فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{أَلَآ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قَدۡ يَعۡلَمُ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ وَيَوۡمَ يُرۡجَعُونَ إِلَيۡهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (64)

{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { 64 ) } .

{ يرجعون إليه } يبعثون ويحشرون بين يديه ، ويوقفون ليحاسبهم ويقضي بجزائهم ويوفيهم ثواب أعمالهم .

{ فينبئكم } فيخبرهم ويوافيهم ، ويعلمهم علم اليقين .

تنبيه وتذكير بأن السماوات والأرض وما فيهن لله تعالى دون سواه ملكا وسلطانا وتدبيرا ، والخلق كله منقاد لأمره { . . والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه . . ){[2534]} { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا . لقد أحصاهم وعدهم عدا . وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ){[2535]} .

{ قد يعلم ما أنتم عليه } استيقنوا أنه عالم الغيب والشهادة يعلم سركم ونجواكم يعلم السر وأخفى ، فلا يعزب ولا يغيب عنه ما يعمل العاملون ، أو يبيت المبيتون ، و{ قد } هنا كالتي في قوله عز شأنه : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ){[2536]} { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ){[2537]} { قد نرى تقلب وجهك في السماء . . ){[2538]} كلها تفيد التحقيق وفي هذه الجملة وما بعدها تحذير وتخويف ووعيد ، كما يمكن أن تتضمن بشرى لمن اتقوا الحميد المجيد .

{ ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا } وربنا لا يضل ولا ينسى ، وكل شيء أحصاه في كتاب حفيظ ، وملائكته تنسخ وتكتب ما يقولون وما يعملون ، ثم تجد كل نفس ما عملت في مجموع صحائف علقت بالرقاب ولزقت بالأيمان والشمائل ، ثم ينادى كل منا : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ){[2539]} { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ){[2540]} .

والجملة السابقة في الآية الكريمة { يعلم ما أنتم عليه } جاءت بالخطاب وهذه : { يرجعون إليه فينبئهم } بالغيبة التفاتا وتلوينا .

{ والله بكل شيء عليم } والمعبود بحق محيط علمه بكل الأشياء { وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . . ){[2541]} ، فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا .

ختام السورة:

وبعد :

فإن السورة المباركة شرعت لنا من الدين ما يرسخ اليقين . فالمهتدي بموعظة ربه على نور ، لا تضله فتنة ، ولا يعوج به صراط ، ولهذا جاء في مفتتحها { . . . وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون } وفي أواسطها : { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين } { لقد أنزلنا آيات مبينات . . } وجاء في خواتمها : { . . كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون } .

ودلنا الله ذو الجلال في محكمها على ما تنال به الرفعة والتزكي في الأقوال والأعمال ، فما تكرر القول الرباني { أزكى } إلا في هذه السورة ، ونودي الرجال والنساء إلى رعاية العفة { وليستعفف } ، { وأن يستعففن خير لهن } ، كما وضحت السبل إلى ذلك ، فلا تسبق عين إلى موطن قد تطلع منه على عورة ، وليسبق الإذن البصر ، حتى لم ترد الكلمات الربانية الكريمة : { . . تستأنسوا } ، { استأذن } ، { . . ليستأذنكم . . } . { فليستأذنوا . . } لم ترد في غير هذه السورة .

والغض عن المحارم ، وستر الزينة والمفاتن ، عهد وثقة المولى جل وعز في هذه السورة : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم . . } { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن . . } والنهي عن إظهار النساء زينتهن لترى أو يسمع رنينها مؤكد في مواطن ثلاث من السورة المباركة : { ولا يبدين زينتهم إلا لبعولتهن . . } { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهم . . } .

وصيانة الأعراض من دنس الفاحشة وقالة السوء ، وصانا الله تعالى به في آيات متتابعات ، وحد حدودا تزجر وتطهر من زنى أو اتهم غيره بهتانا بالزنى ، وتكرر قول الله الحكيم : { يرمون } ثلاث مرات في السورة ولم يرد في غيرها .

ولأن مولانا البر الرحيم يريد أن يطهرها ويتم نعمته علينا أمر بالنكاح وقبح السفاح ، ومقته ولو كان مع الإماء : { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . . } ونادى الأولياء أن يعملوا على تزويج إخوانهم ومواليهم ذكرانا وإناثا : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله . . } .

وزادت آياتها المباركات أهل الإيمان إيمانا ، فالكبير المتعال لقاؤه حق وجزاؤه حق ، وهو المحيط بكل شيء علما ، ولقد تكرر الاسم الكريم { عليم } في هذه السورة عشر مرات .

كما علمت الأمة كيف توقر خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم في محادثته ومجالسته ومصاحبته ، والاقتداء به والتأسي بهديه : { وإن تطيعوه تهتدوا . . } { . . فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } .

وفوق ما ذكرتنا به آياتها مما أعد الله الغفور الشكور للذين أحسنوا { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب } وما ينتظر الزائغين من خزي وحسرة وبوار : { . . حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب } .

ساقت البشرى بالخلافة والتمكين والأمن للذين أخلصوا دينهم واتقوا ربهم : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . . } .

فاستبشروا أهل الصدق بالوعد الذي لا يخلف ، وأوفوا بعهد الله يوف بعهدكم ، وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون .

والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .


[2534]:سورة الزمر. من الآية 68.
[2535]:سورة مريم. الآيات 93 و94 و95
[2536]:سورة الأنعام. الآية 33.
[2537]:سورة الحجر. الآية 97.
[2538]:سورة البقرة. من الآية 144.
[2539]:سورة الإسراء. الآية 14.
[2540]:سورة الجاثية. الآية 29.
[2541]:سورة يونس. من الآية 61.