{ 5-8 } { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
لما ذكر تعالى منته على هذه الأمة ، الذين ابتعث فيهم النبي الأمي ، وما خصهم الله به من المزايا والمناقب ، التي لا يلحقهم فيها أحد وهم الأمة الأمية الذين فاقوا الأولين والآخرين ، حتى أهل الكتاب ، الذين يزعمون أنهم العلماء الربانيون والأحبار المتقدمون ، ذكر أن الذين حملهم الله التوراة من اليهود وكذا النصارى ، وأمرهم أن يتعلموها ، ويعملوا بما فيها{[1095]} ، وانهم لم يحملوها ولم يقوموا بما حملوا به ، أنهم لا فضيلة لهم ، وأن مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفارًا من كتب العلم ، فهل يستفيد ذلك الحمار من تلك الكتب التي فوق ظهره ؟ وهل يلحق به فضيلة بسبب ذلك ؟ أم حظه منها حملها فقط ؟ فهذا مثل علماء اليهود{[1096]} الذين لم يعملوا بما في التوراة ، الذي من أجله وأعظمه الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، والبشارة به ، والإيمان بما جاء به من القرآن ، فهل استفاد من هذا وصفه من التوراة إلا الخيبة والخسران وإقامة الحجة عليه ؟ فهذا المثل مطابق لأحوالهم .
بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدق رسولنا وصدق ما جاء به .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يرشدهم إلى مصالحهم ، ما دام الظلم لهم وصفًا ، والعناد لهم نعتًا .
بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله ؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل :
( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا . بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ! والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
فبنوا إسرائيل حملوا التوراة ، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة . . ( ثم لم يحملوها ) . . فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه ، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع . ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم - وكما هي في حقيقتها - لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة ، ولا أنهم فقهوا حقيقتها ، ولا أنهم عملوا بها . ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام ، وليس له منها إلا ثقلها . فهو ليس صاحبها . وليس شريكا في الغاية منها !
وهي صورة زرية بائسة ، ومثل سيئ شائن ، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة ( بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ومثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها . . كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها . والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة ، والذين يعيشون في هذا الزمان ، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين . وبخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب ، وهم لا ينهضون بما فيها . . أولئك كلهم ، كالحمار يحمل أسفارا . وهم كثيرون كثيرون ! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس . إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب .
يقول تعالى ذامًّا لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ، فلم يعملوا بها ، مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، أي : كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها ، فهو يحملها حملا حسيا{[28815]} ولا يدري ما عليه . وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه ، حفظوه لفظا ولم يفهموه{[28816]} ولا عملوا بمقتضاه ، بل أولوه وحرفوه وبدلوه ، فهم أسوأ حالا من الحمير ؛ لأن الحمار لا فهمَ له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ؛ ولهذا قال في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [ الأعراف : 179 ] وقال هاهنا : { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وقال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا ابن نُمَير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا ، والذي يقول له " أنصت " ، ليس له جمعة " {[28817]}
القول في تأويل قوله تعالى : { مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُواْ التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى ، فحملوا العمل بها ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها يقول : ثم لم يعملوا بما فيها ، وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به كَمَثَلِ الْحِمارِ يحمِلُ أسْفارا يقول : كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبا من كتب العلم ، لا ينتفع بها ، ولا يعقل ما فيها ، فكلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها ، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا فيها علم ، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، في قوله : يَحْمِلُ أسْفارا قال : يحمل كتبا لا يدري ما فيها ، ولايعقلها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْراة ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا قال : يحمل كتابا لا يدري ماذا عليه ، ولا ماذا فيه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا قال : كمثل الحمار الذي يحمل كتبا ، لا يدري ما على ظهره .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا كتبا ، والكتاب بالنبطية يسمى سِفْرا ضرب الله هذا مثلاً للذين أعطوا التوراة ثم كفروا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْراةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا والأسفار : الكتب ، فجعل الله مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يتبع ما فيه ، كمثل الحمار يحمل كتاب الله الثقيل ، لا يدري ما فيه ، ثم قال : بِئْسَ مَثَلُ القَوْم الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ . . . الاَية .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا قال : الأسفارُ : التوراة التي يحملها الحمار على ظهره ، كما تحمل المصاحف على الدواب ، كمثل الرجل يسافر فيحمل مصحفه ، قال : فلا ينتفع الحمارُ بها حين يحملها على ظهره ، كذلك لم ينتفع هؤلاء بها حين لم يعلموا بها وقد أوتوها ، كما لم ينتفع بها هذا وهي على ظهره .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس في قوله كَمَثَلِ الْحِمارِ يحْمِلُ أسْفارا يقول : كتبا . والأسفار : جمع سفر ، وهي الكتاب العظام .
وقوله : بِئْسَ مثلُ القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ يقول : بئس هذا المثل ، مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله ، يعني بأدلته وحججه واللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ يقول تعالى ذكره : والله لا يوفّق القوم الذين ظلموا أنفسهم ، فكفروا بآيات ربهم .
مثل الذين حملوا التوراة علموها وكلفوا العمل بها ثم لم يحملوها لم يعملوا بها أو لم ينتفعوا بما فيها كمثل الحمار يحمل أسفارا كتبا من العلم يتعب في حملها ولا ينتفع بها ويحمل حال والعامل فيه معنى المثل أو صفة إذ ليس المراد من الحمار معينا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله أي مثل الذين كذبوا وهم اليهود المكذبون بآيات الله الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون الذين صفة للقوم والمخصوص بالذم محذوفا والله لا يهدي القوم الظالمين .
{ الذين حملوا التوراة } هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و { حملوا } معناه : كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، فهذا كمال حمل الإنسان الأمانة ، وليس ذلك من الحمل على الظهر ، وإن كان مشتقاً منه ، وذكر تعالى أنهم { لم يحملوها } ، أي لم يطيعوا أمرها ، ويقفوا عند حدها حين كذبوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، و { التوراة } تنطق بنبوته ، فكان كل حبر لم ينتفع بما حمل كمثل حمار عليه أسفار ، فهي عنده والزبل وغير ذلك بمنزلة واحدة ، وقرأ يحيى بن يعمر : «حَمَلوا » بفتح الحاء والميم مخففة ، وقرأ المأمون العباسي : «يُحَمَّل أسفاراً » بضم الياء وفتح الحاء وشد الميم مفتوحة ، وفي مصحف ابن مسعود : «كمثل حمار » بغير تعريف ، والسفر : الكتاب المجتمع الأوراق منضودة ، ثم بين حال مثلهم وفساده بقوله تعالى : { بئس مثل القوم } .
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوماً أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاففٍ في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم ، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين .
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلاً بحال حمار يحمل أسفاراً لا حظّ له منها إلا الحَمل دون علم ولا فهم .
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطَاً بأخطاء وضلالات ومتبعاً فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها ، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها . وقال في « الكشاف » عن بعضهم : افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب . والعرب لا كتاب لهم . فأبطل الله ذلك بشَبَههم بالحمار يحمل أسفاراً .
ومعنى { حملوا } : عُهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا ، يقال : حَمَّلت فلاناً أمر كذا فاحتمله ، قال تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } سورة [ الأحزاب : 72 ] .
وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة ، بتشبيه إيكال الأمر بحمل الحِمل على ظهر الدابة ، وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفاراً تمثيلاً للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي . وهو من لطائف القرآن .
وثم } للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عُهد إليهم أعجب من تحملهم إياه . وجملة { يحمل أسفاراً } في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظاً نكرة معنى ، فصحّ في الجملة اعتبار الحاليَّة والوصف .
وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف ، ولذلك ذيل بذم حالهم { بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } .
و { بئس } فعل ذم ، أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيباً بآيات الله وهي القرآن .
و { مثل القوم } ، فاعل { بئس } . وأغنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوصصِ بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حَال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإِبهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثَل المذكور قبله في قوله : { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } . فصار إعادة لفظ المثل ثقيلاً في الكلام أكثر من ثلاث مرات . وهذا من تفننات القرآن . و { الذين كذبوا } صفة { القوم } .
وجملة { والله لا يهدي القوم الظالمين } تذييل إخباراً عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب دون نظر ، وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر .
قال في « الكشاف » : « وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث » ، أي آيات من هذه السورة : افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله : { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [ الجمعة : 6 ] . وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم ، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً ، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
"مثل الذين حملوا التوراة" يعني اليهود تحملوا العمل بما في التوراة فقرؤوها {ثم لم يحملوها} يقول: لم يعملوا بما فيها {كمثل الحمار يحمل أسفارا} يقول: كمثل الحمار يحمل كتابا لا يدري ما فيه، كذلك اليهود حين لم يعملوا بما في التوراة، فضرب الله تعالى لهم مثلا، فقال: {بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله} يعني القرآن {والله لا يهدي} إلى دينه من الضلالة {القوم الظالمين} في علمه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: مثل الذين أوتوا التوراة من اليهود والنصارى، فحملوا العمل بها" ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها "يقول: ثم لم يعملوا بما فيها، وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمروا بالإيمان به فيها واتباعه والتصديق به، "كَمَثَلِ الْحِمارِ يحمِلُ أسْفارا" يقول: كمثل الحمار يحمل على ظهره كتبا من كتب العلم، لا ينتفع بها، ولا يعقل ما فيها، فكذلك الذين أوتوا التوراة التي فيها بيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، مثلهم إذا لم ينتفعوا بما فيها، كمثل الحمار الذي يحمل أسفارا فيها علم، فهو لا يعقلها ولا ينتفع بها...
وقوله: "بِئْسَ مثلُ القَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِ اللّهِ" يقول: بئس هذا المثل، مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله، يعني بأدلته وحججه.
"واللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ" يقول تعالى ذكره: والله لا يوفّق القوم الذين ظلموا أنفسهم، فكفروا بآيات ربهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... فيه أيضا زجر للمسلمين أن يستخفوا كتاب الله وألا يعملوا بما فيه، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إنما مثلهم بالحمار لأن الحمار الذي يحمل كتب الحكمة على ظهره لا يدري بما فيها، ولا يحس بها، كمثل من يحفظ الكتاب ولا يعمل به، وعلى هذا من تلا القرآن ولم يفهم معناه وأعرض عن ذلك إعراض من لا يحتاج إليه كان هذا المثل لاحقا به. وإن من حفظه وهو طالب لمعناه وقد تقدم حفظه فليس من أهل هذا المثل... ثم قال (والله لا يهدي القوم الظالمين) يعني الذين يظلمون نفوسهم بارتكاب المعاصي لا يحكم بهدايتهم، ولا يرشدهم إلى طريق الجنة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(مثل الذين حملوا التوراة) أي: حملوا القيام بها (واستعمالها)، وهو من الحمالة وليس من الحمل أي: ضمنوا القيام بها والعمل بما فيها. وقوله: (ثم لم يحملوها) أي: ضيعوها ولم يعملوا بما فيها
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
شبه اليهود -في أنهم حملة التوراة وقرّاؤها وحفاظ ما فيها، ثم إنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها، وذلك أنّ فيها نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والبشارة به ولم يؤمنوا به- بالحمار حمل أسفاراً، أي كتباً كباراً من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب. وكل من علم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله، وبئس المثل {بِئْسَ} مثلاً {مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآيات الله} وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم...
البحث الأول: ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات؟
نقول: لوجوه؛ (منها) أنه تعالى خلق {الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} والزينة في الخيل أكثر وأظهر؛ بالنسبة إلى الركوب، وحمل الشيء عليه، وفي البغال دون، وفي الحمار دون البغال، فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال، وغيرهما من الحيوانات،
(ومنها) أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، وذلك في الحمار أظهر،
(ومنها) أن في الحمار من الذل والحقارة ما لا يكون في الغير، والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولى،
(ومنها) أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم، لكونه ذلولا، سلس القياد، لين الانقياد، يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة. وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره.
(ومنها) أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام، وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى.
.... الثالث: قال تعالى: {بئس مثل القوم} كيف وصف المثل بهذا الوصف؟
نقول: الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم، فكأنه قال: بئس القوم قوما مثلهم هكذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مثل الذين} ولما كان العلم ولا سيما الرباني يجب أن يفرح به ويرغب فيه من أيّ موصل كان، بنى للمجهول قوله وصيانة لاسمه الشريف عن أن يذكر عند العصيان: {حملوا التوراة} أي كلفوا وألزموا حمل الكتاب الذي آتاه الله لبني إسرائيل على لسان موسى عليه الصلاة والسلام بأن علمهم إياها سبحانه وكلفهم حفظ ألفاظها عن التغيير والنسيان ومعانيها عن التحريف والتلبيس وحدودها وأحكامها عن الإهمال والتضييع...
. {ثم لم يحملوها} بأن حفظوا ألفاظها ولم يعملوا بما فيها...
{كمثل} أي مثّل مَثَل {الحمار} الذي هو أبله الحيوان، فهو مثل في الغباوة، حال كونه {يحمل أسفاراً} أي كتباً من العلم كاشفة للأمور تنفع الألباء، جمع سفر، وهو الكتاب الكبير المسفر عما فيه...
{بئس مثل القوم} أي الذين لهم قوة شديدة على محاولة ما يريدونه فلم يؤتوا من عجز يعذرون به {الذين كذبوا} أي عمدوا على علم عناداً منهم وكفراً {بآيات الله} أي دلالات الملك الأعظم على رسله ولا سيما محمد صلى الله عليه وسلم وجميع ما يرضيه مثلهم فإن مثلهم قد تكفل بتعريف أنهم قد اجتمعوا مع الحمار في وصف هو الروح الباطني، وهو الضرر الصرف الذي لا نفع فيه بوجه بأنفع الأشياء، وهو ما دل على الله فضمن سعادة الدارين... {والله} أي الذي له جميع صفات الكمال لا يهديهم -هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {لا يهدي القوم} أي لا يخلق الهداية في قلوب الأقوياء الذين تعمدوا الزيغ: {الظالمين} أي الذين تعمدوا الظلم بمنابذة الهدى الذي هو البيان الذي لم يدع لبساً حتى صار الظلم لهم صفة راسخة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد ذلك يذكر ما يفيد أن اليهود قد انتهى دورهم في حمل أمانة الله؛ فلم تعد لهم قلوب تحمل هذه الأمانة التي لا تحملها إلا القلوب الحية الفاقهة المدركة الواعية المتجردة العاملة بما تحمل:
(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله! والله لا يهدي القوم الظالمين)..
فبنوا إسرائيل حملوا التوراة، وكلفوا أمانة العقيدة والشريعة.. (ثم لم يحملوها).. فحملها يبدأ بالإدراك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير وعالم الواقع. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم -وكما هي في حقيقتها- لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها. ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا ثقلها. فهو ليس صاحبها. وليس شريكا في الغاية منها!
وهي صورة زرية بائسة، ومثل سيئ شائن، ولكنها صورة معبرة عن حقيقة صادقة (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين)..
ومثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.. كل الذين حملوا أمانة العقيدة ثم لم يحملوها. والمسلمون الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء المسلمين ولا يعملون عمل المسلمين. وبخاصة أولئك الذين يقرأون القرآن والكتب، وهم لا ينهضون بما فيها.. أولئك كلهم، كالحمار يحمل أسفارا. وهم كثيرون كثيرون! فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس. إنما هي مسألة فقه وعمل بما في الكتب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوماً أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كافٍ في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين...
ومعنى {حملوا}: عُهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا...
وثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عُهد إليهم أعجب من تحملهم إياه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ضرب كتاب الله المثل للمسلمين بما وقع لبني إسرائيل، حيث أنزل الله التوراة على نبيهم موسى عليه السلام، وبدلا من أن يحافظوا عليها، ويعملوا بمقتضاها، ويتفادوا تحريفها، ضيعوا أمانتها، ولم يحملوها على الوجه المطلوب، بل حرفوها وأولوها طبقا للهوى المتبع والرأي المرغوب، وكتاب الله بذكره للتوراة وما أصابها من الإهمال، وإشارته إلى العوامل التي قضت على كثير من أحكامها بالإبطال، يريد أن يحذر المسلمين من الوقوع في نفس الغلط وارتكاب نفس الهفوة، بالنسبة للقرآن الكريم، ويريد أن يحضهم على التمسك بكتاب الله وشريعته قولا وفعلا، وعلى حمل أمانته باستمرار، وحفظه والمحافظة عليه جيلا بعد جيل، وذلك قوله تعالى: {مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بيس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين}...