{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } أي : إلى وقت مقدر فتباطأوه ، لقالوا من جهلهم وظلمهم { مَا يَحْبِسُهُ } ومضمون هذا تكذيبهم به ، فإنهم يستدلون بعدم وقوعه بهم عاجلا على كذب الرسول المخبر بوقوع العذاب ، فما أبعد هذا الاستدلال "
{ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } العذاب { لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ } فيتمكنون من النظر في أمرهم .
{ وَحَاقَ بِهِمْ } أي : نزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } من العذاب ، حيث تهاونوا به ، حتى جزموا بكذب من جاء به .
شأنهم في التكذيب بالبعث ، وجهلهم بارتباطه بناموس الكون ، هو شأنهم في مسألة العذاب الدنيوي ، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره ، إذا ما اقتضت الحكمة الأزلية أن يتأخر عنهم فترة من الوقت : ( ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن : ما يحبسه ؟ ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون )
لقد كانت القرون الأولى تهلك بعذاب من عند الله يستأصلها ، بعد أن يأتيهم رسولهم بالخوارق التي يطلبونها ثم يمضون هم في التكذيب . ذلك أنها كانت رسالات مؤقتة لأمة من الناس ، ولجيل واحد من هذه الأمة . والمعجزة كذلك لا يشهدها إلا هذا الجيل ، ولا تبقى لتشاهدها أجيال أخرى لعلها تؤمن بها أكثر مما آمن الجيل الذي شهدها أول مرة .
فأما الرسالة المحمدية فقد كانت خاتمة الرسالات ، ولجميع الأقوام وجميع الأجيال ، وكانت المعجزة التي صاحبتها معجزة غير مادية ، فهي قابلة للبقاء ، قابلة لأن تتدبرها أجيال وأجيال ، وتؤمن بها أجيال وأجيال ، ومن ثم اقتضت الحكمة ألا تؤخذ هذه الأمة بعذاب الاستئصال . وأن يقع العذاب على أفراد منها في وقت معلوم . . وكذلك كان الحال في الأمم الكتابية قبلها من اليهود والنصارى ، فلم يعم فيهم عذاب الاستئصال .
ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخاصة بخلق الإنسان على هذا النحو من القدرة على الاختيار والاتجاه ؛ وخلق السماوات والأرض على نحو يسمح له بالعمل والنشاط والبلاء ينكرون البعث . وفي جهلهم بسنن الله في الرسالات والمعجزات والعذاب يتساءلون إذا ما أخر عنهم إلى أمة من السنوات أو الأيام - أي مجموعة منها - ما يحبسه ؟ وما يؤخره ؟ فلا يدركون حكمة الله ولا رحمته . وهو يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ، بل يحيط بهم ، جزاء لاستهزائهم الذي يدل عليه سؤالهم واستهتارهم :
ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
إن عذاب الله لا تستعجله نفس مؤمنة ولا نفس جادة . وإذا ما أبطأ فهي حكمة ورحمة . ليؤمن من يتهيأ للإيمان .
وفي فترة التأجيل التي صرف الله العذاب فيها عن مشركي قريش ، كم آمن منهم من رجال حسن إسلامهم وأبلوا أحسن البلاء . وكم ولد لكفارهم من ذرية نشأت فيما بعد في الإسلام . . وهذه وتلك بعض الحكم الظاهرة والله يعلم ما بطن . ولكن البشر القاصرين العجولين لا يعلمون .
وقوله : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } يقول تعالى : ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور ، وأوعدناهم به إلى مدة مضروبة ، ليقولن تكذيبا واستعجالا { مَا يَحْبِسُهُ } أي : يؤخر هذا العذاب عنا ، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك ، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد .
و " الأمة " تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة ، فيراد بها : الأمد ، كقوله في هذه الآية : { إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } وقوله في [ سورة ]{[14507]} يوسف : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، وتستعمل في الإمام المقتدى به ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] ، وتستعمل في الملة والدين ، كقوله إخبارا عن المشركين أنهم قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، وتستعمل في الجماعة ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [ يونس : 47 ] .
والمراد من الأمة هاهنا : الذين يبعث فيهم الرسول{[14508]} مؤمنهم وكافرهم ، كما [ جاء ]{[14509]} في صحيح مسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " {[14510]} .
وأما أمة الأتباع ، فهم المصدقون للرسل ، كما قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وفي الصحيح : " فأقول : أمتي أمتي " .
وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة ، كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ، وقال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] .
{ ولئن أخّرنا عنهم العذاب } الموعود . { إلى أمّة معدودة } إلى جماعة من الأوقات قليلة . { ليقولنّ } استهزاء . { ما يحبسه } ما يمنعه من الوقوع . { ألا يوم يأتيهم } كيوم بدر . { ليس مصروفا عنهم } ليس العذاب مدفوعا عنهم ، و{ يوم } منصوب بخير { ليس } مقدم عليه وهو دليل على جواز تقديم خبرها عليها . { وحاق بهم } وأحاط بهم وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا ومبالغة في التهديد . { ما كانوا به يستهزئون } أي العذاب الذي كانوا به يستعجلون ، فوضع { يستهزئون } موضع يستعجلون لأن استعجالهم كان استهزاء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.