{ 7 - 9 } { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
يخبر تعالى عن كمال لطفه تعالى بعباده المؤمنين ، وما قيض لأسباب سعادتهم من الأسباب الخارجة عن قدرهم ، من استغفار الملائكة المقربين لهم ، ودعائهم لهم بما فيه صلاح دينهم وآخرتهم ، وفي ضمن ذلك الإخبار عن شرف حملة العرش ومن حوله ، وقربهم من ربهم ، وكثرة عبادتهم ونصحهم لعباد الله ، لعلمهم أن الله يحب ذلك منهم فقال : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } أي : عرش الرحمن ، الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها وأوسعها وأحسنها ، وأقربها من الله تعالى ، الذي وسع الأرض والسماوات والكرسي ، وهؤلاء الملائكة ، قد وكلهم الله تعالى بحمل عرشه العظيم ، فلا شك أنهم من أكبر الملائكة وأعظمهم وأقواهم ، واختيار الله لهم لحمل عرشه ، وتقديمهم في الذكر ، وقربهم منه ، يدل على أنهم أفضل أجناس الملائكة عليهم السلام ، قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }
{ وَمَنْ حَوْلَهُ } من الملائكة المقربين في المنزلة والفضيلة { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } هذا مدح لهم بكثرة عبادتهم للّه تعالى ، وخصوصًا التسبيح والتحميد ، وسائر العبادات تدخل في تسبيح الله وتحميده ، لأنها تنزيه له عن كون العبد يصرفها لغيره ، وحمد له تعالى ، بل الحمد هو العبادة للّه تعالى ، وأما قول العبد : " سبحان الله وبحمده " فهو داخل في ذلك وهو من جملة العبادات .
{ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } وهذا من جملة فوائد الإيمان وفضائله الكثيرة جدًا ، أن الملائكة الذين لا ذنوب عليهم يستغفرون لأهل الإيمان ، فالمؤمن بإيمانه تسبب لهذا الفضل العظيم .
ثم ولما كانت المغفرة لها لوازم لا تتم إلا بها -غير ما يتبادر إلى كثير من الأذهان ، أن سؤالها وطلبها غايته مجرد مغفرة الذنوب- ذكر تعالى صفة دعائهم لهم بالمغفرة ، بذكر ما لا تتم إلا به ، فقال : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } فعلمك قد أحاط بكل شيء ، لا يخفى عليك خافية ، ولا يعزب عن علمك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ورحمتك وسعت كل شيء ، فالكون علويه وسفليه قد امتلأ برحمة الله تعالى ووسعتهم ، ووصل إلى ما وصل إليه خلقه .
{ فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا } من الشرك والمعاصي { وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } باتباع رسلك ، بتوحيدك وطاعتك . { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : قهم العذاب نفسه ، وقهم أسباب العذاب .
ويتصل بتلك الحقيقة الأولى أن حملة العرش ومن حوله - وهم من بين القوى المؤمنة في هذا الوجود - يذكرون المؤمنين من البشر عند ربهم ، ويستغفرون لهم ، ويستنجزون وعد الله إياهم ؛ بحكم رابطة الإيمان بينهم وبين المؤمنين :
( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ، ويؤمنون به ، ويستغفرون للذين آمنوا . ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ، وقهم عذاب الجحيم . ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ؛ إنك أنت العزيز الحكيم . وقهم السيئات - ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته - وذلك هو الفوز العظيم ) . .
ونحن لا نعرف ما هو العرش ? ولا نملك صورة له ، ولا نعرف كيف يحمله حملته ، ولا كيف يكون من حوله ، حوله ؛ ولا جدوى من الجري وراء صور ليس من طبيعة الإدراك البشري أن يلم بها ، ولا من
الجدل حول غيبيات لم يطلع الله أحداً من المتجادلين عليها ؛ وكل ما يتصل بالحقيقة التي يقررها سياق السورة أن عباداً مقربين من الله ، ( يسبحون بحمد ربهم ) . ( ويؤمنون به ) . . وينص القرآن على إيمانهم - وهو مفهوم بداهة - ليشير إلى الصلة التي تربطهم بالمؤمنين من البشر . . هؤلاء العباد المقربون يتوجهون بعد تسبيح الله إلى الدعاء للمؤمنين من الناس بخير ما يدعو به مؤمن لمؤمن .
وهم يبدأون دعاءهم بأدب يعلمنا كيف يكون أدب الدعاء والسؤال . يقولون :
( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً ) . .
يقدمون بين يدي الدعاء بأنهم - في طلب الرحمة للناس - إنما يستمدون من رحمة الله التي وسعت كل شيء ويحيلون إلى علم الله الذي وسع كل شيء ؛ وأنهم لا يقدمون بين يدي الله بشيء ؛ إنما هي رحمته وعلمه منهما يستمدون وإليهما يلجأون :
( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ) . .
وتلتقي هذه الإشارة إلى المغفرة والتوبة بمطلع السورة ، وبصفة الله هناك : ( غافر الذنب وقابل التوب ) . . كما تلتقي الإشارة إلى عذاب الجحيم ، بصفة الله : ( شديد العقاب ) . .
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة ، ومن حوله من الكروبيين ، بأنهم يسبحون بحمد ربهم ، أي : يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ، { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : خاشعون له أذلاء بين يديه ، وأنهم { يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } أي : من أهل الأرض ممن آمن بالغيب ، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب ، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب ، كما ثبت في صحيح مسلم : " إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله " {[25425]} .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة ، عن عكرمة عن ابن عباس {[25426]} [ رضي الله عنه ] {[25427]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدّق أمية في شيء من شعره ، فقال :
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه *** وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق " . فقال :
وَالشمس تَطلعُ كل آخر لَيْلةٍ*** حَمْراءُ يُصْبحُ لَونُها يَتَوَرّدُ
تَأبَى فَما تَطلُع لَنَا في رِسْلها***إلا معَذّبَة وَإلا تُجْلدُ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " صدق " {[25428]} .
وهذا إسناد جيد : وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية ، كما قال تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة : 17 ] .
وهنا سؤال وهو أن يقال : ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ، ودلالة هذا الحديث ؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود : حدثنا محمد بن الصباح البزار ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سِماك ، عن عبد الله بن عَمِيرة {[25429]} ، عن الأحنف بن قيس ، عن العباس بن عبد المطلب ، قال : كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة ، فنظر إليها فقال : " ما تسمون هذه ؟ " قالوا : السحاب . قال : " والمزن ؟ " قالوا : والمزن . قال : " والعَنَان ؟ " قالوا : والعنان - قال أبو داود : ولم أتقن العنان جيدًا - قال : " هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض ؟ " قالوا : لا ندري . قال : " بُعد ما بينهما إما واحدة ، أو اثنتان ، أو ثلاث {[25430]} وسبعون سنة ، ثم السماء فوقها كذلك " حتى عَدّ سبع سموات " ثم فوق السماء السابعة بحر {[25431]} ، بين {[25432]} أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال ، بين أظلافهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ، ثم الله ، عز وجل ، فوق ذلك " ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من حديث سماك بن حرب ، به {[25433]} . وقال الترمذي : حسن غريب .
وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية ، كما قال شَهْر بن حَوْشَب : حملة العرش ثمانية ، أربعة يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك " . وأربعة يقولون : " سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك " .
ولهذا يقولون إذا استغفروا {[25434]} للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } أي : إن رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك محيط بجميع أعمالهم [ وأقوالهم ] {[25435]} وحركاتهم وسكناتهم ، { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ } أي : فاصفح عن المسيئين {[25436]} إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه ، واتبعوا ما أمرتهم به ، من فعل الخيرات وترك المنكرات ، { وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : وزحزحهم عن عذاب الجحيم ، وهو العذاب الموجع الأليم {[25437]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }
يقول تعالى ذكره : الذين يحملون عرش الله من ملائكته ، ومن حول عرشه ، ممن يحفّ به من الملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ يقول : يصلون لربهم بحمده وشكره وَيُؤْمِنُونَ بِهِ يقول : ويقرّون بالله أنه لا إله لهم سواه ، ويشهدون بذلك ، لا يستكبرون عن عبادنه وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا يقول : ويسألون ربهم أن يغفر للذين أقرّوا بمثل إقرارهم من توحيد الله ، والبراءة من كلّ معبود سواه ذنوبهم ، فيعفوها عنهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيَسْتَغْفِرُونَ للّذِينَ آمَنُوا لأهل لا إله إلا الله .
وقوله : رَبّنا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما ، وفي هذا الكلام محذوف ، وهو يقولون ومعنى الكلام ويستغفرون للذين آمنوا يقولون : يا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما . ويعني بقوله : وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما : وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء من خلقك ، فعلمت كلّ شيء ، فلم يخف عليك شيء ، ورحمت خلقك ، ووسعتهم برحمتك .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب الرحمة والعلم ، فقال بعض نحويي البصرة : انتصاب ذلك كانتصاب لك مثله عبدا ، لأنك قد جعلت وسعت كلّ شيء ، وهو مفعول له ، والفاعل التاء ، وجاء بالرحمة والعلم تفسيرا ، وقد شغلت عنهما الفعل كما شغلت المثل بالهاء ، فلذلك نصبته تشبيها بالمفعول بعد الفاعل وقال غيره : هو من المنقول ، وهو مفسر ، وسعت رحمته وعلمه ، ووسع هو كلّ شيء رحمة ، كما تقول : طابت به نفسي ، وطبت به نفسا ، وقال : أمالك مثله عبدا ، فإن المقادير لا تكون إلا معلومة مثل عندي رطل زيتا ، والمثل غير معلوم ، ولكن لفظه لفظ المعرفة والعبد نكرة ، فلذلك نصب العبد ، وله أن يرفع ، واستشهد لقيله ذلك بقول الشاعر :
ما في مَعَدّ والقَبائِلِ كُلّها *** قَحْطانَ مِثْلُكَ وَاحِدٌ مَعْدودُ
وقال : رد «الواحد » على «مثل » لأنه نكرة ، قال : ولو قلت : ما مثلك رجل ، ومثلك رجل ، ومثلك رجلاً ، جاز ، لأن مثل يكون نكرة ، وإن كان لفظها معرفة .
وقوله : فاغْفِرِ للّذِينَ تابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : فاصفح عن جرم من تاب من الشرك بك من عبادك ، فرجع إلى توحيدك ، واتبع أمرك ونهيك ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فاغْفِرْ للّذِينَ تابُوا من الشرك .
وقوله : واتّبَعُوا سَبِيلَكَ يقول : وسلكوا الطريق الذي أمرتهم أن يسلكوه ، ولزموا المنهاج الذي أمرتهم بلزومه ، وذلك الدخول في الإسلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة واتّبَعُوا سَبِيلَكَ : أي طاعتك .
وقوله : وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ يقول : واصرف عن الذين تابوا من الشرك ، واتبعوا سبيلك عذاب النار يوم القيامة .
ثم أخبر تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم ، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش والذين حول العرش ، وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ويسألون الله لهم الرحمة والجنة ، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية : { كان على ربك وعداً مسوؤلاً }{[9967]} أي سألته الملائكة ، وفسر في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى في غير هذه الآية { ويستغفرون لمن في الأرض }{[9968]} لأنه معلوم أن الملائكة لاتستغفر لكافر ، وقد يجو أن يقال معنى ذلك أنهم يستغفرون للكفار ، بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم بعد ذلك ، وعلى هذا النحو هو استغفار إبراهيم لأبيه واستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين . وبلغني أن رجلاً قال لبعض الصالحين ادع لي واستغفر لي ، فقال له : تب واتبع سبيل الله يستغفر لك من هوخير مني ، وتلا هذه الآية . وقال مطرف بن الشخير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغش العباد للعباد الشياطين ، وتلا هذه الآية . وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة »{[9969]} وقرأت فرقة : «العُرش » بضم العين ، والجمهور على فتحها .
وقوله تعالى : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } نصب الرحمة على التمييز وفيه حذف تقديره : يقولون ، ومعناه : وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، وهذا نحو قولهم : تفقأت شحماً{[9970]} وتصببت عرقاً وطبت نفساً . وسبيل الله المتبعة : هي الشرائع .
استئناف ابتدائي اقتضاه الانتقال من ذكر الوعيد المؤذن بذم الذين كفروا إلى ذكر الثناء على المؤمنين ، فإن الكلام الجاري على ألسنة الملائكة مثل الكلام الجاري على ألسنة الرسل إذ الجميع من وحي الله ، والمناسبة المضادَّةُ بين الحالين والمقالين .
ويجوز أن يكون استئنافاً بيانياً ناشئاً عن وعيد المجادلين في آيات الله أن يسأل سائل عن حال الذين لا يجادلون في آيات الله فآمنوا بها .
وخص في هذه الآية طائفة من الملائكة موصوفة بأوصاف تقتضي رفعة شأنهم تذرعاً من ذلك إلى التنويه بشأن المؤمنين الذين تستغفر لهم هذه الطائفة الشريفة من الملائكة ، وإلا فإن الله قد أسند مثل هذا الاستغفار لعموم الملائكة في قوله في سورة [ الشورى : 5 ] { والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض } أي من المؤمنين بقرينة قوله فيها بعده : { والذين اتخذوا من دونه أولياء اللَّه حفيظ عليهم } [ الشورى : 6 ] .
و { الذين يحمِلُون العَرْش } هم الموكَّلون برفع العرش المحيط بالسماوات وهو أعظم السماوات ، ولذلك أضيف إلى الله في قوله تعالى : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] .
( و { من حَوله } طائفة من الملائكة تحفّ بالعرش تحقيقاً لعظمته قال تعالى : { وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم } [ الزمر : 75 ] ، ولا حاجة إلى الخوض في عددهم { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] .
والإِخبار عن صنفي الملائكة بأنهم يسبحون ويؤمنون به ؛ توطئة وتمهيد للإخبار عنهم بأنهم يستغفرون للذين آمنوا فذلك هو المقصود من الخبر ، فقدم له ما فيه تحقيق استجابة استغفارهم لصدوره ممن دأبهم التسبيح وصفتهم الإِيمان .
وصِيغةُ المضارع في { يسبحون } و { يؤمنون } و { يستغفرون } مفيدة لتجدد ذلك وتكرره ، وذلك مشعر بأن المراد أنهم يفعلون ذلك في الدنيا كما هو الملائم لقوله : { فاغفر للذين تابوا } وقوله : { وأدخِلهم جَنَّات عَدنٍ التي وعَدتَّهُم } [ غافر : 8 ] وقوله : { ومَن تَقِ السَّيِئات } [ غافر : 9 ] الخ وقد قال في الآية الأخرى { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] أي من المؤمنين كما تقدم .
ومعنى تجدد الإِيمان المستفاد من { ويؤمنون } تجدد ملاحظته في نفوس الملائكة وإلا فإن الإِيمان عقد ثابت في النفوس وإنما تجدده بتجدد دلائله وآثاره . وفائدة الإخبار عنهم بأنهم يؤمنون مع كونه معلوماً في جانب الملائكة التنويهُ بشأن الإِيمان بأنه حال الملائكة ، والتعريضُ بالمشركين أن لم يكونوا مثل أشرف أجناس المخلوقات مثل قوله تعالى في حق إبراهيم { وما كان من المشركين } [ الأنعام : 161 ] .
وجملة { رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَحْمَة وعِلمَاً } مبيّنة ل { يستغفرون } ، وفيها قول محذوف دلت عليه طريقة التكلم في قولهم : { ربنا } .
والباء في { بِحَمْد رَبهِم } للملابسة ، أي يسبحون الله تسبيحاً مصاحباً للحمد ، فحذف مفعول { يسبحون } لدلالة المتعلِّق به عليه .
والمراد ب { الذين آمنوا } المؤمنون المعهودون وهم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنهم المقصود في هذا المقام وإن كان صالحاً لكل المؤمنين .
وافتتح دعاء الملائكة للمؤمنين بالنداء لأنه أدخل في التضرع وأرجى للإِجابة ، وتوجهوا إلى الله بالثناء بسعة رحمته وعلمه لأن سعة الرحمة مما يُطمِع باستجابة الغفران ، وسعة العلم تتعلق بثبوت إيمانِ الذين آمنوا .
ومعنى السعة في الصفتين كثرة تعلقاتهما ، وذكر سعة العلم كناية عن يقينهم بصدق إيمان المؤمنين فهو بمنزلة قول القائل ، أنت تعلم أنهم آمنوا بك ووحّدوك .
وجيء في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة والعلم الواسع بأسلوب التمييز المحوَّل عن النسبة لما في تركيبه من المبالغة بإسناد السعة إلى الذات ظاهراً حتى كأنَّ ذاته هي التي وَسِعَتْ ، فذلك إجمال يستشرف به السامع إلى ما يرِد بعدَه فيجيء بعده التمييز المبيِّن لنسبة السعة أنها من جانب الرحمة وجانب العلم ، وهي فائدة تمييز النسبة في كلام العرب ، لأن للتفصيل بعد الإِجمال تمكيناً للصفة في النفس كما في قوله تعالى : { واشتعل الرأس شيباً } [ مريم : 4 ] . والمراد أن الرحمة والعلم وَسِعَا كل موجود ، الآن ، أي في الدنيا وذلك هو سياق الدعاء كما تقدم آنفاً ، فما من موجود في الدنيا إلا وقد نالته قسمة من رحمة الله سواء في ذلك المؤمن والكافر والإِنسان والحيوان .
و { كُلَّ شيءٍ } كل موجود ، وهو عام مخصوص بالعقل بالنسبة للرحمة ، أي كل شيء محتاج إلى الرحمة ، وتلك هي الموجودات التي لها إدراك تدرك به الملائم والمنافر والنافع والضار ، من الإِنسان والحيوان ، إذ لا فائدة في تعلق الرحمة بالحَجر والشجر ونحوهما . وأما بالنسبة إلى العلم فالعموم على بابه قال تعالى : { ألا يعلم من خلق } [ الملك : 14 ] .
ولما كان سياق هذا الدعاء أنه واقع في الدنيا كما تقدم اندفع ما عسى أن يقال إن رحمة الله لا تسع المشركين يوم القيامة إذ هم في عذاب خالد فلا حاجة إلى تخصيص عموم كل شيء بالنسبة إلى سعة الرحمة بمخصصات الأدلة المنفصلة القاضية بعدم سعة رحمة الله للمشركين بعد الحساب .
وتَفَرع على هذه التوطئة بمناجاة الله تعالى ما هو المتوسَّل إليه منها وهو طلب المغفرة للذين تابوا لأنه إذا كان قد عَلم صدق توبة من تاب منهم وكانت رحمته وسعت كلَّ شيء فقد استحقوا أن تشملهم رحمته لأنهم أحرياء بها .
ومفعولُ { فاغفر } محذوف للعلم ، أي اغفر لهم ما تابوا منه ، أي ذنوب الذين تابوا . والمراد بالتوبة : الإِقلاع عن المعاصي وأعظمها الإشراك بالله .
واتباع سبيل الله هو العمل بما أمرهم واجتنابُ ما نهاهم عنه ، فالإِرشاد يشبه الطريق الذي رسمه الله لهم ودلهم عليه فإذا عملوا به فكأنهم اتبعوا السبيل فمشَوا فيه فوصلوا إلى المقصود .
{ وَقِهم عذاب الجحيم } عطف على { فاغفر } فهو من جملة التفريع فإن الغفران يقتضي هذه الوقاية لأن غفران الذنب هو عدم المؤاخذة به . وعذاب الجحيم جعله الله لِجزاء المذنبين ، إلا أنهم عضدوا دلالة الالتزام بدلالة المطابقة إظهاراً للحرص على المطلوب . والجحيم : شدة الالتهاب ، وسميت به جهنم دارُ الجزاء على الذنوب .