اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قَدۡ يَعۡلَمُ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ وَيَوۡمَ يُرۡجَعُونَ إِلَيۡهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (64)

قوله تعالى : { ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } أي : ملكاً وعبيداً ، وهذا تنبيه على كمال قدرته تعالى عليهما ، وعلى ما بينهما وفيهما{[35245]} .

قوله : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } . قال الزمخشري{[35246]} : أدخل «قد » ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ، ويرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد ، وذلك أن «قد » إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «رُبَّما » فوافقت «ربما » في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله :

فَإِنْ يُمْسي مَهْجُورَ الفَنَاءِ فَرُبَّمَا *** أقام به بَعْدَ الوُفُودِ وُفُودُ{[35247]}

ونحو من ذلك قول زهير :

أَخِي ثِقَةٍ لاَ تُهْلِكُ الخَمْرُ مَالَهُ *** وَلكِنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُه{[35248]}

قال أبو حيان : وكونُ «قَدْ » إذا دخلت على المضارع أفادت التكثير قولٌ لبعض النحاة{[35249]} ، وليس بصحيح ، وإنما التكثير مفهوم من السياق . والصحيح أن رُبَّ لتقليل الشيء أو لتقليل نظيره ، وإن فُهِمَ تكثير فمن السياق لا منها{[35250]} .

قوله : «وَيَوْمَ يُرجَعُونَ » ، في «يَوْمَ » وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به لا ظرف ، لعطفه على قوله : { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } ، أي : يعلم الذي أنتم عليه من جميع أحوالكم ، ويعلم يوم يرجعون{[35251]} ، كقوله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة }{[35252]} [ لقمان : 34 ] .

وقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ }{[35253]} [ الأعراف : 187 ] .

والثاني : أنه ظرف لشيء محذوف . قال ابن عطية : ويجوز أن يكون التقدير : والعلم الظاهر لكم أو نحو : هذا يومَ ، فيكون النصب على الظرف{[35254]} . انتهى .

وقرأ العامة «يُرْجَعُونَ » مبنياً للمفعول ، وأبو عمرو في آخرين مبنيًّا للفاعل{[35255]} ، وعلى كلتا القراءتين فيجوز وجهان :

أحدهما : أن يكون في الكلام التفات من الخطاب في قوله : { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } إلى الغيبة في قوله «يرجعون » .

والثاني : أنَّ { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } خطاب عام لكل أحد ، والضمير في «يرجعون » للمنافقين خاصة ، فلا التفات حينئذ{[35256]} .

فصل

المعنى : { يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } من الإيمان والنفاق و «قَدْ » صلة { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } يعني يوم البعث ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } من الخير والشر ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ{[35257]} عَلِيمُ } .

ختام السورة:

روي عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تنزلوا النساء الغرف ، ولا تعلموهن{[1]} الكتابة ، وعلموهن الغَزْلَ وسورة النور » {[2]} .

وروى الثعلبي عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال{[3]} : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن فيما مضى وفيما بقي »{[4]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[35245]:انظر الفخر الرازي 24/ 42 – 43.
[35246]:الكشاف 3/87.
[35247]:البيت من بحر الطويل، قاله أبو عطاء السندي، من أبيات أربعة يرثي بها يزيد بن هبيرة الفزاري. وهو في المقتصد (829)، اللسان (عهد) والبحر المحيط 6/477، الخزانة 6/539، وشرح شواهد الكشاف (35). الفناء: بكسر الفاء والمد: ساحة الدار. الوفود: الزوار وطلاب الحاجات والشاهد فيه أن (ربما) فيه للتكثير.
[35248]:البيت من بحر الطويل، قاله زهير، والشاهد فيه دخول قد على الفعل المضارع لإفادة التوكيد. وقد تقدم.
[35249]:نسبه إلى ابن هشام إلى سيبويه في المغني 1/174، مع أن عبارة سيبويه ليست صريحة في ذلك فإنه قال: (وتكون قد بمنزلة ربما. وقال الشاعر الهذلي: قد أترك القرن مصفرا أنامله كان أثوابه مجت بفرصاد كأنه قال: ربما) الكتاب 4/224. وصرح الرضي بإفادتها للتكثير فقال: (وتستعمل أيضا للتكثير في موضع التمدح كما ذكرنا في ربما قال تعالى: {قد يعلم الله المعوقين} [الأحزاب: 33]، وقال: قد أترك القرن مصفرا أنامله) شرح الكافية 2/388. وفي الخزانة: (قال ابن مالك: إطلاق سيبويه القول بأنها بمنزلة ربما موجب للتسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي. واعترضه أبو حيان فقال: لم يبين سيبويه الجهة التي فيها قد بمنزلة ربما، ولا يدل على التسوية في كلام الأحكام، بل يستدل بكلام سيبويه على نقيض ما فهمه ابن مالك، وهو أن قد بمنزلة ربما في التكثير فقط، ويدل عليه إنشاء البيت لأن الإنسان لا يفخر بما يقع منه على سبيل الندرة والقلة، وإنما يفتخر بما يقع منه على سبيل الكثرة، فيكون قد بمنزلة ربما في التكثير) 11/255.
[35250]:البحر المحيط 6/477.
[35251]:انظر تفسير ابن عطية 10/557، البحر المحيط 6/477.
[35252]:[لقمان: 34].
[35253]:[الأعراف: 187].
[35254]:تفسير ابن عطية 10/557.
[35255]:السبعة (459)، النشر 1/208 – 209.
[35256]:انظر الكشاف 3/87، البحر المحيط 6/477.
[35257]:انظر البغوي 6/154.