،فالشهوات مردية،ولا يكون عزيزا بين الناس من يكون عبد شهوته؛ فإن العزة تبتدئ من النفس،فإن ضبط المرء أهواءه وشهواته وسيطر عليها أعطاه العزة، فكان بين الناس عزيزا؛ ومن سيطرت عليه أهواؤه ومطامعه وشهواته كتب الله عليه الذلة،وكان الذليل وإن ظهر انه العزيز؛ ولذا كان من حكمة السلف الصالح قولهم:"أذل الحرص أعناق الرجال"...
وفي الجمع بين قوله تعالى: {بيدك الخير} و {إنك على كل شيء قدير} إشارة إلى أمرين: أولهما:أن كل ما يفعله الله تعالى هو خير،فلا يقال إن بيده الخير والشر،فإن الشر معنى نسبي للعبيد،ولكن بالإضافة إلى الله تعالى فإن الله لا يفعل إلا خيرا.ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه:"إن كل أفعال الله تعالى من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله كإيتاء الملك ونزعه". الأمر الثاني: إثبات أن الله تعالى خالق الأسباب،إلا النفع فيكون ما يفعلونه فسادا وضررا عاما...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تتضمن إثبات التدخل المستمر من طرف الحكمة الإلهية، والإرادة الربانية في تعديل موازين القوة، وتغيير نسب السلطة في العالم، على وجه يتحقق به مراد الله في خلقه، ويتحقق به خير البشر على العموم، وتصديقا لهذه الآية وتطبيقا لمقتضاها مكن الله المسلمين من مقاليد الأرض واستخلفهم، فكانوا خير أمة أخرجت للناس...
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} إنه المتصرف في ملكه، وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق الله بدون مراد الله، ولكن الناس حين تخرج عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم، ولذلك فالحق سبحانه يقول في حديثه القدسي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يطوي الله -عز وجل- السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟". إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غصبا من الله. إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد. وإن ظلم الملك في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه، ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما. إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه سبحانه وتعالى مالك الملك وحده...
إن قول الحق هنا: "مالك الملك "توضح لنا أن ملكية الله وهي الدائمة والقادرة واضحة، وجلية، ومؤكدة، ولو قال الله في وصف ذاته:"ملك الملك "لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون بجانب الله، لا، إنه الحق وحده مالك الملك. وما دام الله هو مالك الملك، فإنه يهبه لمن يشاء، وينزعه ممن يشاء...
إن قول الحق: {وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ} تجعلنا نتساءل: ما النزع؟ إنه القلع بشدة، لأن الملك عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك، متشبثا به،...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى: (قل اللّهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء).
إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان، أو يسلبهما ممّن يشاء، فهو الذي يعز، وهو الذي يذل، وهو القادر على كلّ هذه الأُمور، (وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كلّ شيء قدير).
ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموماً. وبناءاً على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.
«خير» صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء، والكلمة تطلق أيضاً على كلّ شيء حسن. بدون مفهوم التفضيل، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه.
وعبارة (بيدك الخير) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين:
الألف واللام في «الخير» هما للاستغراق.
أنّ تقديم الخبر «بيدك» وتأخير المبتدأ «الخير» دليل على الحصر كما هو معلوم. فيكون المعنى: «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك».
كذلك يستفاد من «بيدك الخير» أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحداً أو أذلّه، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل ولا شرّ فيه. فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن، والخير للأخيار أن يكونوا أحراراً.
وبعبارة أخرى: أنه لا وجود للشر في العالم، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور، فعندما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب أن الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقاً.
هذه الآية جاءت دليلاً على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعاً لمشيئته.
الحكومات الصالحة وغير الصالحة:
يُطرح هنا سؤال هام يقول: قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم، أو يسقط منه، فذلك بمشيئة الله. ومن هنا فلابدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ...
ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوماً عامّاً يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم، وأنّ الاستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل. فإذا قام ظَلَمة وطغاة باستغلال أسباب النجاح، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة، وتحمّلت حكمهم الشائن، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل: كيفما كنتم يولّى عليكم.
ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء، وأقامت حكومات عادلة، فإن ذلك أيضاً نتيجةً لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.
في الواقع، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أُناس غير صالحين.
خلاصة القول: إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.