ثم أراه الآية الأخرى فقال : { اسْلُكْ يَدَكَ } أي : أدخلها { فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } فسلكها وأخرجها ، كما ذكر اللّه تعالى .
{ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } أي ضم جناحك وهو عضدك إلى جنبك يزول عنك الرهب والخوف . { فَذَانِكَ } انقلاب العصا حية ، وخروج اليد بيضاء من غير سوء { بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } أي : حجتان قاطعتان من اللّه ، { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } فلا يكفيهم مجرد الإنذار وأمر الرسول إياهم ، بل لا بد من الآيات الباهرة ، إن نفعت .
( اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ) . .
وأطاع موسى الأمر ، وأدخل يده في فتحة ثوبه عند صدره ثم أخرجها . فإذا هي المفاجأة الثانية في اللحظة الواحدة . إنها بيضاء لامعة مشعة من غير مرض ، وقد عهدها أدماء تضرب إلى السمرة . إنها إشارة إلى إشراق الحق ووضوح الآية ونصاعة الدليل .
وأدركت موسى طبيعته . فإذا هو يرتجف من رهبة الموقف وخوارقه المتتابعة . ومرة أخرى تدركه الرعاية الحانية بتوجيه يرده إلى السكينة . ذلك أن يضم يده على قلبه ، فتخفض من دقاته ، وتطامن من خفقاته :
( واضمم إليك جناحك من الرهب ) . .
وكأنما يده جناح يقبضه على صدره ، كما يطمئن الطائر فيطبق جناحه . والرفرفة أشبه بالخفقان ، والقبض أشبه بالإطمئنان . والتعبير يرسم هذه الصورة على طريقة القرآن .
والآن وقد تلقى موسى ما تلقى ، وقد شاهد كذلك ما شاهد ، وقد رأى الآيتين الخارقتين ، وقد ارتجف لهما ثم اطمأن . . الآن يعرف ما وراء الآيات ، والآن يتلقى التكليف الذي كان يعد من طفولته الباكرة ليتلقاه . .
( فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه . إنهم كانوا قوما فاسقين ) . .
وإذن فهي الرسالة إلى فرعون وملئه . وإذن فهو الوعد الذي تلقته أم موسى وهو طفل رضيع : ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) . . الوعد اليقين الذي انقضت عليه السنون . وعد الله لا يخلف الله وعده وهو أصدق القائلين .
ثم قال الله له : { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : إذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ؛ ولهذا قال : { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : من غير برص .
وقوله : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } : قال مجاهد : من الفزع . وقال قتادة : من الرعب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير : مما حصل لك من خوفك من الحية .
والظاهر أن المراد أعم من هذا ، وهو أنه أمر عليه السلام ، إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب ، وهي يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف . وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يديه على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجد أو يَخف ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
قال{[22310]} ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الربيع بن ثعلب الشيخ الصالح ، أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب ، عن عبد الله بن مسلم ، عن مجاهد ، قال{[22311]} : كان موسى عليه السلام ، قد مُلئ قلبه رعبًا من فرعون ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، ففرّغ{[22312]} الله ما كان في قلب موسى عليه السلام ، وجعله في قلب فرعون ، فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار .
وقوله : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ } يعني : إلقاءه العصا وجعلها حية تسعى ، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء - دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار ، وصحة نبوة مَنْ جرى هذا الخارق على يديه ؛ ولهذا قال : { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع ، { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } أي : خارجين عن طاعة الله ، مخالفين لدين الله ، [ والله أعلم ]{[22313]} .
وقوله : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ يقول : أدخل يدك . وفيه لغتان : سلكته ، وأسلكته فِي جَيْبِكَ يقول : في جيب قميصك . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ : أي في جيب قميصك .
وقد بيّنا فيما مضى السبب الذي من أجله أُمر أن يدخل يده في الجيب دون الكمّ .
وقوله : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ يقول : تخرج بيضاء من غير برص . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا ابن المفضل ، قال : حدثنا قرة بن خالد ، عن الحسن ، في قوله : اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ قال : فخرجت كأنها المصباح ، فأيقن موسى أنه لقي ربه .
وقوله : وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ يقول : واضمم إليك يدك . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال ابن عباس وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ قال : يدك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ قال : وجناحاه : الذراع . والعضد : هو الجناح . والكفّ : اليد ، اضْمُمْ يَدَكَ إلَى جَنَاحِك تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ .
وقوله : مِنَ الرّهْبِ يقول : من الخوف والفرَق الذي قد نالك من معاينتك ما عاينت من هول الحية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله مِنَ الرّهْبِ قال : الفَرَق .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة وَاضْمُمْ إلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرّهْبِ : أي من الرعب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله مِنَ الرّهْبِ قال : مما دخله من الفَرَق من الحية والخوف ، وقال : ذلك الرهب ، وقرأ قول الله يَدْعُونَنا رَغَبا وَرَهَبا قال : خوفا وطمعا .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل الحجاز والبصرة : «مِنَ الرّهَب » بفتح الراء والهاء . وقرأته عامة قرّاء الكوفة : «مِنَ الرّهْبِ » بضم الراء وتسكين الهاء ، والقول في ذلك أنهما قراءتان متفقتا المعنى مشهورتان في قرّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبّكَ يقول تعالى ذكره : فهذان اللذان أريتكهما يا موسى من تحوّل العصا حية ، ويدك وهي سمراء ، بيضاء تلمع من غير برص ، برهانان : يقول : آيتان وحجتان وأصل البرهان : البيان ، ويقال للرجل يقول القول إذا سئل الحجة عليه : هات برهانك على ما تقول : أي هات تبيان ذلك ومصداقه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فَذَانِكَ برهانانِ مِنْ رَبّكَ العصا واليد آيتان .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبّكَ تبيانان من ربك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبّكَ هذان برهانان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَذَانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبكَ فقرأ : هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ على ذلك آية نعرفها ، وقال : بُرْهَانَانِ آيتان من الله .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : فَذَانِكَ فقرأته عامة قرّاء الأمصار ، سوى ابن كثير وأبي عمرو : فَذَانِكَ بتخفيف النون ، لأنها نون الاثنين ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : «فَذَانّكَ » بتشديد النون .
واختلف أهل العربية في وجه تشديدها ، فقال بعض نحويّي البصرة : ثقل النون من ثقلها للتوكيد ، كما أدخلوا اللام في ذلك . وقال بعض نحويّي الكوفة : شددت فرقا بينها وبين النون التي تسقط للإضافة ، لأن هاتان وهذان لا تضاف . وقال آخر منهم : هو من لغة من قال : هذا قال ذلك ، فزاد على الألف ألفا ، كذا زاد على النون نونا ليفصل بينهما وبين الأسماء المتمكنة ، وقال في ذانك إنما كانت ذلك فيمن قال : هذان يا هذا ، فكرهوا تثنية الإضافة فأعقبوها باللام ، لأن الإضافة تعقب باللام . وكان أبو عمرو يقول : التشديد في النون في ذَانِكَ من لغة قريش إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ يقول : إلى فرعون وأشراف قومه ، حجة عليهم ، ودلالة على حقيقة نبوّتك يا موسى إنّهُمْ كانُوا قَوْما فاسِقِينَ يقول : إن فرعون وملأه كانوا قوما كافرين .
{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب }
وقوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه ، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى . وهي ألفاظ : جناح ، ورهب ، وحرف { من } . فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر . وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري . قال بعضهم : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً وإن قوله { من الرهب } متعلق بقوله { ولى مدبراً } على أن { من } حرف للتعليل ، أي أدبر لسبب الخوف ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل { ولى } وبين { من الرهب } .
وقيل الجناح : اليد ، ولا يحسن أن يكون مجازاً عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله { اسلُك يدك في جيبك } وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد . وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في « الكشاف » بعيد ، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عُزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد . وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان . وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن . ولذا فالوجه أن قوله { واضمم إليك جناحك } تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطيران أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف . ويكون { من } هنا للبدلية ، أي اسكن سكون الطائر بدلاً من أن تطير خوفاً .
وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل : وأصله لأبي علي الفارسي . و { الرهب } معروف أنه الخوف كقوله تعالى { يدعوننا رغباً ورهباً } [ الأنبياء : 90 ] .
والمعنى : انكفف عن التخوف من أمر الرسالة . وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده { قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون } [ القصص : 33 ] فقوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } في معنى قوله تعالى { فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون } [ القصص : 35 ] .
وقرأ الجمهور { الرهب } بفتح الراء والهاء ، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء . وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة .
{ فَذَانِكَ برهانان مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قوما فاسقين } .
تفريع على قوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } والإشارة إلى العصا وبياض اليد . والبرهان : الحجة القاطعة . و { من } للابتداء ، و { إلى } للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم .
وجملة { إنهم كانوا قوماً فاسقين } تعليل لجملة { فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه } لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله { كانوا } . وقوله { قوماً } كما تقدم في قوله تعالى { لآيات لقوم يعقلون } في سورة [ البقرة : 164 ] . والفسق : الإشراك بالله .
وقرأ الجمهور { فذانك } بتخفيف النون من ( ذانك ) على الأصل في التثنية . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون { فذانك } وهي لغة تميم وقيس . وعلّلها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من ( ذا ) و ( تا ) المحذوفة لأجل صيغة التثنية . وفي « الكشاف » : أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال « فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك » . وهذا أحسن .