{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ } ملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم بحكمه القدري ، وحكمه الشرعي . { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ْ } أي : قد أحاط علمه بما أنتم عليه ، من خير وشر ، وعلم جميع أعمالكم ، أحصاها علمه ، وجرى بها قلمه ، وكتبتها عليكم الحفظة الكرام الكاتبون .
{ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ْ } في يوم القيامة { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ْ } يخبرهم بجميع أعمالهم ، دقيقها وجليلها ، إخبارا مطابقا لما وقع منهم ، ويستشهد عليهم أعضاءهم ، فلا يعدمون منه فضلا أو عدلا . ولما قيد علمه بأعمالهم ، ذكر العموم بعد الخصوص ، فقال : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ }
( ألا إن لله ما في السماوات والأرض . قد يعلم ما أنتم عليه ؛ ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا . والله بكل شيء عليم ) . .
وهكذا تختم السورة بتعليق القلوب والأبصار بالله ؛ وتذكيرها بخشيته وتقواه . فهذا هو الضمان الأخير . وهذا هو الحارس لتلك الأوامر والنواهي ، وهذه الأخلاق والآداب ، التي فرضها الله في هذه السورة وجعلها كلها سواء . .
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه عالم غيب السموات والأرض ، وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم ، فقال : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } و " قد " للتحقيق ، كما قال قبلها : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، وقال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [ الأحزاب : 18 ] . وقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ المجادلة : 1 ] ، وقال : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [ الأنعام : 33 ] ، وقال : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ] } {[21389]} [ البقرة : 144 ] فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل ب " قد " ، كما يقول المؤذن تحقيقًا وثبوتًا : " قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة " فقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أي : هو عالم به ، مشاهد له ، لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ الشعراء : 217 - 220 ] . وقال : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ يونس : 61 ] ، {[21390]} وقال تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] أي : هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر . وقال تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ] } [ هود : 5 ]{[21391]} ، وقال تعالى : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [ الرعد : 10 ] ، وقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ] ، وقال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا .
وقوله : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } أي : ويوم تَرْجِعُ{[21392]} الخلائق إلى الله - وهو يوم القيامة - { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } أي : يخبرهم بما فعلوا في الدنيا ، مِنْ جليل وحقير ، وصغير وكبير ، كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] . وقال : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] . ولهذا قال هاهنا : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والحمد لله رب العالمين ، ونسأله التمام .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلآ إِنّ للّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : ألاَ إنّ لله مُلْكُ جميع السّمَوَاتِ والأَرْضِ يقول : فلا ينبغي لمملوك أن يخالف أمر مالكه فيعصيَه ، فيستوجب بذلك عقوبته . يقول : فكذلك أنتم أيها الناس ، لا يصلح لكم خلاف ربكم الذي هو مالككم ، فأطيعوه وأتَمروا لأمره ولا تنصرفوا عن رسوله إذا كنتم معه على أمر جامع إلا بإذنه .
وقوله : قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ من طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم من ذلك ، كما :
حدثني أيضا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قَدْ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ صنيعكم هذا أيضا .
وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إلَيْهِ يقول : ويوم يَرْجع إلى الله الذين يخالفون عن أمره . فيُنَبّئُهُم يقول : فيخبرهم حينئذٍ ، بِمَا عَمِلُوا في الدنيا ، ثم يجازيهم على ما أسلفوا فيها ، من خلافهم على ربهم . وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : والله ذو علم بكل شيء عملتموه أنتم وهم وغيركم وغيرك ذلك من الأمور ، لا يخفي عليه شيء ، بل هو محيط بذلك كله ، وهو مُوَفَ كلّ عامل منكم أجر عمله يوم ترجعون إليه .
ثم أخبرهم أنه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه وخص منهم بالذكر المخاطبين لأن ذلك موضع الحجة عليهم وهم به أعني وقوله : { ويوم يرجعون } يجوز أن يكون معمولاً لقوله { يعلم } ويجوز أن يكون التقدير والعلم الظاهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون النصب على الظرف ، وقرأ الجمهور «يُرجَعون » بضم الياء وفتح الجيم ، وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمر «يَرجِعون » بفتح الياء وكسر الجيم ، وقال عقبة بن عامر الجهني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية خاتمة النور فقال «والله بكل شيء بصير »{[8775]} وباقي الآية بين .